فضاءات فكرية

تحدّي الحداثة العربيّة في مواقعِ الاختبار العملي تشريحُ الجذورِ واستشرافُ المستقبل

بقلم: نبيل علي صالح / كاتب وباحث سوري

وهذا ما يطرح تساؤلاً جوهرياً: هل يكفي أن نقتدي بالحداثة الغربية في إطارها الشكلي العام، أم أن المطلوب هو الانغماس في تفاصيلها الفكرية والثقافية، والارتهان لانتظاماتها الذاتية، مع فهم المناخ التاريخي والاجتماعي الذي أفرزها وأنجزها؟!..

في الواقع، تمثل مسألة الحداثة في العالم العربي أحد أكثر الملفات إلحاحاً وإشكالية في فكرنا العربي والإسلامي المعاصر. فهي ليست ترفاً فكرياً أو موضة عابرة، بل هي مسألة وجود تتعلق بقدرة المجتمعات العربية على التكيف مع العصر، وامتلاك أدواته، والمشاركة في صنع مستقبله، دون أن يعني ذلك ذوبان هويتها أو تنازلها عن ثوابتها.. إلا أن الطريق نحو حداثة عربية إسلامية أصيلة محفوف بكثير من الهواجس والإشكاليات والتحديات التي تتجاوز الجانب التقني والمادي لتصل إلى صميم البنية الفكرية والثقافية للمجتمعات العربية.

نشأت الحداثة في الغرب من رحم صراع مرير وممتد بين الفكر الكنسي التقليدي الذي كان يدير حركة المجتمعات في القرون الوسطة الغربية، وبين تيارات العقل والتنوير، وهو كان صراعاً مكلفاً، جعل مجتمعاتهم تدفع أثماناً باهظة من الدماء والجهود حتى تمكنوا من بناء أنظمة حياتية دنيوية.. وهذا من نتائج ما أسفر عنه ذلك الصراع التاريخي، حيث تسيّدت في النهاية قيم العقلانية والعلمانية، وفصل الدين عن الحياة العامة، مما أتاح للغرب أن يبني نموذجه الحضاري القائم على العلم والعقل والنسبية الأخلاقية.

أما في عالمنا العربي المشبع حتى الثمالة بقيم التاريخ ومرجعياته ما قبل وطنية، فلا تزال هناك عوائق فكرية وسياسية تحول دون الاستفادة الحقيقية من هذا المشروع الحضاري للغرب الحديث في بعض معانيها ونماذجها المفيدة والمثمرة لبناء دول مؤسسية قوية وقادرة. فالخلط لا يزال قائماً بين الحداثة كمظهر مادي – يتجلّى في العمارة والاستهلاك الفارغ – وبينها كمنظومة فكرية قائمة على مرجعية العقل والعلم والمساءلة النقدية.. إذ أن الكثير يعتقدون أن تبنّي القشور كافٍ، بينما يتم رفض الفكر الذي أنتج تلك الحداثة وأسس لها.

لكن الحقيقة أن الحداثة الحقيقية ليست مجرد مظاهر استهلاكية أو معمارية، بل هي ثقافة عقلانية تحرر الفكر من وصاية وهيمنة مرجعيات مفارِقة، وتتبنى مناهج الفلسفة والعلم في فهم العالم وتطويره وازدهار إنسانه ومجتمعاته. وهي لم تنتج أو تثمر في الغرب إلا بعد سلسلة طويلة من الثورات الفكرية والعلمية، بما يعني أن هذا المسار طويل، ولا يمكن للمجتمعات العربية أن تتجاوزه أو تشتريه جاهزاً، بل دونه عمل ومثابرة وتراكمات نهضوية علمية وعقلية كثيرة.. حيث أن طريق النهضة العربية يبدأ من الداخل، عبر إصلاح فكري وثقافي طويل الأمد، يقوم على نقد التراث والاجتهاد العلمي في فهم الدين، وإعادة السياسة إلى المجتمع، وإشراك الناس في صنع القرار، بعيداً عن العصبيات المذهبية والطائفية. كما يجب الاعتراف بأن جزءاً كبيراً من أزماتنا يعود إلى أسباب داخلية، وليس إلى المؤامرات الخارجية وحدها، فضعفنا البنيوي وانغلاقنا الذاتي وسوء إدارة النخب كلها عوامل ساهمت في تفاقم الأزمات.

ولا ينبغي لنا – في هذا السياق – إلقاءَ اللوم كله على الغرب، وإن كان قد استغل نقاط ضعفنا لصالحه. لكن المشكلة الأعمق هي أننا أصبحنا مشغولين بما يريده الآخرون أكثر مما نهتم بما نريده نحن لأنفسنا. ففي كل أزمة عالمية، ننشغل بتحليل ردود فعل الدول الكبرى، بينما نغفل عن التخطيط الجاد لمواجهة التحديات التي تهددنا.

وأخيراً، يمكن تحديد أسس البناء الفكري للحداثة الغربية في المعايير التالية:

– تقديم العقل على النص، والتفكير النقدي على التسليم (الأولوية للعقل).

– التحول من مفهوم الحق الثابت إلى فكرة القانون المتطور (تغير معنى الحق والقانون).

– الاعتراف بالفرد كقيمة عليا، حراً ومسؤولاً، لا سلطة عليه إلا قانون الدولة المؤسسي (مركزية الفرد الحر).

– تبني الديمقراطية السياسية والتداول السلمي للسلطة، في ظل حكم القانون ودولة المؤسسات (الديمقراطية التشاركية).

وهذه هي معايير الحداثة الغربية التي تحتاج لتشريح باعتبارها النموذج، من أجل فهم آلياته المحركة.. وبالتفصيل:

1.  أولوية العقل على النقل:

لم يعد النقل (النص المقدس أو التراثي) هو المصدرُ الوحيد أو الأعلى للمعرفة الإنسانية في الشؤون الدنيوية الحياتية.. حيث أصبح العقل البشري -بمناهجه التجريبية والعلمية والنقدية- هو الحكم الأعلى في كل ما يتصل بالعالم الطبيعي والاجتماعي فيما يتعلق على الخصوص بحركة الإنسان في علاقاته وآليات تعامله وسبل وصوله لشؤونه وتدبير مواقع حياته.. وهذا لا يعني طبعاً إلغاء الدين وقيمته كمعنى وغاية حاكمة، بل يعني –بحسب الحداثة الغربية- حصره في مجاله الروحي والأخلاقي الشخصي، وإخراجه من مجال إدارة الدولة والمجتمع والعلوم. وهذا ما حصل في الغرب منذ قرون، وبات له مجرد حضور رمزي معنوي غير مؤثر.

2.  تغير معنى الحق والقانون:

تحول مفهوم “الحق” من كونه أمراً ثابتاً ومطلقاً مستمداً من سلطة عليا (دينية أو إلهية) إلى مفهوم متطور تاريخياً واجتماعياً. فالقانون لم يعد تشريعاً إلهياً مقدساً، بل أصبح عقداً اجتماعياً بشرياً قابلاً للتعديل والتطوير ليتلاءم مع حاجات المجتمع المتغيرة. أصبحت السيادة للشعب، وهو مصدر السلطات.

3.  مركزية الفرد الحر المختار:

أصبح الفرد لا الجماعة أو الطائفة أو العشيرة، هو اللبنة الأساسية في المجتمع. وهو فرد حر، ذو حقوق غير قابلة للتصرف، يتمتع بالإرادة والاختيار. لا وصاية عليه إلا وصاية القانون الذي وضعه البشر بأنفسهم لتنظيم حياتهم المشتركة، مما يحميه من استبداد أية سلطة أخرى، سواء كانت دينية أو سياسية أو قبلية.

4.  الديمقراطية التشاركية ودولة المؤسسات:

السلطة لم تعد ملكاً لفرد أو لعائلة أو لفئة، بل هي أمانة لدى الشعب. يتم التداول عليها سلمياً عبر صناديق الاقتراع. الدولة هي دولة مؤسسات وقانون، حيث يحكم الدستور والقضاء المستقل، وليس الأهواء الشخصية للحاكم. تضمن هذه الآليات استقرار المجتمع وتمنع انهياره عند تغير الأشخاص.

هذه المعايير الأربعة تشكل نواة “عقلية الحداثة” التي يجب نقاشها وتمحيصها، وليس فقط تقليد مظاهرها المادية.

أما عن حداثتنا العربي الإسلامية التي نتطلع إليها، فهي لا بد أن تتحقق في سياقاتنا القائمة على تكامل الروح والمعنى والغاية.. لتكون حداثة عربية أصيلة.. ولكن دونها معارك إصلاح طويلة جداً كما قلنا..

وإذا ما كانت الحداثة الغربية جاءت تراكمية ونتاجاً لصراع تاريخي طويل، فإن الحداثة العربية لن تُهدى إلينا على طبق من ذهب. إنها جزء من معركة إصلاح شاملة وطويلة الأمد، تتطلب جرأة فكرية ونفسية غير مسبوقة. ويجب أن تقوم هذه المعركة على عدة جبهات متوازية:

1- معركة اجتهاد الدين ونقد التراث:

ليست هي معركة مباشرة ضد الدين، بل هي معركة من أجل فهم عقلاني ومعاصر له بعيد عن جمود قرون طويلة من تراكمات التاريخ.. أي هي عملية “تنقية” مستمرة تفرق بين جوهر الدين الثابت (القيم الروحية والأخلاقية الكبرى) والمتغيرات التاريخية التي صِيغ فيها (الفقه، التفاسير، النظم الاجتماعية القديمة).. وهذا ما يتطلب إحياء فريضة الاجتهاد وفتح باب النقد الجريء والشجاع للتراث وذلك لفهمه في سياقه التاريخي، وليس كمسلّمات صالحة لكل زمان ومكان..

2- معركة بناء العقلانية الفلسفية:

لا حداثة بدون فلسفة.. الفلسفة هي التي تزود العقل بأدوات النقد والتحليل والتساؤل. بما يعني ضرورة إعادة الفلسفة إلى مناهج التعليم ومنصات الحوار العام، لتعويد الأجيال وتدريبها على التفكير النقدي، ورفض اليقينيات المطلقة، وتقبل الرأي الآخر.

3- معركة الدولة المدنية الحديثة:

وهذه ضرورة سياسية اجتماعية، تتطلب إعادة السياسة إلى حضن المجتمع. حيث أن بناء دولة المؤسسات والقانون هو الذي يحمي حقوق جميع مواطنيها بالتساوي، بغض النظر عن دينهم أو طائفتهم أو عرقهم أو جنسهم. دولة يكون فيها الدستور هو الناظم والمعيار، وهو المرجعية العليا، ويتم فيها التداول السلمي للسلطة، وتكون فيها السيادة للشعب وحده.

4- معركة تحرير الفرد:

تحرير الفرد العربي من كل أشكال الوصاية غير القانونية، سواء كانت وصاية العائلة المتسلطة، أو الطائفة المتعصبة، أو العشيرة المقيدة، أو النظام السياسي المستبد، وتعزيز قيم الحرية الفردية والمسؤولية الشخصية، وترسيخ مفهوم أن الفرد هو صانع مصيره ومحور عملية التنمية.

الحداثة كخيار وجودي:

إن الحداثة العربية ليست خياراً بين الأصالة والمعاصرة، بل هي ضرورة حيوية، وعملية تأصيل للمعاصرة وتحديث للأصالة.. هي ليست استنساخاً للنموذج الغربي الذي استحال مركزية غربية متعصبة وعنصرية فاقدة للمعنى الوجودي، بل هي عملية إبداعية خاصة تنطلق من واقعنا وتاريخنا لتنتج حداثتها الخاصة التي تحترم عالمية المعرفة وخصوصية الهوية.

إنها رحلة شاقة وطويلة تتطلب الصبر والشجاعة والحكمة والوعي المسؤول.. رحلة لن يكفي فيها الحديث عن “العدو الخارجي” كشماعة نعلق عليها إخفاقاتنا وفشلنا في إدارة شؤوننا.. إنها تتطلب – أولاً وقبل كل شيء – مراجعة نقدية جريئة للذات، والاعتراف بأن جزءاً كبيراً من أزمتنا هو من صنع أيادينا، وبالتالي فإن حله ومعالجته يجب أن يبدأ من داخل ذواتنا. من نقد نسيجنا وتغييرنا لعقليتنا.. فلقد آن الأوان لنتوقف عن البكاء على الأطلال، ونبدأ في البناء، حجراً حجراً، عقلاً عقلاً، نحو حداثة عربية لا تنكر ماضيها، ولكنها لا تعيش فيه، وتتطلع إلى مستقبل يصنعه أبناؤها أحراراً، مفكرين، وفاعلين، ومنتجين..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *