لي وطنٌ من شهداء وأبطال وأغانٍ وقمحٍ
بقلم غسان عبد الله
بكى صاحبي لما رأى الوطنَ القلبَ تنهشُهُ المصيبات.. تنقّرُ في نبضِهِ قطعاً من ضلوعِ المنازلِ والفقراءِ فأدركَ انّا انتهينا إلى حجرٍ سوفُ نحملُهُ ـ في المنافي ـ رصيفاً لأزهارنا الذابلةْ.. يَضِيقُ بين السطورِ وأحلامنِا.
وأنَّ الندوبَ التي خلّفتها الخطوبُ على جلدِنا سوفَ تطمسُها الرياح العاتياتُ.. صحتُ: يا صاحبي في الضياعِ الكبيرِ أعنِّي على غربتي بين نفسي وبيني.. بلادنا ضيعناها.. وانتهينا.. وها أنتَ مثلي أضعتَ الدليلَ إلى نافذةِ العمر..
رأيتُ الحاكمَ بأمر المالِ وقرطةَ المفسدين يسدّونَ كلَّ المساربِ دونَ النجاة.. فآخيتُ بين الدموعِ وقلبي وقلتُ: هو الدربُ أبعد مما نظنُ.. إلى نافذة على الخلاص.
يا صاحبي.. سنضربُ في التيهِ ضربَ الرهانِ فأما نرى البحرَ – يا صاحبي – أو نموتُ معاً، غربةً وفقراً وعذاب.. في رمالِ صحاري الفسادِ الممتدةِ إلى غيابات الروح.. تنأى المنازلُ.. تنأى الحقولُ اليبيسةُ خلفَ زجاجِ الحصار المقيتِ.. وتنأى المسافاتُ بين النوافذِ والقلبِ.. حتى كأنَّ النجومَ أزاهيرُ ذابلةٌ تتساقطُ من شرفاتِ العماراتِ.. لكنكَ الآن لصْقَ الزجاجةِ.. ترقبُ موتَ الشوارعِ في فضلةِ الكأسِ.. ترقبُ موتَكَ منحشراً – كاليتامى – بطعنةِ عملةٍ خضراءَ، حاسرةَ الرأسِ، شعثاءَ.. تعثرُ بالطيِن والفقراءِ وتقفزُ فوقَ جراحكَ، كي تسبقَ الطعناتِ إليكَ، فتجفلُ.. وتصرخُ ولا صدى لصوتِك سوى لا خبزَ لكَ اليوم؟.. لا بنزين.. لا مازوت.. لا دواء.. عُد إلى الطابورِ عساكَ تظفرُ بدورٍ لكَ.
يا أيها الحاكمُ بأمركَ يا علقماً بكأسِ نشربُهُ غصباً.. مهلاً.. لن تجدَ في المدائنِ سوى لعنةٍ ستأخُذُكَ إلى عذابٍ يُصبُّ فوقَهُ مليون عذاب.
يا أيها الحظُّ العاثرُ خذني إلى أيما جهةٍ لا نرى موتَنا لصَقنا أيها العاثرُ المرُّ.. يا قلبُ.. يا صاحبي في التشتّتِ بين المنافي: البلادُ على بُعْدِ خطواتٍ من نافذتي الوحيدةِ على المساءِ بين المدائن المغلولةِ بالفساد.. والياسمينُ المعرِّشُ أسفلَ أحلامِنا يتفتَّحُ من مطرٍ أسودٍ.
ما الذي ترتجي؟ النوافذُ أوصدَها القهرُ والنائباتُ.. وتلكَ النوارسُ التي رحلتْ في غياباتِ الفضاءِ إلى شاطئها الرحبِ قصَّ العتاةُ جوانحَها فوقفتُ وحيداً، أمامَ مرايا دمي ألملمُ أطرافَ أرياشِها عن غيومي التي ثقّبتها المآسي.. تسيلُ على ورقِ العملاتِ فتغطِّيها – عجِلاً – منصّةُ العملات..
يا أخوتي في الأحزانِ ارحموا شاعراً، ضيَّعَتْهُ أمانيه.. يا أخوتي في الجنوبِ ارحموا زيتونتي كان لي ظلُّها وطناً.. كان لي ثمرُها زيتاً.. كان لي غصنُها المتطاولُ حتى تخومِ القصيدةِ منتجعاً للحنين كان لي.. كان لي..
آهِ، ما كان لي أنْ أغادرَ مرجَ الطفولةِ نحو المدينةِ.. ما كان لي أنْ أبدّلَ زقزقتي برباطِ الكتابةِ.. ما كان لي.. أنْ استعيضَ عن النهرِ.. ما كان لي، ولكنهم أوصلوني لهذا الخرابِ.. وقالوا: اكتبِ الآنَ عن شَعْرِ سيدةٍ يتناثرُ حتى تخومِ البنوكِ.. اكتبِ الآنَ عن شقةٍ لستَ تملكُ إيجارها.. ورصيفٍ تقاسَمَهُ أثرياءُ الحروبِ.
لا إنني أستميحكمُ – لحظةً – أيها المحتفونَ أمامَ القصيدة لأذرُفَ على كلِّ هذا الذي (سمّهِ أنتَ ما شئتَ يا صاحبي) لكن لي وطنٌ من شهداء وأبطالٍ وأغانٍ وقمحٍ لنْ أبدّلَهُ بدولاراتكمْ..
أستميحُ الوطنَ – لحظةً – وهو يجلسُ – كالدمعةِ – القرفصاءَ على عتبةِ العين لألملم عن شرفةِ الذاكرةِ حبالَ غسيلِ الأعرابِ تقطرُ بالدمِّ نفتحُ قمصانَ أيامنا، هكذا، للرياحِ تجفّفها ثم نمضي.. نشقُ دروبَ البلادِ بالثرثراتِ وبالدهشةِ البكرِ (تعلو المدائن والقرى.. تعلو.. وتعلو.. لا مباليةً – فوق أنقاضنا.. ما الذي نفعلُ الآنَ، أسفلَ جدرانِها؟!.. هل نبيعُ أشعارَنا ورقاً للطاولات المُفردةِ على رهانِ الأممِ على ركوعنا)؟!..
ما هكذا.. يا بلادُ.. تنسينَ أعمارنا التي سرقتْ نصفَها الحربُ.. ما هكذا، يا بلادُ تنسيَن أحزانَنا والوجوهَ التي غيّبتها الخنادقُ.. ما هكذا، يا بلادُ.. نحن طعامُ المعاركِ وأسودُ الوغى.. نحنُ حرّاسُ الكرامةِ.. نحنُ فجرُ التحريرِ.. كمْ صدحتْ في الأناشيدِ أسماؤنا.
