التقارب العربي والاعترافات الدولية بفلسطين هل تُنهي حرب “غزة”؟
بقلم زينب عدنان زراقط
عادت ذكرى السابع والعشرين من أيلول، ذكرى الخطب الجَلَل الذي حلَّ على الأمة الإسلامية، فقد مرَّ عام على رحيل شهيد الأمّة الأقدس، سماحة “السيد حسن نصر الله”، الذي قدّم روحه فداءً لفلسطين ولبنان، مضيئاً درب الصمود بدمائه الطاهرة.
في رحاب هذه الذكرى، شهد العالم حدثاً مفصلياً غير مسبوق، اعترافات رسمية بقيام الدولة الفلسطينية، وإدانة عالمية للإبادة الجماعية التي تواصل إسرائيل ارتكابها في غزة. غير أن الولايات المتحدة الأمريكية، وكعادتها، رفعت يدها بحقّ النقض “الفيتو”، وأسقطت قرار مجلس الأمن بوقف الحرب على غزة، لتبقى شريكةً صامتة في المذبحة، فوق أنقاض الشرعية الدولية.
بدأت الدول العربية تراجع اعتمادها على المظلّة الأمريكية، بعد أن تزعزع أمنها جراء تصعيد إسرائيل، لا سيما تهديد نتنياهو باستهداف أي دولة تستضيف قيادات من المقاومة، وآخرها ضرب موفد “حماس” في الدوحة. وفي هذا السياق، برزت دعوة الشيخ نعيم قاسم – أمين عام حزب الله – للسعودية لفتح صفحة جديدة في مواجهة “العدو المشترك” إسرائيل، بالتوازي مع تحركات سعودية تجاه لبنان، وتصاعد التضامن العالمي مع فلسطين.
فما هي تفاصيل دعوة حزب الله للمملكة العربية السعودية للتعاون في مواجهة العدو المشترك، إسرائيل؟ وكيف تواصل الولايات المتحدة الأمريكية دعم استمرار حرب غزة، على الرغم من الإجماع الدولي على ضرورة إنهائها؟ وإلى أي مدى تقدمت الاعترافات الدولية بدولة فلسطين عقب أحداث “طوفان الأقصى”؟.
مع تسارع التطورات الإقليمية وارتفاع وتيرة العدوان الإسرائيلي، بما في ذلك الضربة المفاجئة التي استهدفت العاصمة القطرية الدوحة، دخلت المنطقة مرحلة إعادة تموضع سياسي وأمني. وفي ظل هذا التصعيد الإسرائيلي المستمر أطلق الشيخ نعيم قاسم مبادرة سياسية في 19 سبتمبر 2025، تحت راية “سلاحنا لحماية الجميع”. دعا فيها السعودية إلى طي صفحة الماضي، قائلاً: نحن لا نحمل أي عداوة مع السعودية، بل نأمل أن تكون العلاقة متينة لمصلحة الأمة.. سلاحنا موجّه فقط نحو العدو الإسرائيلي”. هذا التصريح شكل تطوراً ناعماً في خطاب حزب الله تجاه السعودية، واعتُبر محاولة لكسر الجليد السياسي الذي دام أكثر من عقد، خصوصاً بعد التوترات التي نتجت عن دور الحزب في سوريا واليمن، وتصنيفه من قبل المملكة كمنظمة إرهابية.
كذلك ركّز الأمين العام في مبادرته على أن وحدة العالم العربي والإسلامي لا يجب أن تُفهم كخطاب عاطفي أو مجرد تمنيات سياسية، بل كضرورة استراتيجية نابعة من موازين القوى الجديدة في المنطقة. وأشار إلى أن قوة محور المقاومة، سواء في فلسطين أو لبنان أو اليمن، لا تُهدّد محيطها العربي، بل تدعمه وتعزز من موقعه. مُعتبراً أن القوة المحلية والإقليمية التي يتم بناؤها في وجه الاحتلال الإسرائيلي ستنعكس إيجابياً على دول الجوار، وتدفع نحو استعادة القرار العربي المستقل، بعيداً عن الهيمنة الغربية أو الإملاءات الدولية. المبادرة تتضمّن كذلك رفضاً صريحاً لمسار التطبيع العربي مع الاحتلال الإسرائيلي، حيث وصفه قاسم بأنه “تخلٍ عن القيم، وتواطؤ مع العدو”. ويرى أن هذا المسار يضر ليس فقط بالقضية الفلسطينية، بل أيضاً بكيانات الدول المُطبعة، ويُضعف الموقف العربي العام ويُفرغ النظام الإقليمي من أدوات الردع والمواجهة.
دعوة حزب الله تُعدّ تحوّلاً مهماً ونقطة التقاء محتملة، بينما السعودية تبدو مستعدة لإرسال إشارات إيجابية وإمكانية نشوء تفاهم أو تفاوض غير علني عبر قنوات دبلوماسية وسفراء.

قرار أمريكي باستمرار حرب غزة
جبهة الإسناد من لبنان واليمن ما تزال صامدة، فلبنان ما يزال يدفع الضريبة بالاعتداءات اليومية والاغتيالات واحتلالٍ لمواقع في الجنوب واليمن كذلك تحت النار وما يزال يُجابه. على مدار سنتين من الحرب والإسناد، العالم كله بات يدرك مظلومية الشعب الفلسطيني حيثُ عمّت التظاهرات معظم دول العالم تنديداً بالمجازر الصهيونية بحق الشعب الفلسطيني والدعوة لإنهاء هذه الحرب الإجرامية، إلاَّ أمريكا تقف في وجه كل العالم وتقولا “لا”. أمريكا لست مرات على التوالي تستخدم حق النقد الفيتو لإسقاط مشروع وقف إطلاق النار في غزة. ست مرات توافق الدول الأعضاء في الأمم المتحدةِ لإنهاء الحرب في غزة ما عدا أمريكا تُجهض حُكمَ التنفيذ. آخرها في 18 سبتمبر 2025، حيث استخدمت الولايات المتحدة الفيتو مرة لمنع قرار يدعو إلى وقف فوري وغير مشروط للحرب، مع إطلاق الرهائن ورفع القيود على المساعدات. رفعت المندوبة الأمريكية مورجان أورتاغوس قائلةً إن القرار “يفشل في إدانة حماس أو الاعتراف بحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”، وإنه “يدعم سرديات خاطئة تفيد حماس”.
فشل تمرير القرار على الرغم من تأييد واسع يُثبت أن الفيتو يعطّل أحد أهم أجهزة الأمم المتحدة. مع كل فيتو، تتعرض واشنطن لانتقادات دولية واسعة، حتى من حلفائها، باعتبار أن المقعد الدائم لا يُستخدم لحماية الأخيار فقط، بل أيضاً لحماية السياسات الحليفة. عزلة سياسية للولايات المتحدة وقوف واشنطن وحدها ضد 14 دولة يكشف تناقضاً بين خطابها حول “القيم الإنسانية” وممارساتها السياسية.
وفي موقفٍ مشابه مثير للجدل وإمعاناً في الغطرسة الأمريكية، ما قاله ترامب في خطاب أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في 23 سبتمبر 2025، حيث ادّعى إنه “أوقف سبع حروب في فترة قصيرة”، مع أنه وصفها بأنها حروب يُقال إنها غير قابلة للانتهاء.. وذكر أيضاً “الجميع يقول إنني ينبغي أن أحصل على جائزة نوبل للسلام من أجل هذه الإنجازات”. ما استدعى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن ينتقده قائلاً “إذا كان ترامب فعلاً يريد جائزة نوبل من الناحية الأخلاقية والسياسية، فعليه أولاً أن يوقف الحرب في غزة”.
هذه الحادثة تعيد فتح النقاش القديم المتجدد حول إصلاح مجلس الأمن، وخصوصاً:
1- هل من المنطقي أن تمتلك دولة واحدة صلاحية إجهاض قرار يحظى بتأييد شبه إجماعي؟.
2- كيف يمكن حماية المدنيين في حالات النزاع عندما يستخدم الفيتو لحماية الحلفاء العسكريين؟.
3- أين دور “المجتمع الدولي” عندما يُسحق القانون الدولي تحت وطأة التحالفات السياسية؟.
اعتراف عالمي بدولة فلسطين
مع استمرار الاحتلال الإسرائيلي وتعثر مفاوضات السلام، يتعاظم الزخم الدولي الداعم للاعتراف بدولة فلسطين. ومع حلول سبتمبر 2025، اتخذت دول غربية كبرى خطوات غير مسبوقة بالانضمام إلى غالبية دول العالم في الاعتراف الرسمي بفلسطين. هذا الاعتراف لا يُعد تطوراً رمزياً فحسب، بل يمثل تحوّلاً في مواقف القوى التقليدية التي لطالما ربطت الاعتراف بالتوصل إلى اتفاق سياسي نهائي.
التغير الحقيقي بدأ مع “طوفان الأقصى” في أعقاب الحرب الإسرائيلية على غزة في أكتوبر 2023 ولم تنتهِ بعد، وما نتجَ عنها من إبادة جماعية. أمام هذا المشهد الكارثي، تصاعدت الأصوات الحقوقية والإعلامية في الغرب، مطالبة حكوماتها بإعادة تقييم موقفها. الضغط الشعبي، إلى جانب الفشل المستمر في تحريك العملية السياسية، دفع الكثير من الدول إلى الاعتراف بأن الاستمرار في تأجيل الاعتراف بدولة فلسطين يُسهِم في إدامة الاحتلال والتمييز، لا في دعم السلام. وهكذا، بدأت الدول الغربية تتخذ خطوات اعتراف رسمي، تراوحت بين فتح سفارات فلسطينية، أو إصدار بيانات رسمية باسم الحكومة، أو تصويت برلماناتها لدعم الاعتراف.
حتى سبتمبر 2025، بلغ عدد الدول التي تعترف رسميّاً بدولة فلسطين 157 دولة من أصل 193 عضواً في الأمم المتحدة، أي ما يعادل نحو 81% من أعضاء المنظمة الدولية. وبينما كان الاعتراف بفلسطين يقتصر لسنوات طويلة على الدول العربية، والإسلامية، وأغلب دول الجنوب، فقد شكّل الاعتراف الأخير من عدة دول غربية كبرى لحظة دبلوماسية فارقة في سياق الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي. حيثُ أعلنت كلٌّ من المملكة المتحدة، كندا، أستراليا، فرنسا، بلجيكا، لوكسمبورغ، البرتغال، مالطا، موناكو، وأندورا خلال شهر سبتمبر 2025 اعترافها الرسمي بدولة فلسطين، بالتزامن مع جلسات الدورة الـ 80 للجمعية العامة للأمم المتحدة.
تفاوتت دوافع هذه الدول في الإعلان، لكنها اشتركت في الخلفيات العامة: تفاقم الأوضاع الإنسانية في غزة، تصاعد الضغوط الداخلية والخارجية على حكوماتها، وتزايد الانتقادات لغياب موقف واضح من الجرائم والانتهاكات المستمرة ضد المدنيين الفلسطينيين. كما عبّر قادة بعض هذه الدول عن قناعة متزايدة بأن الاعتراف بفلسطين لم يعد “ورقة تفاوضية”، بل هو “حق قانوني وإنساني” ينبغي تثبيته دولياً.
وعلى الرغم من الطابع الرمزي لبعض هذه الاعترافات، إلا أنها شكّلت ضغطاً دبلوماسياً واضحاً على إسرائيل والولايات المتحدة، حيث بدا أن تحالفات واشنطن التقليدية لم تعد تصطف معها في موقفها الرافض للاعتراف بدولة فلسطين قبل التوصل إلى اتفاق نهائي. هذا التحوّل الغربي، وإن جاء متأخراً، يعكس تغيراً في مزاج الرأي العام والسياسات الخارجية، ويمنح الفلسطينيين دفعة إضافية في مسعاهم لنيل حقوقهم المشروعة عبر الوسائل القانونية والدبلوماسية، بعد أن طال أمد الاحتلال واستمر الجمود السياسي لعقود.
كلمة أخيرة في الذكرى الأولى لاستشهاد القائد السيد حسن نصر الله، وتحت شعار الوفاء للدماء الزكية: “إنّا على العهد”، نستحضر قوله الواثق: “حتماً سننتصر”.
تتزايد اليوم مؤشرات التحول في موازين القوى على المستويين الإقليمي والدولي. فكلما تعمّقت عزلة الولايات المتحدة وإسرائيل في المحافل الدولية، واتضحت جرائمهما في غزة، ازداد التأييد العالمي للقضية الفلسطينية وتوسّعت رقعة التضامن الشعبي والرسمي معها. في المقابل، تبدو الساحة السياسية الإسرائيلية في حالة اضطراب شديد، وسط تصاعد التوقعات بإمكانية إقصاء رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو عن الحكم، في حال استمرار الحرب حتى موعد انتخابات الكنيست المرتقبة في أواخر أكتوبر المقبل.
وعلى الجانب الآخر من الأطلسي، يواجه الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب ضغوطاً قانونية متصاعدة على خلفية قضايا أخلاقية وإباحية مرتبطة بملف “جيفري إبستاين”، بعد أن تم ذكر اسمه في تقارير صحيفتي The Wall Street Journal وThe New York Times. وعلى الرغم من لجوئه إلى القضاء لمقاضاة المؤسستين الإعلاميتين، فإن الملفات ما تزال مفتوحة، وقد تُشكل تهديداً مباشراً لمستقبله السياسي.
في ضوء هذه المتغيرات، تبرز تساؤلات مشروعة: هل نحن على أعتاب تحوّل سياسي كبير قد يُفضي إلى إقصاء كل من نتنياهو وترامب؟ وهل يُمهّد هذا التغيير لمرحلة جديدة من الانفتاح العربي – الإقليمي، وتعاظم نفوذ قوى محور المقاومة في معادلة ما بعد الحرب على غزة؟.
