هزيمة إسرائيل ممكنة عبر بناء نظام إقليمي عربي إسلامي جديد
بقلم توفيق المديني
تكتسب منطقة الشرق الأوسط أهمية خاصة للدول الغربية الاستعمارية والإمبريالية الأمريكية، نظرا لموقعها الإستراتيجي (سواء أكان الحديث عن المنطقة بمفهومها الجغرافي التقليدي الذي يضم الدول العربية، أو بمعناها الواسع أو الجغرا/سياسي، أو الجيو/بوليتيكي، حيث يدخل في إطار هذا المعنى الدول الإسلامية الكبيرة (إيران، وتركيا وباكستان، وأفغانستان).
وعلى الرغم من الهزيمة الساحقة التي مُنِيَ بها العرب غير المستقرين وغير المنطقيين بطبعهم في حرب حزيران1967 لم تُجْبِرَهُمْ على اتباعِ المنطق والقبول بالكيان الصهيوني حسب الشروطِ التي فَرَضَهَا، بل على العكس، لقد وَلَدَّتْ الهزيمة تَحَدِّيَاتٍ أكثر وغَذَّتْ الاستنتاج بأنَّ ما أُخِذَ بِالْقُوَةِ لا يُسْتَعَادُ يَوْماً مَا إِلاَّ بِالْقُوَةِ. ولقد عاد عبد الناصر بعدما استقال وقبل الاستمرار في منصبه بعد مظاهراتٍ ضخمةٍ غير عاديةٍ لم تَشْهَدْ مصر مِثْلُهَا قَبْلاً في تاريخها الحديث. فبعد خسارتهم للحرب ما كان بِإمْكَانِ المصريين أنْ يَخْسِرُوا أيضاً عبد الناصر. وفي مؤتمر الخرطوم في آب / أغسطس 1967، قال للرؤساء العرب إنَّ مصرَ تستطيع الانتظار إلى أنْ تتمَّ استعداداتها العسكرية، وعندها سنكون قادرين على القيام بالعمل الوحيد الذي تعيه “إسرائيل” جيِدّاً وهو تحرير الأرض بالقوة. لقد خرج مؤتمر الخرطوم بِلاَءَاتِهِ الثَلاَثَةِ: لا صُلحَ لا مفاوضات ولا اعتراف، ولكنَّ ما اعتبره العالم العربي كله العزم والصمود اعْتُبِرَ في واشنطن الرفض العنيد لقبول الواقع.
واستمرت الولايات المتحدة بالحديثِ عن السلامِ ولكنَّ من دُونِ أنْ تُظْهِرَ أيَّ عَزْمٍ لدفعِ الإسرائيليين إلى تَرْكِ المناطقِ المحتلةِ حسب قرار مجلس الأمن الدولي رقم 242 وعديد القرارات الأقوى للجمعية العمومية للأمم المتحدة. وفي الواقع، مع استلام غولدا مايير رئاسة الوزارة الإسرائيلية، بعد موت ليفي أشكول، صَرَّحَتْ بعد عامين من نهاية حرب 1967 أنَّ “إسرائيل” لم تَكُنْ تحت أيِّ ضَغْطٍ من الولايات المتحدة الأمريكية للعودةِ إلى حدودها قبل الحرب.
إنَّ القضية الفلسطينية هي قضية الصراع العربي مع الإمبريالية الأمريكية، وللحركة الصهيونية في فلسطين دور وظيفي تؤديه في هذا المجال. ولذلك يجب أن يبقى الصراع دائراً، وألا يجزأ، لأن تجزئته في فلسطين، ومحاولة الفصل بين الإمبريالية الأمريكية و”إسرائيل”، قاد الحركة الفلسطينية إلى الضلال، وأضاع فلسطين، وأية محاولة لاعتبار حكومة الولايات المتحدة الأمريكية حكماً، سيقود إلى الضلال والضياع. ثم إنَّ أية محاولة لاعتبار المشكلة فلسطينية – صهيونية، سيقزم المسألة، وسيجعلها مثل مئات قضايا اللاجئين في العالم، وستطرح الحلول الإنسانية لمشكلة اللاجئين.
إنَّ “إسرائيل” كانت مصلحة إستراتيجية أمريكية بامتيازٍ ولا تزال، وستظل كذلك في منطقة الشرق الوسط. وهذا ما يؤكد أنَّ الولايات المتحدة الأمريكية لن تغير من موقفها المنحاز لـ “إسرائيل” إلا إذا أصبح العرب قادرين على تحرير أرضهم عن طريق المقاومة وبناء ذات الأمة على أسس حديثة. وكان توقيع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في سنة 2018 على وثيقةٍ تُشَرْعِنُ الاحتلال الصهيوني لهضبة الجولان المحتلة منذ العام1967، ونقل السفارة الأمريكية إلى القدس، والشراكة الأمريكية – الصهيونية في حرب الإبادة الجماعية في غزة، من أجل احتلالها، وتشريد أكثر من مليوني فلسطيني في دول اللجوء الجديدة، وإعطاء الرئيس ترامب الضوء الأخضر لقيام “إسرائيل” بعدوانها الغاشم على قطر مؤخراً لاغتيال قادة حركة حماس، تجسيداً للتحالف العضوي بين الولايات المتحدة والكيان الصهيوني في العداء المستحكم للأمة العربية والإسلامية، ويجعل من الإمبريالية الأمريكية العدوّ الرئيسي للعرب والمسلمين، بسبب الدعم اللامحدود والحماية التي تقدمها الإدارات الأمريكية المتعاقبة للكيان الصهيوني الغاصب. كما يمثل قرار ترامب الأول أعلى درجات الازدراء للشرعية الدولية، وتدميراً للقانون الدولي الذي يحمي سكان الجولان المحتل، وتشجيعاً لدول أخرى محتلة على تصعيد ضمّ الأراضي وإنشاء المستوطنات ونهب الموارد.
قمة الدوحة حافظت على النسق التقليدي للقمم العربية السابقة
لم تخرج القمة العربية الإسلامية الطارئة التي عقدت في الدوحة الاثنين 15أيلول/سبتمبر 2025، عن البيانات الختامية التي حفظها جيدّاً الجمهور العربي والإسلامي، والتي تضمنت دعوة إلى مراجعة العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية مع “إسرائيل”، والتأكيد التزام الدول العربية والإسلامية الثابت بسيادة واستقلال وأمن جميع الدول الأعضاء في جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي، والتنديد اللفظي بانتهاكات “إسرائيل” الصارخ للقانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية، والذي يكرس سياسة الإفلات من العقاب ويُضعف منظومة العدالة الدولية، ويهدد بالقضاء على النظام العالمي المبني على القواعد بما يشكل تهديداً مباشراً للأمن والسلم الإقليميين والدوليين، والدعم المطلق لدولة قطر الشقيقة وأمنها واستقرارها وسيادتها وسلامة مواطنيها، والتأكيد على أن العدوان الإسرائيلي الغاشم على دولة قطر الشقيقة، واستمرار الممارسات الإسرائيلية العدوانية، بما في ذلك جرائم الإبادة الجماعية، والتطهير العرقي، والتجويع والحصار، والأنشطة الاستيطانية والسياسية التوسعية، إنما يقوض فرص تحقيق السلام والتعايش السلمي في المنطقة ويهدد كل ما تم إنجازه على طريق إقامة علاقات طبيعية مع إسرائيل، بما في ذلك الاتفاقات القائمة والمستقبلية.
فهذا البيان الممجوج بالتنديد اللفظي، لا يغير من الواقع شيئاً في الحرب العدوانية التي تحوضها الإمبريالية الأمريكية والكيان الصهيوني، من أجل بناء النظام الشرق الأوسطي الجديد، بعد سقوط مقومات النظام الإقليمي العربي إلى قاع البئر، ووضع نهاية للأوهام العربية في تحقيق استراتيجية الأمن القومي العربي.
ويصعب التقليل من تأثير هذه التطورات والأحداث الجسام على فاعلية النظام الإقليمي العربي وتعميق مرحلة الجزر القومي وبروز الأطروحات القطرية ودون الإقليمية بل وتزايد الصراعات العربية – العربية واستخدام الساحات العربية مجالاَ لتصفية حساباتها، وارتماء كل دول الخليج العربية في أحضان الإمبريالية الأمريكية، وإقامة الاتفاقيات الإبراهيمية مع الكيان الصهيوني، ولجوء الأنظمة الخليجية إلى الحماية الأمنية الأمريكية في مواجهة الخطر الإيراني، الذي أصبح التهديد الرئيس لبقاء الأنظمة الخليجية العربية في الحكم، منذ اندلاع الثورة الإسلامية الإيرانية عام 1979، وبعد أن أصبحت إيران القوة الإقليمية الأولى التي تقود محور المقاومة ضد العدو الصهيوني في المنطقة، وتدافع عن القضية الفلسطينية، أمام الاستسلام العربي الرسمي.
غياب الفكر الاستراتيجي العربي
وسقوط الأدوار الإقليمية العربية في منطقة الشرق الأوسط
تعد منطقة الشرق الأوسط ذات أهمية بالغة للعالم العربي والإسلامي تاريخياً، وتشكل عمقا إستراتيجيا له. وترتبط به على أكثر من مستوى، نتيجة الجوار الجغرافي والتداخل البشري، وعلاقات القربى والتفاعل التاريخي والحضاري والديني.
منذ تبلور الصراع العربي- الصهيوني في المنطقة العربية، ومع صعود الحركة القومية العربية الناصرية في النصف الثاني من خمسينيات القرن العشرين، اصطدم النظام الإقليمي العربي الذي كان يقوده الزعيم الراحل عبد الناصر في مرحلة صعوده بالإستراتيجية الإسرائيلية، لا سيما في زمن الحرب الباردة، وأصبحت منطقة الشرق الأوسط بؤرة صراع تنافسي بين الإستراتيجية العربية غير الموحدة، وبين الاستراتيجية الإسرائيلية المدعومة من الدول الغربية.
طيلة زمن الحرب الباردة، ظل الشرق الأوسط محوراً مهماً للأمن القومي العربي، فمن أسباب الاهتمام المصري بأمن البحر الأحمر هو أنَّ قناة السويس التي تربط بين البحرين الأحمر والمتوسط تشكل مورداً مهماً للاقتصاد، بوصفه ممراً استراتيجياً للمواصلات البحرية الداخلية والخارجية، ولا سيما للقوى الإقليمية المهيمنة على البحر الأحمر الذي يضم دولاً عربية في معظمها.
حين كان المشروع القومي العربي متصادماً مع المشروع الإمبريالي الأمريكي والمشروع الصهيوني، كانت معظم الدول العربية والإسلامية، على اختلاف مرجعيات أنظمتها السياسية والإيديولوجية، ملتزمة بحدود متفاوتة بالاستراتيجية العربية التقليدية التي تعتبر الكيان الصهيوني دولة عدوانية توسعية قامت بصورة غير شرعية فوق أرض عربية (هي فلسطين)، وأنَّ استراتيجية “إسرائيل” ترمي في النهاية إلى السيطرة على منطقة الشرق الأوسط، بسبب غناها بالموارد النفطية والغازية، بأهميتها الحيوية، ولا سيما مدخلها الجنوبي- باب المندب، الذي يُعَدُ شرياناً حاسماً للاقتصاد العالمي، إذ تمر من هناك 52 سفينة يومياً، و4 ملايين برميل نفط عبر المضيق يومياً، ما يجعله رابع أكثر الممرات المائية ازدحاماً في العالم.
وفيما أدَّى صعود الحركة القومية العربية بزعامة عبد الناصر في مرحلة الستينيات من القرن العشرين إلى تعميق الاتجاه نحو الراديكالية اليسارية في المنطقة العربية، أدّى أيضاً الطغيان النفطي في مرحلة السبعينيات إلى انعطاف المنطقة نحو الثورة الأصولية المحافظة، فتغير بذلك مفهوم الدور العربي الإقليمي بتغير المعطيات الاستراتيجية على ساحة المنطقة، ولم يعد يدور حول المقولات التقليدية للقيادة والزعامة، وإنَّما أصبح يرتبط بقدرة المنظومة الإقليمية على التعامل الإيجابي في المجالات السياسية والاقتصادية، بوتيرة منهجية وإيقاع متصاعد، لخلق نمط للعمل المشترك يقوم على أساس تنسيق المواقف وتراكم المصالح. فمع صعود السياسية السعودية بسبب الطغيان النفطي، وتراجع دور مصر الناصرية، بات المعتقد أن القيام بدور الريادة للنظام الإقليمي العربي، لم يعد من مهمة، أو في قدرة، دولة عربية واحدة، وإنما يتطلب أن تضطلع به مجموعة من الدول العربية الرئيسة والفاعلة التي تمتلك تصوراً سياسياً مشتركاً لوظيفة المنطقة، ولدورها على ساحتها، بما يجعل من مهمتها أشبه (بالقاطرة) التي تشد النظام الإقليمي العربي، وتوجه حركته، وتحدد بوصلته، وتمثل رأس حربته.
نحو بناء نظام إقليمي عربي – إسلامي
على الرغم من أنَّه من الأهمية بمكان وجود نظام إقليمي عربي – اٍسلامي فاعل على ساحة المنطقة، ليفرض التواجد العربي والإسلامي كعنصر مؤثر في حسابات القوى الإقليمية والدولية في منطقة الشرق الأوسط، ولمواجهة دور الكيان الصهيوني الذي يسعى إلى بناء نظام إقليمي إسرائيلي، فإنَّه من الواضح أنَّ تحقيق هذا الدور بالشكل والمحتوى الجماعي المطلوب تحيطه عقبات سياسية وأمنية يمكن إيجازها فيما يلي:
1- إنَّ الدول العربية (مصر، المملكة العربية السعودية، وباقي دول الخليج، والعراق، وسوريا، والأردن، ولبنان) لا تمتلك مشروعاً سياسياَ استراتيجياً يبلور رؤيتها لمنطقة الشرق الأوسط، ويحدد أهدافها ومصالحها الجماعية على ساحتها، ويضع إطاراً واضحاً لأمنها القومي، ويضبط علاقاتها الاقليمية والدولية، ويحكم حركتها الجماعية.
بينما يتطلب الحديث عن دور إقليمي أكثر فاعلية للدول العربية عموماً ودول مجلس التعاون الخليجي خصوصاً، أن تبدأ هذه الدول العربية والخليجية بإرساء استراتيجية سياسية مشتركة ركيزتها الأساسية ضرورة المواجهة مع الكيان الصهيوني والإمبريالية الأمريكية، من خلال بناء تحالفات استراتيجية مع إيران، وباكستان، وتركيا، في المجالات العسكرية، والاقتصادية، والسياسية.
2- انقسام الآراء واختلاف المواقف التي تصل إلى حد التناقض أحياناً بين السياسات العربية نتيجة تعدد التوجهات، وتنوع الأهداف وتضارب المصالح وتباين الاهتمامات وهو ما يعتبر محصلة طبيعة لاختلاف ظروف الدول العربية سياسياً واقتصادياً واجتماعياً.
3- استهانة الدول العربية بمتطلبات المصالح العربية العليا، ومقتضيات الأمن القومي العربي، ورفضها القاطع للتنازل عن جزء من سيادتها ثمناً لمواقفها المشتركة دفاعاً عن أهدافها الجماعية الاستراتيجية وذلك في نفس الوقت الذي تقبل فيه سواء عن طيب خاطر أو إذعاناً لضغوط خارجية القيام بهذه التضحية ودفع هذا الثمن إذا ما تعلق الأمر بسياسات قوى كبرى أو بمصالح استراتيجية غربية.
4- اختلاف الرؤى بين السياسات العربية والإسلامية، حول أولويات القضايا ومصادر التهديد الأمني لمنطقة الشرق الأوسط، واتجاه التحالفات الخارجية وذلك اتصالاً باختلاف المواقع الجغرافية والتجارب التاريخية والمصالح الأمنية والاقتصادية لكل منها. ومن هنا كان تباين هذه السياسات في تقييم الأوضاع في ميدان الصراع مع الكيان الصهيوني، واختلاف انعكاساتها على مواقفها في القضايا الاستراتيجية العربية حيث يهتم البعض بأمن الخليج لدواع استراتيجية تتعلق بأمن الطاقة والنشاط الإيراني وامتداداته في هذه المنطقة. كما يختلف تقدير هذه السياسات حول مصادر التهديد على أمنها بين إسرائيل وإيران ويغلب على بعضها مشاعر الاطمئنان لمظلة الحماية الامريكية باعتبارها الضامن لاستقرارها واستمرارها، بينما يفضل البعض الآخر التوجه نحو مجموعة الممانعة تقديراً لقدرتها على تعطيل الفعل الأمريكي في المنطقة وسيلة لإثبات قوة التواجد وحفظ المصالح على ساحتها.
5- رفض الدول العربية وتباين مواقف السياسات العربية من فكرة النظام الإقليمي العربي – الإسلامي من أساسها حيث لا يرتاح بعضها إلى مخاطر هذا الدور وأعبائه، ولا يمتلك أية طموحات للقيام بها وإجراء أية مواجهات أو محدودة مع السياسة الأمريكية.
6- إنَّ السياسة الأمريكية في المنطقة وإن كانت تشجع قيام بعض الدول العربية بأدوار (جزئية) في قضايا محددة تتم بشروطها وتخضع لمواصفاتها وتنحصر في إطار الوساطة أو التهدئة أو المصالحة إلا أنها لا تبارك ظهور دور إقليمي عربي إسلامي جماعي فاعل على الساحة العربية لتقديرها أن مثل هذا الدور يستهدف توحيد المواقف وتوجيه الحركة وفق سياسة عربية منسقة ومستقلة وذات منظور موحد وهو أمر يتوجس منه الأمريكيون لاحتمال الاتجاه إلى وجهة لا تتفق مع أهدافهم في المنطقة أو تتلاءم مع تصورهم لدور “إسرائيل” فيها أو تتوافق مع تقييمهم لمعطيات توازن القوى مع طهران على ساحتها ومن هنا كان اتجاه السياسة الأمريكية إلى تشجيع الدول العربية (الصديقة) على اتخاذ مواقف مستقلة تخدم أهدافها الذاتية وحثها على نبذ أي تعاون عربي وخليجي جماعي سياسي أو أمني مع إيران، ودفعها للتعامل مع التطورات القائمة أو المستجدة في المنطقة في إطار الاستراتيجية الأمريكية للاستقطاب بين مجموعتَيْ الاعتدال المستعدة للتطبيع مع الكيان الصهيوني والتشدُّدِ.
