إقليميات

مصر في مواجهة الاتفاقية التركية الليبية في المتوسط

بقلم توفيق المديني

أثار ردود أفعالٍ قويةٍ من جانب مصر، واليونان الني تعتبرها تعدياً على نطاقها البحري، وسط تحركاتٍ أوروبيةٍ لكبحِ أيِّ خطوةٍ ليبيةٍ نحو التثبيت القانوني لهذه الاتفاقية.

على الرغم من أنَّ البرلمان الليبي عارض الاتفاقية التركية الليبية عند توقيعها قبل ست سنواتٍ، فإِنَّهُ أعلن مطلع شهر يونيو/حزيران 2025، بشكلٍ مفاجئٍ عن تسلّمه طلباً من الحكومة المكلفة منه في بنغازي للمصادقة على الاتفاق، وتجاوباً مع الطلب أعلن تشكيل لجنة فنية لدراسته للنظر في المصادقة عليه. ويبدو أن هذه الخطوة من قِبل مجلس النواب الليبي هي التي أثارت الموقف اليوناني الذي أعلن عن دعوة الشركات الدولية إلى التنقيب عن الغاز جنوب جزيرة كريت اليونانية.

الرفض المصري

فقد أعلنت مصر رفضها رسميا لهذه الاتفاقية، ووجهت وثيقة رسمية إلى الأمين العام للأمم المتحدة بتاريخ 8 سبتمبر 2025، أكَّدتْ فيه رفضها الكامل لجميع المذكرات الشفوية الصادرة عن ليبيا والمتعلقة بترسيم الحدود البحرية والجرف القاري في البحر المتوسط.

وأكَّدت الرسالة المصرية أنَّ “الحدود البحرية التي أعلنتها ليبيا عبر اتفاقياتها مع تركيا تتداخل مع المنطقة الاقتصادية الخالصة والجرف القاري المصري، وأنَّ هذه الاتفاقات تُعَدُ انتهاكاً واضحاً لسيادة مصر وحقوقها البحرية، وتتعارض مع أحكام القانون الدولي واتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار.

كما رفضت بعثة مصر لدى الأمم المتحدة عبر رسالتها مذكرة التفاهم الموقعة بين المؤسسة الوطنية للنفط الليبية وشركة البترول التركية في يونيو2025 بحجة أنَّ هذه الأنشطة تتم في مناطق بحرية متداخلة مع الحدود المصرية البحرية، لذا ترفض مصر كل مذكرات التفاهم البحرية الموقعة بين تركيا والحكومات الليبية المتعاقبة سواء حكومة الوفاق أو حكومة الدبيبة وتعتبرها مذكراتٍ باطلةٍ قانونياً ولا يترتب عليها أي آثار دولية، وفق الرسالة المصرية.

صمت ليبي وتركي

يعتقد المحللون والخبراء المتابعون لهذا النزاع المتعلق بترسيم الحدود البحرية، أنَّ مصر بهذا الموقف الرسمي تبعث عدة رسائل لعدة أطراف، رسالة إلى الشرق الليبي بعد تقاربه الواضح مع تركيا، وكذلك رسالة مصرية إلى الاتحاد الأوروبي بأن القاهرة ورغم تحسن العلاقات بينها وبين أنقرة لكنها تبقى منفتحة على التخوفات الأوروبية ضد الاتفاقية الليبية التركية.

ويحمل الرفض المصري على الاتفاقية البحرية الموقعة بين أنقرة وحكومة طرابلس، رسالة إلى تركيا مفادها أنَّ مصر متمسكةٌ بموقفها الثابت تجاه ما تعتبره “تعدياً” على منطقتها الاقتصادية الخالصة وحقوقها السيادية في شرق المتوسط، وأنَّه لابد أن تتواجد في أعمال التنقيب وتقاسم الثروات الطبيعية القريبة من حدودها أو التي تراها هي أنَّها في حدودها.

وتحمل المعارضة المصرية لهذه الاتفاقية أبعاداً دبلوماسية ورسائل ردع في آنٍ واحدٍ، فمن جهة أرادت القاهرة أن توثق موقفها قانونياً لدى الأمم المتحدة لتفادي أي محاولة مستقبلية لشرعنة هذه الاتفاقيات، ومن جهة أخرى جاء تهديدها بمنع أي طرف من البدء في عمليات التنقيب بمثابة رسالة تحذير لتركيا، دون أن يعني ذلك بالضرورة العودة إلى مرحلة الصدام المباشر، خصوصاً في ظلّ التقارب النسبي القائم بين أنقرة والقاهرة خلال العامين الماضيين.

وتُعَدُ المعارضة المصرية أيضاً رسالةً موجهة بالدرجة الأولى إلى الداخل الليبي وتحديداً في الشرق لدفعهم إلى رفض الاتفاقيات التركية الليبية وعدم الاعتراف بشرعيتها، فالقاهرة ترى أن تمرير مثل هذه الترتيبات سيعزز النفوذ التركي في المتوسط وعلى الساحة الليبية على حساب مصالحها الاستراتيجية.

بكل تأكيدٍ، يمثل الرفض المصري تصعيداً سياسياً محسوباً يهدف إلى تثبيت الموقف القانوني، أكثر من كونه مؤشراً على مواجهة عسكرية وشيكة مع تركيا، وحماية السيادة الوطنية والمصالح الاستراتيجية في البحر المتوسط، ويشكّل رسالة قوية إلى تركيا بأن هناك خطوطاً حمراء لا يجوز تجاوزها.

كما أنَّ رفض مصر لاتفاقية حكومة الدبيبة مع شركة تركية للتنقيب في المناطق المتنازع عليها يأتي في سياق محاولة احتواء التمدد التركي وتأكيد أن التداخلات في الحقوق البحرية سيتم مقاومتها بكل الوسائل القانونية والدبلوماسية، حسب كلامه. فالرسالة المصرية واضحةٌ أنَّ أيَّ تحركٍ أحاديٍّ في المتوسط سيردّ عليه مَن له شأن، ولن يُسمح بتقويض الحقوق المصرية تحت ذريعة الاتفاقات بين أطراف في ليبيا.

الرفض اليوناني

منذ أن تمَّ توقيع الاتفاقية بين حكومة الوفاق الوطني السابقة مع الحكومة التركية في نوفمبر/تشرين الثاني 2019، لتحديد المناطق الاقتصادية البحرية للبلدين في شرق البحر الأبيض المتوسط، عارضتْ اليونان وقبرص والاتحاد الأوروبي، هذه الاتفاقية. وتجدَّد الجدل في أكتوبر/تشرين الأول 2022 عندما وقّعت حكومة الوحدة الوطنية مع تركيا مذكرة تفاهم جديدة تمنح أنقرة حقوق التنقيب عن النفط والغاز في المياه الإقليمية الليبية. ووصف الاتحاد الأوروبي هذه الاتفاقية بأنَّها “انتهاك للحقوق السيادية” لليونان وقبرص، وأنها لا تتوافق مع قانون البحار. وردت تركيا عبر المتحدث باسم وزارة خارجيتها، أونجو كيجلي، الذي اعتبر أن البيان الأوروبي تضمّن “استنتاجات” مبنية على “إصرار اليونان والقبارصة اليونانيين على فرض مطالبهم المتطرفة على الاتحاد الأوروبي، التي تتعارض مع القانون الدولي ومبدأ الإنصاف”، مؤكداً أن الاتفاق التركي مع ليبيا “متوافق تماماً مع القانون الدولي”. بل اتهم المسؤول التركي الجانب الأوروبي بـ “التحيز” في موقفه “لأسباب سياسية”، وأنه موقف “لا يخدم السلام والاستقرار الإقليميين”.

وتسبّب ما سربته وسائل إعلام يونانية منتصف يونيو الماضي عن عزم اليونان دعوة شركات دولية لمنحها تصاريح استكشاف الهيدروكربونات في مناطق حدودية مائية بحرية جنوب جزيرة كريت متنازع عليها بين ليبيا واليونان، موجة من الرفض الليبي، وأصدرت حكومتا طرابلس وبنغازي بيانَيْ احتجاج رفضاً للخطوة اليونانية. واتهم بيانا الحكومتين اليونان بانتهاك الحقوق السيادية الليبية، مؤكدين أن بعض المناطق المطروحة للاستكشاف تقع ضمن نطاق المناطق البحرية المتنازع عليها بين البلدين.

وشدَّدَتْ وزارة الخارجية في طرابلس، في بيانها 23يونيو/حزيران 2025، على أن “مسار الحوار والتفاوض البنّاء هو الخيار الوحيد للوصول إلى حلولٍ عادلةٍ ومنصفةٍ”، ودعت اليونان إلى “التعامل بمسؤوليةٍ مع العلاقات التاريخية”. وعقب البيان استدعت الوزارة السفير اليوناني لدى ليبيا نيكولاس غاريليديس، وسلمته مذكرة احتجاج على الخطوة اليونانية. وبالتزامن سلّمت الحكومة في بنغازي مذكرة مماثلة للقنصل العام اليوناني في بنغازي، أغابيوس كالوغنوميس.

هناك خلافات ليبية – يونانية قديمة حول تحديد المناطق الاقتصادية البحرية للبلدين في شرق البحر الأبيض المتوسط، ما أثار موجة ردود فعل رافضة وقتها، خصوصاً في جانب اليونان وقبرص والاتحاد الأوروبي. وتجدد الجدل في أكتوبر/تشرين الأول 2022 عندما وقّعت حكومة الوحدة الوطنية مع تركيا مذكرة تفاهم جديدة تمنح أنقرة حقوق التنقيب عن النفط والغاز في المياه الإقليمية الليبية.

أزمة الحدود البحرية الليبية على علاقة بالتوتر الجيوسياسي في منطقة شرق البحر المتوسط، حيث تتنافس دول المنطقة، وتحديداً مصر وقبرص وتركيا واليونان ولبنان، على احتياطياتٍ هائلةٍ من الغاز الطبيعي والنفط. وفي ظل هذا التوترِ الجيوسياسيِّ أحْدَثَ توقيع الاتفاقية التركية – الليبية عام 2029 تغييراً كبيراً في المعادلة، حيث رسم الاتفاق الحدود البحرية بين البلدين ما جعله هدفاً دائماً للرفض اليوناني، وهو رفضٌ لن يترتب عليه أيَّ حسمٍ للأمر من دونِ تفاهماتٍ إقليميةٍ واضحةٍ.

وفيما تحتفظ حكومة طرابلس، المعترف بها دولياً، بعلاقاتٍ قويةٍ مع تركيا، فإنَّ حكومة بنغازي وجدت في التصعيد اليوناني فرصةً لتعزيز مكانتها التفاوضية مع تركيا. فبدأتْ سلطة حفتر في شرق البلاد، عبر حلفائها في مجلس النواب والحكومة المكلفة منه، في التجاوب مع الانفتاح الذي أبْدَتْهُ تركيا تجاهها، فزار رئيس مجلس النواب عقيلة صالح تركيا في ديسمبر/كانون الأول 2023، كما استقبلتْ الحكومة في بنغازي السفير التركي لدى ليبيا عدَّة مَرَّاتٍ، ووقّعتْ مع الجانب التركي عقوداً ضخمةً في مجال الإعمار والبناء.

ويرى مراقبون أنَّ هذه التحركات تعكسُ سياسةً تركيةً جديدةً تقوم على الموازنة بين الطرفين الليبيين المتنافسين، حكومة طرابلس من جهة، وقيادة حفتر في الشرق من جهة أخرى، في محاولة لتثبيت نفوذ أنقرة عبر استراتيجية “الجمع بين الأضداد”.

وبحسب صحيفة” فكر تورو” التركية فإنَّ هذه التطورات تُعَدُّ “تحولاً لافتاً – وإن كان هادئاً – في العلاقات التركية الليبية خلال النصف الأول من عام 2025″، معتبرةً أنَّها تؤشر إلى إعادة تموضع أنقرة في خريطة النفوذ داخل ليبيا. وترى الصحيفة أنَّ أنقرة تبنت في السنوات الأخيرة نهجاً براغماتياً قائماً على المصالح الاقتصادية والدبلوماسية المتعددة الأطراف، ما قادها إلى الانفتاح على شرق ليبيا بعد أن كان يمثل الجبهة المناوئة لها خلال الحرب الأهلية.

خاتمة

من وجهة نظر ليبية، يعود الدافع إلى مصادقة البرلمان الليبي على الاتفاقية التركية – الليبية إلى ثلاثة عوامل:

1- حماية الثروات البحرية الليبية من التوسع اليوناني.

2- التقارب التركي مع شرق البلاد الذي عزز مناخ الثقة وأعاد ترتيب الأولويات.

3- التفاهم التركي – المصري الذي خفّف تحفظات القاهرة.

من جانبها، سارعت تركيا إلى تأكيد تمسكها بالاتفاقية ورفضها الانتقادات الأوروبية، بعدما جدد الاتحاد الأوروبي رفضه لها في ختام قمته التي عُقدت ببروكسل، معتبرة أنَّ النتائج التي اعتُمدت في القمة الأوروبية الأخيرة تعكس استمرار اليونان وإدارة جنوب قبرص اليونانية في محاولاتهما فرض مطالب “متطرفة ومخالفة للقانون الدولي ومبدأ العدالة، على الاتحاد الأوروبي”.

وفيما تحولت ليبيا إلى ساحة لتصفية حسابات إقليمية ودولية بين تركيا واليونان والاتحاد الأوروبي، في ظل غياب المشروع الوطني لإعادة بناء الدولة الوطنية الليبية على أسس ديمقراطية سليمة، فإنَّ مصادقة مجلس النواب على الاتفاقية تفيد ليبيا بشكل كبير في الحفاظ على حدودها وستجلب منافع اقتصادية كبيرة، لكنها ستثير الموقف الأوروبي الذي ربما يترتب عليه عقوبات اقتصادية. ويظل الانقسام الليبي نقطة ضعف كبيرة بالنسبة لتركيا التي تحاول تعزيز العلاقة مع الحكومتين في طرابلس وبنغازي اللتين تسعيان بدورهما لتوظيف الضعف التركي لحشد مكاسب متضاربة في خضم صراعهما.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *