وقف إطلاق النار في غزة.. هدنة مشروطة أم فخ استراتيجي؟
بقلم زينب عدنان زراقط
منذ بداية العدوان الإسرائيلي على غزة، ظل مصطلح “وقف إطلاق النار” يتردد في الإعلام السياسي الغربي والعربي على حد سواء، وكأنه مخرج واقعي للأزمة. غير أن الواقع الميداني يكشف صورة مختلفة تماماً؛ إذ لا يمكن توصيف ما يحدث في غزة بأنه وقف حقيقي لإطلاق النار، بقدر ما هو هدنة شكلية تُستخدم كغطاء مؤقت لاستمرار جرائم منظمة، تهدف إلى إعادة ترتيب المشهد بما يخدم مصالح الاحتلال الإسرائيلي.
بينما تُرسم خرائط النفوذ من فوق أنقاض غزة التي راح ضحيتها أكثر من 60 ألف شهيد، ينشغل الساسة العرب بصراع على الحصص في إعادة إعمار المدينة.
فهل يُعقل أن تنجح هدنة في غزة، وهي محاصرة، مدمرة، بلا دولة، بلا جيش، وبلا ضمانات دولية حقيقية؟ الواقع يشير إلى أن الهدنة ليست سوى محطة انتقالية نحو جولة جديدة من العدوان، تُدار إعلامياً بلغة السلام، وتُنفّذ ميدانياً بلغة النار.
السلام الاستعماري
غزة اليوم ليست سوى معسكر اعتقال مفتوح. ما يُسمى “وقف إطلاق النار” ليس إلا استمراراً لهذا المشهد الدموي بوسائل أكثر هدوءاً، لكنه ليس أكثر إنسانية. ففي الأيام التي يفترض أنها شهدت هدنة بوساطة أمريكية، واصلت إسرائيل عمليات القتل والحرق والتدمير، بما في ذلك استهداف منازل مدنيين ومحطات مياه وصرف صحي. حتى أثناء تبادل الجثث، قتلت القوات الإسرائيلية مزيداً من الفلسطينيين، كما أظهرت تقارير من صحيفة “فايننشال تايمز”.
من ناحية أخرى، يشكل اتفاق تبادل الأسرى أحد أبرز فخاخ الهدنة. فقد فُرض على حماس تسليم جثث الجنود الإسرائيليين مقابل الإفراج عن 2000 أسير فلسطيني. غير أن تنفيذ هذه الصفقة شبه مستحيل. فالدمار الهائل في غزة، وتحت الأنقاض، وصعوبة تحديد مواقع الجثث بدقة، تجعل من هذه العملية تحدياً لوجستياً كبيراً. الصليب الأحمر نفسه وصفها بأنها “مهمة شبه مستحيلة”. ومع ذلك، فإن التأخير في تسليم الجثث يُستغل سياسياً وإعلامياً لتجريم حماس والتمهيد لاستئناف العدوان.
أمّا الشرط الأخطر الذي ينذر بمرحلة أشد هو نزع سلاح حماس. فباسم “السلام”، تُطالب الحركة بالتخلي عن أدوات المقاومة، ما يجعل سكان غزة عرضة لهجمات دون أي قدرة على الرد أو الردع. ترامب، الذي يقود الوساطة من بعيد، هدد صراحةً بأنه إن لم يتم نزع السلاح، فإن الولايات المتحدة “ستتدخل” بنفسها. غير أن سابقة التاريخ والميدان تُثبت أن نزع السلاح في ظل استمرار الاحتلال لا يؤدي إلى سلام، بل إلى خضوع كامل ومزيد من المذابح.
البديل المطروح من قبل الولايات المتحدة وإسرائيل لما بعد حماس لا يقل خطورة. فالتقارير تتحدث عن مجلس “سلام” استعماري، يُدير غزة من مصر، ويرأسه توني بلير، وهو وجه قديم لتدخلات فاشلة في العراق وأماكن أخرى. ويتزامن ذلك مع احتمال نشر “قوة استقرار” دولية، لكنها، كما أظهرت تجربة قوات اليونيفيل في لبنان، غير قادرة على منع خروقات إسرائيل اليومية.
فكرة تولّي توني بلير، رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، “إدارة” غزة ضمن ما يُعرف بمجلس السلام الذي يُخطط لإقامته من خارج القطاع، وتحديداً من مصر، يُعيد تكرار النمط الاستعماري القديم المتمثل في “الإدارة الأجنبية للمناطق المنكوبة”، كما تُعيد إلى الأذهان تجربة توني بلير الكارثية في العراق. فبلير، الذي يُقدَّم الآن كـ “رجل المرحلة”، كان أحد أبرز مهندسي الغزو الأمريكي البريطاني للعراق عام 2003، حين روّج إلى جانب جورج بوش الابن لمزاعم امتلاك العراق أسلحة دمار شامل، وهي الذريعة التي ثبت لاحقاً زيفها بالكامل. أدى ذلك التدخل إلى انهيار الدولة العراقية، وتفكيك مؤسساتها، واندلاع فوضى مسلحة مهدت لصعود جماعات متطرفة كتنظيم القاعدة ثم داعش، فضلاً عن سقوط مئات الآلاف من الضحايا المدنيين، وتهجير الملايين. لم يُحاسَب بلير سياسياً أو قانونياً على الرغم من الكمّ الهائل من التقارير والوثائق التي تُحمّله مسؤولية شخصية عن إشعال الحرب وزعزعة استقرار الشرق الأوسط. بل على العكس، عاد مجدداً إلى الساحة عبر البوابة الدبلوماسية، مقدَّماً كمبعوث “سلام”، ثم لاحقاً كمستشار خاص في ملفات حساسة، منها فلسطين. اقتراح تعيينه على رأس مجلس خارجي يدير غزة بعد الحرب ليس فقط استهانة بضحايا العراق وغزة على السواء، بل هو استمرار لنهج سياسي يرى في الأزمات العربية مجالاً لإعادة إنتاج النفوذ الغربي تحت غطاء “إعادة الإعمار” و”ضبط الأمن”. إذ لا يملك بلير لا شرعية فلسطينية ولا مصداقية شعبية، بل هو شخصية ارتبط اسمها بالحروب والخراب.
وإذا ما تولّى توني بلير فعلاً هذا الدور، فإننا أمام سيناريو يُكرّس الفشل الأمريكي مجدداً: استبدال الاحتلال المباشر باحتلال غير مباشر، وتعيين شخصيات فاقدة للثقة في إدارة مناطق مدمّرة، في ظل تجاهل تام لإرادة السكان المحليين، وتحت إشراف أمريكي – إسرائيلي يهدف إلى نزع سلاح المقاومة، لا إعادة الإعمار الحقيقي.
صراع النفوذ بين القاهرة والخليج
في المقلب الآخر، وبظل استمرار الحرب على غزة، تتزايد التداعيات السياسية والإنسانية، ويتوقع أن تلعب دول الخليج، وبالأخص السعودية والإمارات، الدور الأبرز في إعادة إعمار القطاع ورسم ملامح ما بعد الحرب. فباعتبارهما أغنى دولتين عربيتين، ترى الرياض وأبو ظبي أن لهما حقاً “طبيعياً” في التأثير على مستقبل غزة، وليس فقط أن تبقيا تحت ظل تحركات القاهرة.
ولكن كان الغياب اللافت لولي العهد السعودي محمد بن سلمان ورئيس الإمارات محمد بن زايد عن قمة شرم الشيخ، حيث اكتفى البَلَدان بإرسال وزراء فقط، رسالة صامتة تعكس اعتراضاً على تصدّر مصر المشهد الإقليمي. تسعى القاهرة، التي لعبت دور الوسيط في التوصل إلى هدنة هشة بين حماس وإسرائيل، لاستعادة نفوذها ودورها القيادي في المنطقة، بعد تراجع مكانتها في السنوات الأخيرة، خصوصاً في ظل التحولات السياسية التي شهدها نظام السيسي.
في هذا السياق، جاءت قمة شرم الشيخ لتكشف عن عمق الانقسامات والتصدعات داخل العالم العربي. لم يكن غياب قادة الخليج عن القمة مجرد مقاطعة رمزية، بل تعبيراً واضحاً عن تصدع في العلاقات وتغيرات كبيرة في التحالفات الإقليمية. مع تصاعد التنافس بين السعودية والإمارات نفسيهما، بات التنسيق مع القاهرة هشاً، ما كشف فعلياً عن عمق الانقسام العربي وخلافات النفوذ التي تعكر صفو الجهود العربية الموحدة.
من جهة أخرى، لطالما نظرت السعودية والإمارات بريبة إلى حركة حماس، باعتبارها نموذجاً إسلامياً شعبياً تحررياً، وخشيتا أن تلهم حماس الحركات الإسلامية داخل دولهما، خصوصاً المحافظين في السعودية. أما الإمارات فقد أمضت سنوات في قيادة حملة إقليمية ضد الإسلام السياسي، مستهدفة جماعات الإخوان المسلمين وحماس، باعتبارها تهديداً لأمن الدولة واستقرار العائلات الحاكمة، وهو توجه ثابت في سياستها الخارجية منذ 2011. قال وزير الخارجية الأردني الأسبق مروان المعشر في ندوة بمؤسسة كارنيغي إن دول الخليج لن تمول إعادة إعمار غزة ما لم تُطرح تسوية سياسية واضحة، مشيراً إلى أن خطة الإعمار لم تشمل أي مشاورات مع هذه الدول. وأضاف أن الوفود الخليجية أكدت له في واشنطن أن التمويل من دون حل سياسي يعني تكرار المأساة، وأنهم غير مستعدين لإعادة بناء ما سيُدمّر مرة أخرى. وانتقد المعشر غموض خطة ترامب، مشيراً إلى أن الهدنة كانت واضحة فقط في أسبوعها الأول بوقف الحرب وإطلاق الرهائن، ثم أصبح الوضع غير واضح حول من سيعيد الإعمار وطبيعة “قوة الاستقرار”. وأوضح أن إسرائيل تستغل هذا الغموض لفرض رؤيتها، في وقت يرفض فيه الكنيست حل الدولتين الذي بُنيت عليه المفاوضات، بينما الاعتراف بدولة فلسطينية هو الشرط الأساسي لأي إعادة إعمار فعلية، مؤكداً أن قيام الدولة حتمي لأن الفلسطينيين لن يختفوا، لكن دون أفق سياسي لن تُبنى غزة من جديد.
وهكذا، يظل الصراع على النفوذ العربي في ملف غزة ليس فقط بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية، بل أيضاً صراعاً داخلياً بين القاهرة والسعودية والإمارات، تتنافس فيه هذه الدول على رسم مستقبل القطاع في ظل انقسامات عربية واضحة وتباين في الرؤى والمصالح.
ختاماً، لا يمكن اعتبار وقف إطلاق النار الحالي طريقاً إلى السلام. إنه محطة مؤقتة في مسار طويل من العدوان المتواصل. إسرائيل لم تنهِ احتلالها، ولم ترفع الحصار، ولم تتخلَّ عن سياسات التطهير العرقي، ولا تزال تسيطر فعلياً على أكثر من نصف قطاع غزة. ما نراه ليس “سلاماً”، بل إدارة عن بعد لواقع الإبادة الجماعية، بغطاء دبلوماسي وإعلامي. إن لم يتغير الواقع السياسي على الأرض، بإنهاء الاحتلال وتحقيق العدالة، فإن أي حديث عن السلام سيبقى مجرّد وهم، يتقن النظام الدولي صناعته، ويُجبر الفلسطينيين على دفع ثمنه.
