دوليات

جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية.. “إسرائيل” مجرمة حرب

بقلم: ابتسام الشامي

في وقت يستقيل فيه النظام الرسمي العربي من أي دور أو خطوة جدية وفعالة لوقف العدوان الإسرائيلي على غزة، تذهب جنوب أفريقيا بعيداً في حمل لواء الدفاع عن أهل القطاع المحاصر وقضيتهم العادلة..

وبعد سلسلة المواقف المشرفة لرئيسها وأركان دبلوماسيتها، قررت بريتوريا، رفع مستوى الضغوط على تل أبيب، بدعوى أمام محكمة العدل الدولية، لمقاضاتها على جرائم الإبادة الجماعية التي ترتكبها بحق قطاع غزة وأهله منذ ثلاثة أشهر.

انحياز لفلسطين

باكراً أعلنت دولة جنوب أفريقيا انحيازها إلى جانب الفلسطينيين، وحق غزة وأهلها في الدفاع عن أنفسهم في مواجهة العدوان الإسرائيلي الغاشم على مدنهم ومخيماتهم. وفي ما ذهبت بعض الدول العربية والإسلامية إلى التضامن مع الكيان المؤقت، وإدانة عملية طوفان الأقصى، كان رئيس البلاد الواقعة في أقصى الطرف الجنوبي من القارة السمراء، يحمّل تل أبيب “مسؤولية التصعيد لعدم تنفيذها القرارات الدولية الخاصة بحل الدولتين”. صحيح أن “سيريل رامافوزا” انتقد ما سماه الهجوم على المدنيين الإسرائيليين صبيحة السابع من تشرين الأول الماضي، لكنه مع بداية العدوان على غزة، ارتدى الكوفية الفلسطينية تضامناً مع شعبها، وأبدى استعداد بلاده “للوساطة بين حماس وتل أبيب للتوصل إلى هدنة إنسانية تسمح بوقف الحرب، ودخول المساعدات”. ومع تصاعد حدة العدوان، أذِنَ بمختلف أشكال الدعم والتضامن مع الشعب الفلسطيني، وكان لافتاً في السياق أن أركان حكومته، تولوا بشكل مباشر تنظيم الفاعليات وإطلاق الحملات والمبادرات الداعمة. وبعد أيام قليلة فقط من إعلان جيش العدو عدوانه على غزة تحت اسم السيوف الحديدية، دعت وزيرة خارجية جنوب أفريقيا “ناليدي باندور” الحركات النقابية إلى مقاطعة المنتجات الإسرائيلية، في الوقت الذي يحتاج فيه الشعب الفلسطيني إلى الإمدادات الطبية. وحثت الملايين من مواطنيها على “القيام بدورهم بالتبرع بالمساعدات ونقلها إلى الحدود المصرية” مع غزة المحاصرة.

ولم يكن العدوان الإسرائيلي الهمجي قد بلغ شهره الثاني حتى طور الرئيس الجنوب أفريقي من مقاربته لما يجري على أرض فلسطين المحتلة، واصفاً ما يقوم به جيش العدو الإسرائيلي “بالإبادة الجماعية وجرائم الحرب”، وهو اتهام سرعان ما بنت عليه الدوائر المعنية في البلاد دعوى قضائية رفعتها أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي. وجاء في بيان صادر عن رامافوزا يشرح فيه مسوغات الدعوى “أن العقاب الجماعي للمدنيين الفلسطينيين من خلال الاستخدام غير القانوني للقوة من قبل إسرائيل يشكل جريمة حرب. ويعد الحرمان المتعمد من الدواء والوقود والغذاء والمياه لشعب غزة بمثابة إبادة جماعية”.

جنوب أفريقيا تاريخ من التضامن مع فلسطين

حملة التضامن التي أطلقتها بريتوريا مع قطاع غزة منذ بداية العدوان، ولئن كانت قياساً إلى الأداء الرسمي العربي متقدمة بأشواط عن المواقف الإنشائية الخجولة لبعض الرؤساء والحكام العرب، إلا أنها تأتي منسجمة مع دعم جنوب أفريقيا القضية الفلسطينية منذ انتهاء نظام الفصل العنصري على يد حركة التحرر الوطني الأفريقي، بزعامة نيلسون مانديلا. الرمز الأفريقي الذي سجن سبعة وعشرين عاماً لتزعمه حركة تحرير بلاده من هيمنة الأقلية البيضاء، سرعان ما التزم دعم حركات التحرر الوطني في العالم للتخلص من كافة أشكال الاستعمار. وبعد أسبوعين على خروجه إلى الضوء، التقى رئيس منظمة التحرير الفلسطينية آنذاك ياسر عرفات، وتحدث إليه عن التشابه بين نضال حزبه، ونضال منظمة التحرير. ومن دون فكرة إزالة “إسرائيل” من الوجود التي لم يتبناها، بنى مانديلا نهج بلاده السياسي في التعامل مع القضية الفلسطينية بعدما كانت جنوب أفريقيا من أوائل الدول التي اعترفت بالكيان المؤقت عام 1948 وبنت معه شراكة سياسية وعسكرية وأمنية، قبل أن يضع انتهاء نظام الفصل العنصري حداً لهذه الشراكة. ومنذ توليه الحكم عام 1994، حرص الزعيم الأفريقي على إبداء كل أشكال التضامن مع فلسطين، مردداً مقولة “حريتنا غير مكتملة من دون حرية الفلسطينيين”. ومع انتقال الحكم إلى أسلافه، ظلت بريتوريا وفية لنهج مانديلا، لم تكتف بانتقاد العدو في كل حروبه واعتداءاته على الضفة الغربية وقطاع غزة، وإنما مدت جسور التواصل مع فصائل المقاومة الفلسطينية، فزارها عام 2015 وفد من حركة حماس برئاسة رئيس مكتبها السياسي آنذاك خالد مشعل، قبل أن تنتقل إلى مستوى آخر من التعامل مع القضية الفلسطينية تمثل في تخفيض مستوى تمثيلها الدبلوماسي في الكيان المؤقت من سفارة إلى مكتب اتصال، كخطوة اعتراضية على اعتراف إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بالقدس عاصمة للكيان، نهاية عام 2017. هذه الخطوة الاعتراضية التي امتلكت جنوب أفريقيا شجاعة الإقدام عليها، أردفتها بخطوات جريئة أخرى من قبيل تبني حملات مقاطعة تل أبيب والقائمين عليها، فضلاً عن قيادة معسكر رفض قبول منحها، صفة مراقب في الاتحاد الأفريقي.

خشية إسرائيلية من المحاكمة

تطور أشكال التضامن مع القضية الفلسطينية على مدى أكثر من عقدين من الزمن، يفسر الخطوة الجريئة الإضافية التي أقدمت عليها جنوب أفريقيا ممثلة برفع دعوى أمام محكمة العدل الدولية ضد “إسرائيل” بتهمة ارتكابها جريمة الإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين في قطاع غزة، وبمعزل عن الفرص الجدية لمقاضاة العدو على جرائمه في وقت تحكم فيه الولايات المتحدة الأمريكية سيطرتها على الكثير من مفاصل النظام الدولي والمؤسسات المنبثقة عنه، يسجل لبريتوريا أنها أول من بادر إلى خطوة عملية لمقاضاة العدو على جرائمه، وهي خطوة أشعلت الأضواء الحمر في تل أبيب. صحيح أن الأخيرة استخفت بداية بالأمر إلا أنها عادت وقررت المثول أمام المحكمة، وقال متحدث باسم حكومة العدو إن “إسرائيل ستمثل أمام محكمة العدل الدولية لدحض اتهامات جنوب أفريقيا”. واصفاً الاتهام بارتكاب إبادة جماعية بالسخيف، وأضاف “نؤكد لقادة جنوب أفريقيا أن التاريخ سيحكم عليكم بلا رحمة”. وبمعزل عن المواقف التي يراد منها احتواء المحاكمة دعائياً، بدأت المؤسسة العسكرية الإسرائيلية بإبداء إشارات القلق من الملاحقات أمام المحاكم الدولية، وفي هذا الإطار، قالت صحيفة هآرتس إن “المؤسسة الأمنية والنيابة العامة في إسرائيل تخشيان أن تنسب محكمة العدل الدولية لإسرائيل جرائم إبادة جماعية في غزة”. مشيرة إلى أن أحد كبار الخبراء القانونيين الذين يتعاملون مع القضية حذر قادة الجيش من خطر إصدار أمر من محكمة العدل الدولية بوقف إطلاق النار. وبحسب الصحيفة “فإن الدعوى التي قدمتها جنوب أفريقيا وتتهم فيها إسرائيل بارتكاب جرائم إبادة جماعية هي إنذار لإسرائيل بوجود مشكلة”.

خاتمة

ليس معلوماً مآل هذه القضية أمام محكمة العدل الدولية، إلا أن إقدام جنوب أفريقيا على رفع هذه الدعوة يعد خطوة متقدمة ضد كيان العدو، بعدما كانت قد علقت علاقاتها معه بسبب العدوان على غزة، والمأمول أن تحذو الدول الأخرى حذو بريتوريا وأن تقوم بخطوات مماثلة، سواء في مقاطعة الكيان أو تحريك دعاوى ضده على خلفية جرائمه بحق غزة وأهلها.