ما بين الهجرة إلى سيناء وافتتاح سدّ النّهضةِ.. مصر في مأزق
بقلم زينب عدنان زراقط
في الآونة الأخيرة، تصدرت وسائل الإعلام الإسرائيلية والعالمية تقارير وتحليلات تتحدث عن احتمالية اندلاع حرب بين مصر وإسرائيل، ما أثار قلقاً واسعاً في المنطقة.
هذه التقارير استندت إلى تصريحات لمسؤولين كبار مثل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ووزارة الخارجية المصرية، ما أدى إلى تصاعد التوتر الإعلامي والسياسي بين البلدين.
بينما تشهد الساحة الإقليمية حالياً تقاطعات خطيرة في ملفين شديدي الحساسية بالنسبة لمصر خصوصاً، مع تطورات الوضع في قطاع غزة، والبدء بتنفيذ خطوات جدّية مباشرة قد تفضي إلى تهجير جماعي للفلسطينيين نحو الحدود المصرية وذلك تزامُناً مع افتتاح سد النهضة الإثيوبي رسمياً… وبينما يبدو كل ملف وكأنه قضية مستقلة، فإن المؤشرات الميدانية والسياسية تكشف عن ترابط غير مباشر بينهما.
فهل افتتاح سدّ النهضة من قِبل أثيوبيا منذ بضعة أيامٍ بالتزامن مع تصعيد الخطاب الأمريكي والإسرائيلي تجاه “غزة” وتهديدها “بالفرصة الأخيرة للمغادرة” والتلويح بالتهجير جنوباً نحو “سيناء” خطةٌ مُحبكة من أجل الضغط على مصر واستنزافها من كل الجبهات؟.
التهجير جنوباً إلى سيناء
يلقى الجيش الإسرائيلي دعماً كاملاً من الولايات المتحدةِ الأمريكية، لوجستياً وعسكرياً وحماية دولية، لتنفيذ مخططٍ مشترك الغايات والأهداف. بينما لا ينفكّ الرئيس الأمريكي عن المُراوغة بشأن وقف الحرب في غزة، أمريكا هي الممول العسكري الأساسي للجيش الإسرائيلي. ولكن مؤخراً، أعلن ترامب عن إرسال “عرض أخير” إلى حركة حماس، مُعتبراً إيّاه “الفرصة الأخيرة” للنجاة، إلاَّ أنَّ هذا العرض – حتماً – لم يَلقَ قبولاً من قبل حركة حماس ورُفِض العرض، لأنه يقضي بإطلاق سراح جميع الرهائن الإسرائيليين مقابلَ وعدٍ بوقف العمليات العسكرية من بعدها، من دون أي ضمانات، وما هي إلا محاولة لسرقة الأضواء بمبادرة عقيمة. وبالتزامن مع فشل جهود الوساطة الأمريكية، تتفاقم الأزمة في قطاع غزة مع تصعيد إسرائيلي غير مسبوق، وتلميحات واضحة من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو حول نية قواته تنفيذ “إعصار ناري” ضد المدينة. دعوة سكان غزة للمغادرة الفورية نحو الحدود المصرية، واستخدام نفس الخطاب المستخدم سابقاً من دونالد ترامب “هذا هو عرضكم الأخير وتحذيركم الأخير- أمام سكان غزة فرصة أخيرة للمغادرة”، بل ذهب أبعد من ذلك، موجهاً تحذيراً مُباشراً لسكان المدينة بالرحيل نحو الجنوب، وتحديداً إلى الحدود المصرية، ما يكشف عن مخطط متكامل للتهجير القسري، تتضافر فيه الأبعاد العسكرية والسياسية والدبلوماسية.
صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية فسرت هذه التصريحات بأنها مقدمة لعملية “تسوية أرض شاملة”، حيث لم تعد إسرائيل تتحدث عن “احتلال” القطاع بل عن “مسحه”، باستخدام قنابل من طراز GBU – الأمريكية – دقيقة وغالية التكلفة، تشير إلى نية في التدمير الكامل، لا السيطرة. كما أشارت إلى أن الخطة الأمريكية – الإسرائيلية للقطاع تستند إلى تصور قديم منذ الثمانينات، يعرف بـ “ريفييرا غزة”، ويهدف لتحويل غزة إلى منطقة مفتوحة تحت وصاية دولية، يتم فيها تقليص عدد السكان الفلسطينيين بشكل جذري، مع الإبقاء على نسبة محدودة فقط للعمل في إعادة الإعمار وفق الرؤية الإسرائيلية.
المغزى من التحركات الإسرائيلية والتصريحات الأمريكية واضح، مسح ديموغرافي كامل لمدينة “غزة” وتهجير سُكانها عبر الحدود إلى شبه جزيرة سيناء – مصر. في هذا السياق، يصبح موقف مصر محورياً، القاهرة أعلنت مراراً أمام الإعلام أن التهجير من غزة نحو سيناء يمثل “خطاً أحمر”، ولكن استمرار التصعيد الإسرائيلي قد يفرض واقعاً ميدانياً ضاغطاً، يتطلب ردوداً أكثر حسماً من مجرد التحذيرات السياسية أو التلميحات الدبلوماسية. إلاَّ إذا كان ما يُقال بالعلن مُناهضاً لما يجري بالغُرف السوداء.
سدّ النهضة
في المقلبِ الآخرِ من القضيةِ، وفي مشهدٍ لافت، أعلن رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد، خلال احتفال رسمي مصحوب بالبكاء والانفعال العاطفي، عن الانتهاء من بناء سد النهضة وبدء تشغيله رسمياً بعد أكثر من 14 عاماً من الإنشاء. الحدث الذي من المفترض أن يكون لحظة فخر وطني لإثيوبيا، جاء بتمثيل دولي محدود؛ حيثُ بدا الموقف المصري متحفظاً بشكل غير معتاد، إذ لم يصدر رد حاد أو تحرك علني بعد افتتاح السد، ما دفع البعض إلى التساؤل: هل لدى مصر خطة بديلة؟، وهل تراهن القيادة على تغيرات قادمة، مثل موسم جفاف محتمل قد يُظهر آثاراً كارثية للسد ويمنح مصر ذريعة قانونية للتحرك؟. بحسب صحيفة “The Conversation”، فإن إثيوبيا حرصت طيلة السنوات الماضية على عدم إحداث ضرر مباشر لمصر، استناداً إلى مبدأ “الاستخدام المنصف والمعقول” المنصوص عليه في القانون الدولي. غير أن المحك الحقيقي سيظهر في حال وقوع جفاف، حيث ستضطر إثيوبيا لتخزين المياه لتوليد الكهرباء، مما قد يؤثر سلباً على حصة مصر المائية.
لكن الأخطر في الأمر ليس مجرد التشغيل الفعلي للسد، بل تصريحات أبي أحمد حول عزمه بناء خمسة سدود إضافية، وتأكيده أن إثيوبيا تستعد لإنشاء قوة بحرية للمشاركة في عمليات في البحر الأحمر. هذه التصريحات تأتي في وقت تشهد فيه منطقة البحر الأحمر حِصاراً تفرضهُ اليمن على السفن المتجهةِ نحو إسرائيل. ومن المهم أيضاً الإشارة إلى تصريح دونالد ترامب بأن إدارته “منعت نشوب حرب” بين مصر وإثيوبيا بشأن سد النهضة. هذا التصريح، على الرغم مما فيه من مبالغة، يكشف عن إدراك الإدارة الأمريكية السابقة لخطورة الملف، في حين تؤكد التطورات الحالية أن المسار التفاوضي قد استُنفذ، وأن إثيوبيا باتت تتصرف باعتبارها انتصرت فعلاً، وليست بصدد تقديم أي تنازلات مستقبلية.
حصار الجبهتين المثير للقلق هو تزامن هذين الملفين. فبينما تُستنزف مصر مائياً من الشرق، تُضغط جغرافياً من الشمال الشرقي. وربما هذا هو سر اختيار التوقيت، إذ يبدو أن هناك محاولة لحشر مصر بين أزمتين، بما يصعب عليها خيار الرد على كليهما في آنٍ واحد. من هنا تبرز فرضية أن مصر قد تضطر لتأجيل ردها على ملف السد لحين تأمين حدودها، أو العكس. وإذا كانت مصر لم تتخذ إجراءً عسكرياً مباشراً تجاه سد النهضة على مدار 14 عاماً، فإن الأمر مختلف هذه المرة، لأن الخطر لا يتعلق فقط بالمياه، بل بالتركيبة السكانية والجغرافية للمنطقة، وربما الأمن القومي بكامله.
في النهاية، يمكن القول إن افتتاح سد النهضة لا يمثل نهاية الملف، بل بداية مرحلة جديدة أكثر تعقيداً، تتداخل فيها عناصر الجغرافيا، الطاقة، النفوذ الإقليمي، والتحالفات العسكرية. وفي المقابل، يشير التحرك الإسرائيلي في غزة إلى أن هناك سيناريو إقليمياً متكاملاً يتم تنفيذه على أكثر من جبهة، وسط تراجع واضح للردع العربي في اللحظة الحالية. ويبقى السؤال الأهم: ما هو القرار الاستراتيجي الذي ستتخذه القاهرة؟ وكيف ستُدار المواجهة القادمة، سواء على ضفاف النيل أو على حدود سيناء؟.
