هامش ثقافي

التمايز الثقافي.. والمجتمع الممكن

بقلم غسان عبد الله

وفضلاً عن ذلك، فإن هذه المطالب، والمدى الذي يتمّ فيه فرض الضوابط علينا – أو من ناحية أخرى استمالتنا – من أجل قبولها، تتباين إلى حدّ كبير في شدّتها وإصرارها حدّ أننا مضطرون باستمرار إلى تقسيم المطالب التي تتطلب الأولوية. وفي الكثير منها نجد أنفسنا أمام خيار ضئيل أو لا يتاح لنا الخيار أصلاً؛ فالجنس، العنصر، القومية كلها تُمنح لنا عند الولادة ونغفل الأوامر التي تفرضها علينا عند الخطر.

ويبقى الاختلاف الثقافي لغزاً، شيئاً يفصلنا مرة أخرى عن الحيوانات الأخرى. فكيف نفسره؟ تبدو الأنواع عموماً متجانسة الخواص؛ فهي لا تنفصل إلى جماعات مختلفة توطد علاقة عدوانية مع بعضها. فإن صح القول إن الكلاب، مثلاً، هي أنواع أكثر تلوناً من البشر، لكنها تبقى مع ذلك غير متباينة من حيث سلوك النوع الحيواني الممثل لها. أما البشر فهم أنواع لا سكونية باستمرار، تسعى وراء توسيع مجالها وبناء أنماط ثقافية مختلفة أينما ذهبتْ، وتجدهم، في كل مجتمع يشكِّلونه، يُنشئون معايير حكم مختلفة قد لا تتماشى مع معايير المجتمعات الأخرى، المجاورة.

لماذا يؤدي انتشار البشر إلى إنشاء الكثير من الثقافات المختلفة المتمايزة بمثل هذه الطرق الصارمة؟ ولمَ يحتاج البشر إلى الانتماء إلى مجتمعات أصلاً، أو التماهي مع كيانات مثل القبائل والقوميات؟.

إن التمعن في الثقافة هنا مرة أخرى يقود إلى الشك في أهمية العوامل الوراثية في بنائنا، لأننا، إذا كنا محدَّدين وراثياً، ينبغي عندئذ أن تسلك الثقافات كلّها المسار نفسه. ومع ذلك ليست هذه قضيتنا أصلاً؛ فالعوامل الوراثية تعمل، بوضوح، بطريقة تؤثر في تطلعات مختلف الجماعات الثقافية وافتراضاتها بطرق مختلفة. وإن الرغبة بالتمايز تعدّ جوهرية بالنسبة لطبيعة البشر، فنحن نعرّف أنفسنا ليس بما نحن عليه بل بما نحن لسنا عليه. وتعدّ الحركة المزدوجة ضرورية لفعل ذلك: فعلينا أن نرسّخ أنفسنا بوصفنا كينونات اجتماعية مع التأكيد في الوقت نفسه على إحساسنا بأننا كيان فردي منفصل عن المجتمع، وإن كان معتمداً عليه.

وبالقدر الذي ينبغي علينا فيه أن نتلاءم مع حاجات المجتمع، فإننا نحتاج إلى ترسيخ الإحساس بكينوناتنا بوصفنا أفراداً، ضمن حقنا الشخصي لكن أيضاً بما يتعلق بالتشكلات الثقافية المختلفة التي نعدّ نحن جزءاً منها أو نسعى لأن نكون جزءاً منها. فالفرادة حاسمة وترتكز على حقيقة أننا نريد أن نكون مثل الآخرين مع الرغبة في الوقت نفسه بأن نكون مختلفين عنهم، أي أن نتلاءم مع جماعتنا وأن نكون في الوقت نفسه متميزين عنها لنشعر أننا موجودون بوصفنا أفراداً بحكم حقنا الشخصي.

لكلّ واحد منا حاجة إلى توكيد هويته بوصفه فرداً منفصلاً إلى ذاته، متمايزاً عن الآخرين كلهم، لكننا مع ذلك نرغب بالانتماء، بأن نحظى بقبول الآخرين واحترامهم. ويتطلب هذا الدافع المزدوج – عند أساس توكيدنا لهويتنا – أن نتحرك داخل وخارج مختلف التشكُّلات الثقافية في لحظات معينة وفي أماكن معينة لنؤسس علاقات معقدة ومختلفة تخدم إحساسنا بذاتنا، وبالانتماء. ولتقصي ذلك، نحتاج إلى التمعن من جديد بالعلاقة بين ذاتنا والآخرين؛ العلاقة المتأصلة في صيرورتنا بوصفنا بشراً، والتي تتغذى أيضاً [تغذية مرتدة] على الطريقة التي يتطور بها المجتمع نفسه. وإن مدخلنا إلى الثقافة يتطلب منا أن نخرج ذاتيتنا إلى الخارج.

إن الرغبة، بوصفها التوق إلى الاعتراف والحب، لا يمكن إشباعها إلا من خلال التجريد الذي نرسخ في التفاعل مع “الآخر”؛ رغبة تتخذ شكلها من الرغبة بأن تكون مرغوباً من “الآخر” وكذلك في الوقت نفسه من الذات التي تشكل رغبتها الخاصة بوصفها إسقاطاً على “الآخر”. ولهذا السبب يكون هذا التماهي الرئيس متشكلاً نتيجة العلاقة مع “الآخر” الذي تكون هويته إزاء الذات متشكلة هي الأخرى داخل شبكة الدوال التي تتم صياغتها في اللغة.

ومثلما أن سيرورة تشكُّل الهوية تتطلب من الذات أن تتشكل بوصفها سياجاً منفصلاً عن الكينونات الأخرى بصفات جوهرية مميزة – سواء أكانت فطرية أو مكتسبة – لهذا فإنها تبدي فعلها، بالتساوي، على العوامل العنصرية والجنسية، فضلاً عن القومية أو الطبقية.

ويعدُّ مفهوم الفرد غير قابل للانفصال عن التداعيات التي إما يؤسسها أو التي يفشل أو يعجز عن تأسيسها، ومثل هذه التداعيات تكشف مسارات تَفْتَحُنا على عوالم ثقافية معينة في حين تُغلِقنا على عوالم أخرى. وتقترن هذه السيرورة أيضاً بعنصر أساس لدخولنا إلى “التاريخ” وإلى “الزمن” وإلى “المجتمع” كما تزودنا بمعيار نستطيع من خلاله فهم هويتنا الاجتماعية وتثبيت هويتنا الفردية داخلها.

ما يهمنا هنا هو الطريقة التي ننغمر فيها – منذ لحظة ولادتنا، حينما نندمج بما هو خارجي عنها – في رحلة ستقودنا إلى تكوين هوية على أساس عصبي (بمعنى أنها تعتمد على جذب أفكار متناقضة). وبينما يتعلم الطفل التكيُّف مع ما يحيط به، فإنه يحاول ترسيخ إحساسٍ بالألفة من خلاله يستطيع التمتع بوهم الأمن. إلا أن هذا لا يرضينا ونرغب – إلى حد كبير أو قليل – بكسر أواصر مثل هذا الضمان. إن الفرد ليس كياناً مكبلاً حراً بالتصرف متى شاء، بل هو عنصر فاعل مطلوب لقبول طرق معينة داخل ثقافة ما والمشاركة بها. وهذه السيرورة نفسها فاعلة: فالثقافة لا تسعى إلى ترك بصمتها على الفرد من خلال متطلباتها، بل تشكل فرداً سيعيد خواصه نفسها إلى الثقافة ما يغنيها بإسهامه. وهذا يستدعي تدخُّل كلّ فرد في حياة الآخرين، وهذا التدخل هو ما يجعل المجتمع ممكناً.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *