إعرف عدوك

خطة ترامب.. المخاطر والفرص وتحديد البوصلة الاستراتيجية لإسرائيل

ترجمة وإعداد: حسن سليمان

إذا استمرت هذه الاتجاهات، يبدو أن البديل الأمثل لإسرائيل هو إنشاء منطقة حكم فلسطيني بديلة في الأراضي الخاضعة لسيطرة الجيش الإسرائيلي – حكومة تكنوقراط مرتبطة بالسلطة الفلسطينية (مع استمرار مطالبتها بالإصلاحات) -، مدعومة من دول المنطقة والمجتمع الدولي، تقدم بديلاً فكرياً – سياسياً – مدنياً لحماس. سيخلق هذا البديل مساحة آمنة يبدأ فيها إعادة الإعمار المادي والمؤسسي والاقتصادي، مع عمليات حكم مؤقتة وتقديم خدمات مدنية يسهل الوصول إليها. كما سيعزز هذا البديل موقف إسرائيل في حماية مصالحها الأمنية، ويمكن أن يشكل نقطة انطلاق أفضل للعمليات العسكرية ضد حماس تدريجياً، بهدف التقدم نحو نزع سلاح القطاع. إلى جانب تثبيت المنطقة العازلة بين إسرائيل ومنطقة سيطرة حماس، سيتيح البديل المقترح للجمهور الغزي خياراً آخر عن حكم حماس، الذي يتميز بالاستمرار في الدمار والخراب والقمع. ولكن حتى في هذا البديل، على إسرائيل أن تنخرط في تهيئة الشروط لإقامة دولة فلسطينية، وذلك لتمكين المملكة العربية السعودية والإمارات من انتزاع القيادة في تشكيل المشهد الإقليمي الجديد من قطر وتركيا.

خطة ترامب، في بنودها العشرين، ما تزال أكثر من إمكانٍ لم يتحقق بعد. باستثناء التقدم الملحوظ في إطار المرحلة الأولى من المخطط – إعادة جميع الرهائن الأحياء وبعض الرهائن القتلى. إذا نُفّذت الخطة بكاملها، فستُمثّل إنجازاً مهماً لإسرائيل وتحقيقاً لأهداف الحرب التي حدّدتها الحكومة، فضلاً عن أثرٍ استراتيجي – توسيعٌ ملموس لـ “اتفاقيات إبراهام” كأساس لهندسة إقليمية جديدة يكون لإسرائيل فيها دورٌ محوري. وفي المقابل، حماس، الذي ينتهك الاتفاق منذ إعادة انتشار الجيش الإسرائيلي على طول “الخط الأصفر”، يعلن بوضوح أنه لا ينوِي التلاشي من الخريطة السياسية، ولا التجرد من سلاحه للسماح بتجريد القطاع من السلاح.

لذلك، تكمن أهمية أن تبحر إسرائيل الآن بحِنكةٍ بين السيناريوهات المتعددة التي قد تتطور في هذه الواقع المعقّد، وأن تسعى إلى دفع مصالحها اعتماداً على مبادئ خطة ترامب. والأهم من ذلك التمييز الحاد بين طموحات غير واقعية وأهدافٍ قابلة للتحقيق.

استخدام مصطلح “خطة” مضلل، لأنه في الواقع إطار فكري ورؤيوي وليس برنامجاً تفصيلياً عملياً. إطار ترامب هو في جوهره مجموعة من المبادئ لدفع غاية استراتيجية تمتد طبيعتها ونطاقها إلى ما هو أبعد من قطاع غزة. ما كان مهماً للرئيس ترامب هو تأطير المرحلة الأولى من هذا الإطار – تحرير المختطفين وإعادة انتشار قوات الجيش الإسرائيلي على طول الخط الأمني المحدد – بوصفها نهاية الحرب. وقد نجح الرئيس ترامب في حشد قادة الدول العربية المهمة إلى جانبه، إضافة إلى تركيا، وإندونيسيا، وباكستان، ودول أوروبية مركزية، وحتى اليابان وأذربيجان وأرمينيا، لدعم هذا الإطار، والتجمّع في قمة احتفالية معلنة في شرم الشيخ بمصر في طقوس توقيع اتفاق وإعلان “فجر يوم جديد” في الشرق الأوسط.

خلال هذه الخطوة، رسّخ الرئيس ترامب حقيقة انتهاء الحرب في قطاع غزة، وفرض على إسرائيل، ومن خلال قطر وتركيا ومصر على حماس، قبول الخطة. ومع ذلك، كان القبول مشروطاً وظاهرياً فقط. في الواقع، وافق الطرفان في مفاوضات مكثفة وسريعة على قبول المرحلة الأولى من الإطار. أما بالنسبة للخطة ككل، فتقبلها إسرائيل كمجال فكري، مع مكان لإجراء تغييرات وتعديلات فيما يتعلق بالقضايا الأمنية: خصائص استعداد الجيش، المسؤولية الأمنية العامة، وحرية التحرك العملياتية، وكذلك طريقة إدارة عملية إعادة الإعمار ومدى مشاركة إسرائيل وتأثيرها فيها.

من جهتها، رفضت حماس، في بيان غامض الصياغة، الخطة عملياً عندما يتعلق الأمر بتجريد المنظمة من سلاحها ونزع تسليح القطاع، وإقامة نظام وصاية (مجلس السلام، الذي سيؤسس فعلياً حكومة التكنوقراط). المنظمة مستعدة للتخلي عن السيطرة المدنية، لكنها لا تتخلى عن تأثيرها على تشكيل الحكومة؛ بالإضافة إلى ذلك، لا تتنازل عن مشاركتها في عملية إعادة الإعمار. كل هذا، إلى جانب “المناورات” التي تقوم بها حماس بشأن إعادة جثث الرهائن القتلى، يدل على أن المنظمة تنوي الحفاظ على مكانتها كقوة مهيمنة في قطاع غزة.

بعيداً عن ساحة قطاع غزة، يبرز إطار ترامب في تعامله مع قضية الدولة الفلسطينية عملية طويلة لتهيئة الشروط لإقامتها. ومن منظور قادة الدول العربية والدول الأخرى التي دعمت الإطار وأيده، يُعتبر هذا بمثابة ممر لإقامة الدولة الفلسطينية، تبدأ هذه العملية بتهيئة الشروط لعودة السلطة الفلسطينية للسيطرة على قطاع غزة.

نقطة قوة إضافية لإطار ترامب، التي تجلّت في خطاب الرئيس أمام الكنيست الإسرائيلي في 13 تشرين الاول وفي قمة شرم الشيخ التي عقدت لاحقاً، هي الرؤية التي تقول إن إسرائيل والفلسطينيين غير قادرين على السير في مسار سياسي ثنائي مباشر، ولذلك هناك حاجة إلى نهج متعدد الأطراف، لا يهاب استخدام آليات الإلزام، ويتيح توسيع نطاق مصالح الأطراف المعنية. ومن هذا المنطلق، يمكن للإطار أن يساعد في تنظيم الواقع في قطاع غزة وربما على الساحة الفلسطينية كلها، وفي الوقت نفسه يساهم في دمج إسرائيل في المنطقة من خلال هندسة إقليمية جديدة. ويتوافق هذا المنطق الاستراتيجي مع المصلحة الاستراتيجية لإسرائيل ويعقّد منطق عمل حماس، إلا أن تنفيذ هذا الخيار الاستراتيجي الإسرائيلي يتطلب مبادرات وتنازلات أيضاً من جانب إسرائيل نفسها.

في هذه المرحلة الزمنية، ليس من الواضح مدى التزام الرئيس ترامب وتصميمه على دفع التنفيذ الكامل للإطار الذي قدمه، بكل مراحله. لذلك، يجب أن تكون فرضية العمل الإسرائيلية هي أنه بدون مشاركة شخصية وعزيمة مستمرة من الرئيس ترامب، لن يتم تنفيذ الإطار. ويجب أن يكون الهدف الإسرائيلي تنسيقاً قريباً ومكثفاً معه ومع فريقه المقرب، لمنع وقوع مواقف يفرض فيها على إسرائيل خطوات إشكالية أو التعامل معها كوسيلة خاضعة لإرادة وفضل الراعي. كما يجب على إسرائيل خلق وضمان شروط تمنحها حرية التصرف والسيطرة على العملية، مع تجنّب الانجرار إلى خطوات تُفرض عليها (مثل مشاركة تركيا وقطر بمستويات أو خصائص قد تهدد مصالحها). ويجب أن يتم ذلك، بالطبع، مع تجنّب المواقف التي تجعلها تُعتبر معرقلة لإطار ترامب.

أهمُّ ما في الأمر أنّ إسرائيل، إذ يصعب عليها التعايش مع تهديدٍ إرهابيٍ متصاعدٍ على حدودها، مطالبةٌ بضمان ألا تواصل حركة حماس وجودها في قطاع غزة ككيانٍ حكمٍ وقوةٍ عسكرية، وأن يتم نزع سلاح القطاع. لذا فإنّ التحدي المطروح أمام إسرائيل في هذه المرحلة هو تأمين الدعم الأمريكي والشرعية الإقليمية والدولية لتنفيذ أهدافها في غزة، بما في ذلك اللجوء إلى القوة العسكرية حال امتناع حماس عن نزع سلاح القطاع والتفكك من سلاحها.

مواجهة هذا التحدّي تقتضي مزيجاً مدروساً من الدبلوماسية والقدرة العسكرية، إلى جانب استثمار أمثل لإطار ترامب، مع الحفاظ على مشاركة تفعيلية للرئيس الأمريكي ودعمه لإسرائيل ولأهدافها الحيوية، وبالوقت نفسه تجنُّب الانطباع بأنها تُعطل تنفيذ الإطار. لذلك، من الصائب لإسرائيل أن تردّ بحزم وشدة على أي انتهاك من جانب حماس للاتفاق، مدعومةً بالضامن الأمريكي وببناء الشرعية اللازمة لدى الدول الرئيسية الداعمة للإطار، لضمان تغييرٍ كامل للواقع الأمني وقواعد اللعبة التي عرفناها قبل السابع من تشرين الأول. وفي الوقت نفسه، يَصُحّ لإسرائيل أن تعرض بدء تحضير الشروط اللازمة لتفعيل المادتين 16 و17 من الإطار، اللتين تتناولان احتمال إقامة حكومة تكنوقراط فلسطينية وقوة استقرار دولية (ISF) تعمل في المناطق التي لا تتواجد فيها حركة حماس، تحت إشراف “مجلس السلام” برئاسة الرئيس ترامب وبإدارة توني بلير.

المجال الأكثر أهمية حالياً في هذا السياق هو المنطقة الواقعة بين خان يونس ورفح (شرق غزة)، والتي يمكن توسيعها أيضاً. إن تنفيذ الفكرة في هذا المجال من شأنه أن يُطلق بداية عملية إعادة الإعمار. الديناميكية التي ستتكوّن قد تشجع الفلسطينيين الموجودين حالياً في المناطق الخاضعة لسيطرة حماس على الانتقال إلى هذه المنطقة الآمنة، حيث إلى جانب عملية إعادة الإعمار المادي والمؤسسي والاقتصادي، يمكن أن تبدأ أيضاً عملية شفاء اجتماعي – مدني.

يجب أن تتطور هذه المنطقة كمعارضة نموذجية للمجال الخاضع لسيطرة حماس: بناء، تطور، أمن، حرية وإعادة إعمار مقابل دمار، انعدام أمن، قمع وفقر؛ نور مقابل ظلام، أمل مقابل يأس. يجب أن تصبح المنطقة الجديدة بديلاً، الخيار العقلاني والمفضل لسكان قطاع غزة، كأساس لمستقبل القطاع كله. وعندما ينتقل سكان غزة من شمال القطاع إلى جنوبه، مع سيطرة إسرائيلية على المعابر لمنع تسلل عناصر حماس إلى المنطقة الآمنة، ستفقد حماس أحد أهم مصادر قوتها، وكذلك حزامها البشري الواقي. والأهم من ذلك، ستضعف حماس فكرياً أمام البديل الذي سينشأ أمام أبوابها ويحل محلها.

لقيادة هذه المبادرة أهمية كبرى بوجود دعم أمريكي واتفاق إقليمي ودولي على شنّ حرب كاسحة ضد بقايا حركة حماس في بقية قطاع غزة، وردود فعل قاسية على انتهاكات حماس، من دون أن تستلزم بالضرورة مناورة برية مشابهة لتلك التي جرت في العامين الماضيين. في الواقع، الأمر يقتضي إدارة متوازية لنظامين ميدانيين داخل قطاع غزة، كلٌّ بما يميّزه من خصائص ومنطق أحياناً متعارض.

تنفيذ هذه الخطة – التي يوفر لها إطار ترامب ذي العشرين بنداً الأساس المبدئي – قد يسهِم في إنجاح الجهد العسكري لتفكيك حماس أو على الأقل إضعافها بشكل كبير ومستدام، فضلاً عن نزع سلاح القطاع. كما سيساعد ذلك في تهيئة الشروط العملياتية والسياسية للسيطرة التدريجية على المناطق التي تسيطر عليها حماس حالياً، في حال استمرّت المؤسسة في رفض التعاون مع إطار ترامب بينما تضعف عسكرياً أمام إسرائيل وتفقد الدعم الشعبي لصالح البديل

علاوة على ذلك، قد يصبح تنفيذ مبادرة إقامة مساحة حكم فلسطيني بديلة لحماس في الأراضي الخاضعة حالياً لسيطرة الجيش الإسرائيلي بمثابة “سقالة” مهمة لدفع رؤية الرئيس ترامب – أي إطلاق عملية صياغة هندسة إقليمية جديدة تتضمن تطبيعاً مع إسرائيل واندماجها في المنطقة -، مع إضعاف القوى المتطرفة.

ومع ذلك، فإن فرص نجاح هذا البديل، بالشكل الذي يخدم مصالح إسرائيل، تعتمد إلى حد كبير على استعداد إسرائيل لتمكين الصلة بالسلطة الفلسطينية (مع استمرار الضغط الإسرائيلي، وفي الواقع التذكير، على ضرورة تنفيذ السلطة إصلاحات)، وعلى انخراطها الفعلي في تهيئة شروط قيام دولة فلسطينية. ذلك يأتي استجابةً للشروط التي وضعتها المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات مقابل مشاركتهما في جهود استقرار قطاع غزة. مشاركة هاتين الدولتين حاسمة في القدرة على تشكيل الطابع السياسي والاجتماعي للمساحة الجديدة بروح نهجهما الاعتدالي، الذي يسعى لاستبدال عصر الحروب بعصر الاستقرار والتنمية الاقتصادية. وإلا، فحتى في هذه المساحة، ستكون قطر هي من يتصدر قيادة تشكيلها، مع إبقاء قوة حماس وتعزيز ثقافة الصراع تجاه إسرائيل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *