إقليميات

أمريكا تريد مسح غزة لبناء مشروعها…

بقلم: زينب عدنان زراقط

نشمخُ عِزّةً في تلاحُمِ قوى محور المقاومة الذي نرى فيه الإسلام المُناصر لقضية الأُمة الفلسطينية في وصف “روح الله الإمام الخميني” (قده) في قولهِ “لو ألقى كل مسلم بدلو من ماء على إسرائيل لغرقت إسرائيل” هذا من جهة، ومن جهة أخرى نشعر بالخزي من خُذلان بُلدانٍ عربية خلعت عنها الإسلام وسقطت عُروبتها، ليتصهينوا بإغاثتهم لإسرائيل طوعاً عند إمرة الأمريكي – صاحبُ قرار العدوان على غزة – تمهيداً لبناء حُلُمه في الشرق الأوسط بإعمار “قناة بن غوريون” – التي تصل البحر الأحمر بالبحر الأبيض المتوسط من إيلات إلى عسقلان -.

فلنتعمّق إذاً بالغاية ما وراء مسح غزة من بشرها وحجرها وإخلائها وكيف كانت المواقف العربية على ضوء هذا المخطّط الذي بات أبين من ضوء الشّمس…؟!

المشروع الأمريكي/الإسرائيلي لربط البحر الأحمر بالبحر المتوسط

مشاريع الشرق الأوسط الجديد هي مخطّطات عمرها من عمر الإدارات الأمريكية المتعاقبة منذ تسعينات القرن الماضي، وما كان مُخطّطاً له في غزة، ركبه “طوفان الأقصى” في خطوةٍ مباغتة، وإنما هو مشروعٌ أمريكي كامن في المنطقة، وهو ما أعلن عنه نتنياهو بوضوح مؤخراً في الدورة 78 للجمعية العامة. ففي أواخر أيلول الماضي، وقبل بضعة أيام فقط على “طوفان الأقصى”، ألقى رئيس وزراء إسرائيل كلمة أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، تحدّث فيها عن آفاق مسلسل التطبيع مع الدول العربية، وأثره في تغيير وجه الشرق الأوسط.

عارضاً أثناء خطابه، خارطة لمناطق مكسية باللون الأخضر الداكن للبلدان العربية التي تربطها اتفاقات سلام مع إسرائيل، أو هي في طور التفاوض لتطبيع العلاقات معها منها مصر والسودان والإمارات والسعودية والبحرين والأردن، ولا نجد أدنى ذكر لدولة فلسطينية ما، إذ أفردت إسرائيل لنفسها بالخارطة، لونًا أزرق يغطي أراضي الـ 48، ثم الضفة الغربية، ثم قطاع غزّة بالكامل. وأضاف عليها خطاً أحمر واصلاً البحر الأحمر من “إيلات” إلى البحر المتوسط مروراً في “عسقلان”.

وفي إشارةٍ واضحة لهذه الخطة التي كان مُعدّاً لها قبل مُباغتة حماس العدو في ضربة “طوفان الأقصى”، أعلن رئيس الوزراء الإسرائيل “نتنياهو” أنّ “رد إسرائيل على حماس، سيُغيّر شكل الشرق الأوسط ووجه المنطقة لعقود”. ومن المنطلق نفسه كشفت مُسبقاً وسائل إعلام عبرية أن مخطط جيش الكيان الصهيوني لاجتياح قطاع غزة ليس وليد ملحمة المقاومة في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الحالي، وإنما يجري الاستعداد له منذ سنتين.

فاستغلّت الولايات المتحدة الحرب الدائرة لتحقيق مشروعها الإسرائيلي، – على الهامش ليكون معلوماً أنه لمن الجنون تصوّر أن الإسرائيلي يتمادى دون إمرة سيّده أو أنه بموقفٍ ما عصاه، فالذبح والقتل والمجازر كلّها ممهورة بالموافقة الأمريكية وكل ما يُذاع في الإعلام من وضع أمريكا في موقف الضعيف أمام الإسرائيلي… محضُ تضليل -، وبالتالي، فإنّ الغرض من الحرب على غزّة ليس تدمير سلطة “حماس” أو استرجاع الرهائن وحسب، بل محو قطاع غزّة من الخارطة، في أفق ترجمة مشروع أمريكي/إسرائيلي، يكون منطلقه إقامة قناة بن غوريون لربط البحر الأحمر بالبحر المتوسط، عبر ميناء إيلات، للتمكّن من محاصرة مجموعة “البريكس”، ومواجهة المشروع الضخم، مشروع طريق الحرير، الذي باشرت الصين في إقامته. وسيمكّنها أيضاً من بناء محور منافس سيضيّق على الصين وحلفائها بالمنطقة وخارجها، وسيضمن لها الهيمنة على عالم ضاق بمنطق الأحادية القطبية.

لذلك، فإنّ دعم الولايات المتحدة المُطلق لإسرائيل وتزويدها المكثّف إياها بالسلاح والعتاد، وحثّها لتستمر في إحراق غزّة، لا يجد تفسيره فقط في التماهي العقائدي أو السياسي بين الحليفين. إنّه الباب السالك لتصريف المشروع الأمريكي القائم على الوقوف في وجه مشاريع الصين العابرة للقارات، والتي تصل إشعاعاتها إلى سوريا وتخوم البحر المتوسط.

وهو مشروع ضخم، بتكلفة قد تصل إلى 55 مليار دولار، وصُمِّم كي يكون باتجاهين متزامنين، من البحر الأحمر إلى المتوسط، ثم من المتوسط إلى البحر الأحمر – وقد تقررت في غزة بدل حيفا بعد الاتفاق على الممر الهندي الأوروبي في حيفا -، وعلى إثرها تنخفض إيرادات مصر من 8 مليار دولار سنوياً إلى 3 مليار دولار، والـ 5 مليار دولار الفارقة هذه تذهب لصالح الكيان عبر القناة الجديدة.. إنه ممرّ بحري بامتياز، لكنه مُسند بخطوط سكك حديدية ستربط الهند بالشرق الأوسط وبأوروبا، وبخطوط شحن من وإلى السعودية والإمارات والأردن. هو نفسه ذاك الخط الأحمر الذي رسمه نتنياهو في خارطته باعتباره “ممرّ السلام”، والذي سيُمكّن من نقل البضائع والسلع بانسيابية كبيرة وفي غضون يوم أو يومين، عِوض الحاويات العابرة لقناة السويس، والتي يستغرق النقل عبرها أكثر من عشرة أيام.

فإنّ استدراج مصر للقبول بتوطين سكان غزّة سيكون تضحية مجانية بدورها الإقليمي والقومي وتفريطاً في مكانة قناة السويس، وإنما المُساومة تكون سهلة مع سُلطةٍ يكون كل مُبتغاها البقاء في عرش الحُكم حتى لو فرّط رئيس البلد بأرضه وشعبه، المهم أنه مُتشبّثٌ بكُرسيّ السلطة وحائزٌ على رضا ربيبته “أمريكا”. من هنا يتأتى السر في حماسة بعض دول المنطقة لتمويل المشروع، أما استدراج مصر للقبول بتوطين سكان غزّة، نظير بعض الإغراءات، فسيكون تضحية مجانية بدورها الإقليمي والقومي، وتفريطاً مباشراً من لدنّها في مكانة قناة السويس ضمن تيارات الملاحة البحرية العالمية.

التخاذل العربي

ولا زالَ العُربان مُمعنون بالسير خلف أمريكا وإسرائيل وعلى رأسهم النظام المصري الذي طوعاً أبقى على معبر رفح مغلقاً في وجه الفلسطينيين بينما تُحَضِّر له واشنطن مع البنك الدولي الانهيار الاقتصادي المفاجئ والكبير إذا ما رفض نقل الفلسطينيين إلى سيناء، فالذي يُحضَّر لمصر أكبَر من أن يتخيَّلَهُ العقل، وما تنوي أمريكا فعله قد يودي ببلاد الفراعنة إلى الحرب الأهلية والتقسيم.

وتأتي الإمارات التي دشّنت خط نقل بري من الإمارات والبحرين إلى “إسرائيل” مروراً بالسعودية والأردن لنقل البضائع للكيان وتصديرها منه أيضاً بعد منع جماعة أنصار الله في اليمن السفن التجارية من الوصول إلى الموانئ الإسرائيلية حتى وقف الحرب على قطاع غزة

وعلى شاكلتهم المملكة الأردنية التي لُقبت بدرع إسرائيل بوجه حركات المقاومة!! فقد كان إسقاط الأردن للطائرات المسيّرة التي تستهدف الكيان المؤقت، أقل ما يمكن وصفه به هو الخيانة العظمى، والمشاركة في جريمة سفك دماء الشعوب الفلسطينية واللبنانية والعراقية، التي تسفكها إسرائيل وأمريكا في إطار عدوانهما على قطاع غزة.

أما في المملكة العربية السعودية، هي ما تزال تغني على ليلاها، ويتغنّون بحفلاتهم الراقصة – على صدى صراخ وجع الأطفال وعويل الثكالى -. والحرب مستعرةٌ في غزة وأميرها بن سلمان الذي يؤمن بـ “حق إسرائيل في الدفاع عن النفس”.

وصولاً إلى قاعدة العديد في قطر التي تقوم في الوقت الراهن بتوسعتها بتكلفة تصل إلى 1.8 مليار دولار – وهي تُعد أكبر قاعدة عسكرية أمريكية في الشرق الأوسط – ويوجد بها مقر قيادة العمليات الجوية المشتركة ومقر قيادة القوات الخاصة ويمتد نطاق عملها من آسيا الوسطى حتى القرن الأفريقي أي أن الاحتلال الإسرائيلي يقع ضمناً.

خاتمة

حرب إبادة غزة، كلما قلنا إنها شارفت على الانتهاء، يتبيّن أنها ملحمةٌ وأن أوامر الأمريكي فيها هي التقدّم لبلوغ الهدف، قتالٌ لا خطّ رجعة فيه، “وجه الشرق الأوسط الجديد” يريد غزّة قطاعاً خالياً من الفلسطينيين، مطهّراً إثنياً ومسوّى بالأرض. يريده رقعة جغرافية “نظيفة”، لأنّ المشروع لن يكون متمحوراً حول عملية ربط بحري مسنود بربط سككي فقط، بل سيتوسّع كي يضم مُدناً نموذجيةً جديدةً وفنادق وملاهي وأسواق تجارية ومراكز اصطياف وما سواها.

اليوم محور المقاومة لا يلقي دلواً من الماء بل يلقي الصاروخ والرصاصة والمتفجرة وهي الكفيلة بإزالة إسرائيل. نحن نستطيع أن نقول جازمين وبشكل منهجي ومنطقي وعلمي، إن عملية طوفان الأقصى شكّلت النموذج العيني للحرب الشاملة التي تنهي وجود إسرائيل في المنطقة وتقتلع هذه الغدة السرطانية وحتى إننا من جانب آخر نقول إن إسرائيل قد تستخلص العبر، وقد لا تكون بحاجة للحرب الشاملة بل تسقط بالانهيار الإدراكي المعنوي، وتنهي وجودها بذاتها لأنها تخشى من المواجهة. هذا أمر بات يقينياً، يعني ما حصل في 7 أكتوبر أكد الاعتقاد الديني الراسخ بأن إسرائيل زائلة، واليوم هذا الكيان يمكن وصفه من الآن وصاعداً بالكيان الزائل حتماً.

وإنّما ما يجب استدراكهُ أن إسرائيل في المشروع الأمريكي هي الوسيلة، فوجودها من عدمه لا يقف في وجه استمرار الإجرام الأمريكي، لذلك محور المقاومة في تحدٍّ دائم ومواجهةٍ متواصلة مع إسرائيل – ربيبة الولايات المتحدة الأمريكية -، ولطالما أشار اليمني إلى عدم جرأة الأمريكي على النزول في ميدان المواجهة، فحتى متى تبقى أمريكا متواريةً عن دورها القيادي في حرب غزة ومُتستّرةً على مشروعها؟ أم تظن أنها سوف تأتي في الختام على شاكلة حمامة سلام “لإعمار غزة” من بعد أن “مسحتها” وتنشئ مشروعها وتبني “قناة بن غوريون” للإسرائيليين لا للفلسطينيين؟!.