نقطة تحوّل شبيهة بعام 1967: فرصة لا تتكرر إلا مرة كل ستين عاماً
ترجمة وإعداد: حسن سليمان
إن حرب إيران والهدنة المنتظرة في غزة تمثّلان حدثين مفصليين في تاريخ الشرق الأوسط، تماماً كما كانت حرب الأيام الستة عام 1967. الدرس الأبرز المستفاد من المرحلة التي أعقبت حرب 1967 هو أن التحول الاستراتيجي في استقرار المنطقة غالباً ما يؤدي – خصوصاً في الرأي العام – إلى ردود فعل راديكالية أكثر منها براغماتية.
التحدي الحقيقي اليوم يتمثل في جعل المرحلة الحالية تُقاد بعقلية السادات وبيغن. وفي هذه اللحظة المفصلية، ينبغي التخلي عن النماذج الإقليمية القديمة أو تحديثها، مثل مفاهيم: “اتفاقات السلام”، “حل الدولتين”، “المحاور الإقليمية”، و”الشارع العربي”.
أما الأفكار الأولية لصياغة الاستراتيجية الجيوسياسية الإقليمية الجديدة فتشمل: شراكات أمنية بدلاً من تحالفات عسكرية تقليدية، شبكة بنى تحتية مترابطة، سيادة هجينة للدول، وإدارة ذاتية جزئية. في هذا السياق، تحتاج إسرائيل إلى استراتيجية أمنية أكثر دقة وتفصيلاً، ونهج يقوم على الشراكات الذكية.

مثل عام 1967 للشرق الأوسط
تُعدّ حرب إيران والهدنة المنتظرة في غزة نقاط تحوّل حاسمة للشرق الأوسط، على غرار حرب الأيام الستة عام 1967. وتعتمد المقارنة على عدة سمات رئيسية:
• انتصار عسكري حاسم لإسرائيل على عدة جبهات، ما يغيّر الاستقرار الاستراتيجي الإقليمي.
• تراجع وتدهور النموذج الأيديولوجي الراديكالي السائد (كان الناصرية في ذلك الحين، واليوم ما يُعرف بـ “المقاومة).
• تعزيز الموقف الإقليمي للولايات المتحدة بشكل كبير؛ إذ تحدث تحوّلات إيجابية في الولاءات تجاه واشنطن (مصر آنذاك، وسوريا وربما قطر اليوم)، وفي الوقت نفسه، تعتمد قوى أخرى بشكل أكبر على القوى العظمى البديلة (روسيا آنذاك، وروسيا والصين اليوم).
• تمتلك إسرائيل أصولاً استراتيجية كبيرة؛ في الماضي كانت الأراضي، أما اليوم فالأفضلية الأمنية، ويجب عليها اتخاذ قرارات بشأن كيفية استغلالها بشكل إيجابي.
• الجمود ليس خياراً؛ فالأعداء يسعون لتغيير الواقع (آنذاك عبر حرب يوم الغفران والنضال الفلسطيني، واليوم عبر نزع الشرعية واستخدام القوة المضادة)، لذلك يلزم اتخاذ خطوات جوهرية لتشكيل المنطقة بشكل إيجابي.
ماذا يمكن أن نتعلم من يوم ما بعد حرب 1967 على الجانب العربي؟
بعد حرب الأيام الستة، ظهرت في العالم العربي خمسة تيارات فكرية رئيسية:
1. الأصوات الليبرالية القليلة: مجموعة من المثقفين الشجعان الذين بدأوا يتحدثون عن السلام والاعتراف بإسرائيل. وكان من أبرزهم المصري محمد سيد أحمد، الذي كتب كتابه “في الملابس الداخلية” بعد حرب يوم الغفران عام 1973، معبّراً مسبقاً عن التغير في القيادة المصرية بقيادة السادات.
2. نهج الثلاثة “لا”: قمة الخرطوم التي قادها زعماء عرب راديكاليون، وحددت خطاً صارماً: “لا للسلام، لا للاعتراف، لا للتفاوض مع إسرائيل”، وهو النهج الذي ساد العالم العربي حتى حرب الخليج الأولى ومؤتمر مدريد.
3. رؤية أنور السادات: كان السادات أبرز زعيم عربي في رؤيته واستعداده لإحداث التغيير في القرن العشرين، إذ أدرك الحاجة إلى تغيير براديغماتي نحو الولايات المتحدة وإقامة السلام مع إسرائيل.
4. صعود الإسلام الراديكالي: مع تراجع الاشتراكية العربية (الناصرية والبعثية)، أفسحت المجال للإسلام المتطرف الذي بدأ عصر الإرهاب الجهادي.
5. هيمنة الخطاب الفلسطيني: مع تراجع النضال العروبي الشامل، سيطر منظمة التحرير الفلسطينية وياسر عرفات على السرد السياسي، وكان النصر الإسرائيلي بمثابة بداية تحول دولي لصالح “الفلسطيني الضعيف”.
الخلاصة الرئيسية
إن التغيير الاستراتيجي في استقرار المنطقة غالباً ما يسرّع – خصوصاً في الرأي العام – ردود فعل راديكالية أكثر منها براغماتية.
النماذج السائدة اليوم أصبحت قديمة.. في مثل هذه اللحظة الفاصلة، من الضروري اعتماد نهج جديد للتفكير الجيو/استراتيجي الإقليمي. ينبغي التخلي عن النماذج القديمة أو تحديثها، بعضها نتج عن نقطة التحوّل في 1967، لكنها لم تنجح في قيادة المنطقة إلى بر الأمان خلال الخمسين سنة الماضية. وللتعامل بشكل صحيح مع هذا التحدي المعقّد – من استغلال الفرص إلى الحد من المخاطر -، يلزم استبدال “الأفكار الكبرى” القديمة، ومن أبرزها:
1. “اتفاقات السلام” و”التطبيع” الرسمي: في العصر الحالي، الاتفاقيات الرسمية أقل صلة بالواقع. وبدلاً منها، هناك حاجة إلى بروتوكولات أمنية، مدنية واقتصادية مرنة (MoU)، دون طقوسية مفرطة تؤخر التقدم في الملف الفلسطيني مع سوريا ولبنان، ومع دول “اتفاقات أبراهام” مع التركيز على السعودية.
2. حل “دولتين” (قرار مجلس الأمن 242): عشرين عاماً من فشل “السيادة” الفلسطينية في غزة تُعتبر أبرز دليل على أن حل القضية الفلسطينية يجب أن يقوم على نهج هجين حديث، لا على مفاهيم السيادة التقليدية.
3. المحاور” الإقليمية: تصنيف العلاقات في الشرق الأوسط بمصطلحات مثل “محور راديكالي”، “جهادي”، “إسلامي”، “براغماتي”… ليس فعالاً وقد يكون مضللاً. فهذه النظرة تبسط التعقيد الجيو/استراتيجي في المنطقة. إن التحليل والعمل المرن قد يكونان أكثر فائدة في مواجهة التحديات الضخمة. ويجب على إسرائيل أن تتصرف بمرونة وتحدد مجالات المصالح المشتركة حتى مع اللاعبين الذين اعتُبروا سابقاً خصوماً. كمثال على ذلك، فإن الضغط الذي مارسته قطر وتركيا على حماس لتحقيق مصالح إسرائيلية واضحة في آخر مفاوضات الهدنة في غزة يعكس هذا التعقيد.
4. الديمقراطية”: الدول العربية الأكثر تقدماً واستقراراً وابتكاراً في المنطقة ليست ديمقراطية. ويبدو أن أشكال الحكم الهجينة أحياناً تكون ضرورية لتحقيق التقدم والسيطرة في الشرق الأوسط.
5. الشارع العربي”: الرأي العام الإقليمي غالباً ما يكون مبنياً على الخوف والكراهية، لذلك لا يمكن اعتباره قاعدة لتعزيز السياسة. يجب أن تتجاوز الحلول البراغماتية هذه الرؤية للرأي العام، وأن تتحلى القيادة الحقيقية بالقدرة على تشكيل الشعور العام بدلاً من أن تُسيّر بواسطة هذا الرأي.
طرق جديدة للتفكير في الجيو/استراتيجية الإقليمية
لإحداث التغيير الإقليمي، يجب التخلي عن النماذج القديمة واعتماد نماذج جديدة. وفيما يلي قائمة أولية بأفكار قد تساعد في تشكيل الاستقرار الاستراتيجي الإقليمي الجديد:
الشراكات الأمنية (Partnerships): بدلاً من “التحالفات” الرسمية، يجب إقامة تعاونات غير رسمية ومرنة تعتمد على مذكرات تفاهم. وقد طبّقت إسرائيل هذا النهج مع الولايات المتحدة وحلفائها خلال حرب إيران. فـ “التحالفات” و”الائتلافات” الأمنية الرسمية قد تكون رسمية وعامة بشكل مفرط للتعامل مع تحديات كبرى، مثل: رد إيراني محتمل على الهزيمة العسكرية، عملية نزع سلاح غزة، كبح نشاط الحوثيين، التعامل مع حالة عدم الاستقرار الدموي في سوريا. وينبغي أن تستخدم الولايات المتحدة وإسرائيل والقوى الإقليمية والدولية ذات التوجه المشابه (Like-minded) أطر تعاون أقل رسمية تعتمد على مذكرات تفاهم أكثر من الاتفاقيات الرسمية. وقد تجسّد هذا بالفعل خلال حرب إيران، عندما جرى تنفيذ الجهود الدفاعية ضد العدوان العسكري الإيراني ضمن آليات تنسيق تشغيلية ثنائية ومتعددة الجنسيات.
شبكة بنى تحتية إقليمية: أفضل طريقة لبناء علاقات طويلة الأمد هي الاعتماد المتبادل غير القابل للانفكاك على البنى التحتية المشتركة. هذه الطريقة تساعد على التغلب على التقلبات الطبيعية في العلاقات السياسية والشخصية. يجب أن تكون دول الشرق الأوسط مرتبطة ببعضها عبر شبكات الطاقة والمياه والنقل والاتصالات الحيوية. وبما أن هذه جهود طويلة المدى، فيجب البدء في تنفيذ المشاريع حالياً. ويمكن بناء هذه الشبكات على مبادرة الممر الاقتصادي الهند – الشرق الأوسط – أوروبا (IMEEC) للولايات المتحدة، لتطوير البنية التحتية والممر الاقتصادي كمسار بديل للبحر الأحمر غير المستقر.
رؤية مدنية: يجب أن يُبنى الرؤية الإقليمية الجديدة بشكل منفصل عن معالجة القضايا السياسية والأمنية، مع التركيز على التنمية والاستجابة للتحديات المدنية والاقتصادية بقيادة القطاع المدني والجانب المدني – الاقتصادي في الحكومات. فالتحديات المستقبلية في هذه المجالات، مثل التحول التكنولوجي السريع وتداعيات التغير المناخي، جوهرية بما يكفي لتأسيس رؤية مشتركة قوية.
المساءلة (Accountability) غير القائمة على الانتخابات: الديمقراطية ليست شرطاً ضرورياً لمنطقة براغماتية مزدهرة. يجب أن تُبنى المساءلة على توافق متبادل حول مبادئ سلوك أساسية مشتركة يمكن أن تعزز رفاهية سكان المنطقة وتشجع التعاون البنّاء.
ويمكن أن تشمل هذه المبادئ: عدم دعم الإرهاب، عدم الإضرار الجسدي بالأقليات، احترام حقوق الفرد، علاقات اقتصادية منفتحة، وغيرها. كما يمكن تحديد هذه المبادئ عبر بيانات مشتركة يصدرها اللاعبون الإقليميون والدوليون.
سيادة الدولة الهجينة: مشاكل الشرق الأوسط لا يمكن حلها بالاعتماد على مبادئ السيادة التقليدية. وينطبق هذا ليس فقط على القضية الفلسطينية المعقدة، بل أيضاً على قضايا إقليمية مهمة مثل الأكراد، الدروز، الأقليات المسيحية، والوضع في اليمن والسودان وليبيا والصومال.
لقد أصبح العالم هجيناً ومعقداً على مستوى الفرد، وحان الوقت لأن يمتد هذا الاتجاه إلى مستوى الدولة. ويجب على المجتمع الدولي والإقليمي قبول أشكال وجود جديدة من خلال فصل مستويات الدولة المختلفة (السكان – الأراضي – الحكومة – الاعتراف الدولي) بعيداً عن ميثاق مونتي فيديو التقليدي.
في القضية الفلسطينية، بدأت تظهر أفكار جديدة من نوع آخر، مثل نموذج بورتو ريكو، الترتيبات السياسية الخاصة، أو كونفدرالية بين كيانات بعضها ليس دولاً ذات سيادة. يمكن التفكير في نموذج يمنح السكان الفلسطينيين حقوقاً مدنية كاملة غير إسرائيلية، بينما تكون السيطرة الأمنية على الأراضي التي يقيمون فيها بيد إسرائيل، ويدير شؤونهم المدنية جسم إداري غير حكومة سيادية، مع إقامة علاقات، بما في ذلك التمثيلات، مع دول العالم في مجالات اختصاصه.
إبعاد المتطرفين إلى الهوامش: بدلاً من محاولات إزالة التطرف، يجب عزل وتطويق الجهات الراديكالية. من خلال حرمانهم من القدرة على إلحاق الضرر، ستُلغى المحفزات المهمة لدعمهم، وتُتاح الفرصة لأتباعهم الشعبيين للاستيقاظ وتركهم. هذا النهج يُعتبر أكثر فعالية من جهود “إعادة التربية”، التي يُشكك كثيراً في نتائجها.
الحكم الذاتي الجزئي: يتيح هذا المبدأ للقوى المحلية إدارة شؤونها بنفسها لتحسين حياة السكان المدنيين، مع مشروعية التدخل الخارجي عند ظهور مشكلات تشكل تهديدات داخلية (مثل الإبادة الجماعية أو الإضرار بالأقليات) أو خارجية (مثل التسلح بالأسلحة النووية والصواريخ، تصدير الإرهاب، أو موجات اللاجئين). وقد تجسّد هذا المبدأ عملياً في التحرك الأمريكي والإسرائيلي ضد الحوثيين، والحرب على إيران التي ركّزت على تهديد الأسلحة النووية دون تغيير النظام، والتدخل الإسرائيلي لمنع إبادة السكان الدروز في سوريا.
التغيير الاستراتيجي لإسرائيل نفسها
في الاستقرار الجيو/استراتيجي الإقليمي الجديد وتطبيق هذه النماذج، لإسرائيل دور جديد وحاسم. فقد تحوّلت إسرائيل إلى قوة أمنية إقليمية، وهو موقف يختلف تماماً عن استراتيجيتها الوطنية الأصلية للأمن التي كانت قائمة على افتراض النقص البنيوي أمام “تحالف الكل” للدول العربية. من خلال تحولها إلى قوة إقليمية، تستطيع إسرائيل الموازنة بين الردع الأساسي الحقيقي – دون استخدام القوة – وبين الاستخدام الأكثر دقة للقوة العسكرية لإزالة التهديدات عند الحاجة.
يجب على إسرائيل صياغة استراتيجية شراكات ذكية تشمل جميع الجهات الدولة وغير الدولة، وبناء تعاونات ثنائية ومتعددة الأطراف مرنة لتلبية احتياجاتها واحتياجات شركائها. كما ينبغي أن تبدأ في استغلال الفرصة الفريدة الناتجة عن نهج إدارة ترامب، والعمل على إرساء شبكة البنى التحتية الإقليمية.
مركز بيغين السادات – بقلم شاي شبتاي (عقيد احتياط) ونائب مدير مركز بيغين السادات، وخبير في الأمن القومي والتخطيط الاستراتيجي والاتصالات الاستراتيجية)
