الحكم الذاتي في الصحراء والتجاذبات الإقليمية في المغرب العربي
بقلم توفيق المديني
يُعَدُّ قرار مجلس الأمن الصادر يوم الجمعة 31 تشرين الأول/أكتوبر 2025، الذي يعتبر الخطة المغربية التي منَحَتْ سكان إقليم الصحراء الغربية المتنازع عليه منذ عام 1975 تاريخ انسحاب الاستعمار الإسباني من المنطقة، حكماً ذاتياً واسعاً تحت السيادة المغربية، الأساس الوحيد لتسوية هذا النزاع..
إِذْ ينبغي أن تُبْنَى عليه المفاوضات المباشرة بين طرفي النزاع، أي المغرب وجبهة بوليساريو، يُعَدُّ تحولاً استراتيجياً في موقف هيئة الأمم المتحدة وكذلك الموقف الدولي عُمومَا من هذا النزاع، لا سيما بعد، عملية مقايضة الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء الغربية مقابل التطبيع مع الكيان الصهيوني، في العاشر من ديسمبر/ كانون الأول 2020، الذي جاء بعد عام من المفاوضات السرية الحثيثة التي شارك فيها على نحو خاص بدور بارز كلّ من صهر الرئيس الأمريكي جاريد كوشنرو المستشار الخاص للعاهل المغربي من أصل يهودي أندريه أزولاي.
واعتمد مجلس الأمن مشروع القرار الأمريكي بشأن الصحراء، المتعلق باعتماد مبدأ التفاوض على أساس مقترح الحكم الذاتي وتمديد مهام بعثة “مينورسو” عاماً واحداً، بعد تصويت 11 عضواً من أعضاء المجلس لصالحه، وامتناع ثلاثة أعضاء عن التصويت، مع عدم مشاركة الجزائر. واعتبر القرار الحكم الذاتي في الصحراء “الحل الأكثر واقعية”.
ويتبنّى مشروع القرار الأمريكي الذي وافق عليه مجلس الأمن موقفاً مؤيّداً لمبادرة المغرب المقدّمة عام 2007، والتي تنص على منح الصحراء حكماً ذاتياً تحت السيادة المغربية. ويدعو القرار الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس ومبعوثه الخاص ستيفان دي ميستورا إلى مواصلة المفاوضات “استناداً” إلى هذه الخطة.
الثمن الذي دفعه المغرب
اعتبر المغرب أنَّ تبني مجلس الأمن في قراره الأخير خطته لحل النزاع في الصحراء الغربية، انتصاراً دبلوماسياً كبيراً بعد نصف قرن من النزاع، إذ سارع الملك محمد السادس إلى إعلان أن المملكة ستعمل على “تحيين وتفصيل مبادرة الحكم الذاتي” التي سبق أن قدّمتها سنة 2007، لتكون “الأساس الوحيد للتفاوض”. وأكّد، في خطاب موجّه إلى الأمّة، أن المغرب لا يسعى لحل يقوم على الغلبة، بل لحلٍّ يحفظ ماء وجه الجميع، داعياً “إخواننا في مخيمات تندوف إلى اغتنام هذه الفرصة التاريخية لجمع الشمل والمساهمة في بناء مستقبل مشترك في إطار المغرب الموحّد”. وقد خرجت، عقب صدور القرار والخطاب الملكي الذي تلاه، مسيراتٌ احتفاليةٌ في مختلف المدن المغربية، تعبيراً عما اعتُبر لحظة اعتراف أممية بالمقاربة المغربية.
لكنَّ هذا “الانتصار المغربي” جاء كنتيجة تاريخية لمقايضة الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء بالتطبيع مع الكيان الصهيوني في خريف عام 2020، الأمر الذي غير موازين الملف رأساً على عقب. وقد نقلت وسائل إعلام مغربية بياناً منسوباً إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي، نتنياهو، يهنئ الرباط على “انتصارها الدبلوماسي”، ما دفع معارضي التطبيع في المغرب إلى التحذير من استغلال السلطة هذا القرار الأممي، لتبرير استمرار العلاقات مع تل أبيب ثمناً ضرورياً للاعتراف الدولي بسيادة المغرب على الإقليم المتنازع عليه.
وكان المغرب يسعى منذ 45 عاماً للحصول على اعتراف أمريكي بضم الصحراء الغربية لأراضيه، ولجأ لمساعدة الكيان الصهيوني واللوبي اليهودي في الولايات المتحدة لضمان ذلك. وكانت معارك جبهة البوليساريو ضد الجيش المغربي وصلت عام 1991 إلى طريق مسدود، بعد أن بنى المغاربة بمساعدة نصيحة ومعدات من إسرائيل جداراً في الثمانينيات، يصل طوله إلى نحو 1500 كيلومتر، يحيط بمعظم الصحراء الغربية، ويستخدمه لوقف الغارات ضد جيشهم، وبمساعدة الجنرال إيهود باراك.
ومع ذلك تفادى العاهل المغربي محمّد السادس في الخطاب الذي ألقاه أمام الشعب المغربي استخدام الخطاب “الانتصاري”، وقال وهو يصف ما تحقق: إنّ “المغرب لا يعتبر هذه التحوّلات انتصاراً، ولا يستغلّها لتأجيج الصراع والخلافات”، واكتفت كلمات الخطاب بتأطير اللحظة السياسية من حيث “حرص المغرب على إيجاد حلّ لا غالب فيه ولا مغلوب، يحفظ ماء وجه جميع الأطراف”.
وأوضح الملك محمد السادس أنَّ ثلثي الدول الأعضاء في الأمم المتحدة أصبحت تعتبر مبادرة الحكم الذاتي الإطار الوحيد لحل هذا النزاع، كما أنَّ “الاعتراف بالسيادة الاقتصادية للمملكة على أقاليمها الجنوبية عرف تزايداً كبيراً، بعد قرارات القوى الاقتصادية الكبرى كالولايات المتحدة الأمريكية، وفرنسا، وبريطانيا، وروسيا، وإسبانيا، والاتحاد الأوروبي بتشجيع الاستثمارات والمبادرات التجارية مع هذه الأقاليم”.
وفي السياق، وجه العاهل المغربي “نداءً صادقاً، لإخواننا في مخيمات تندوف، لاغتنام هذه الفرصة التاريخية، لجمع الشمل مع أهلهم، وما يتيحه الحكم الذاتي، للمساهمة في تدبير شؤونهم المحلية، وفي تنمية وطنهم، وبناء مستقبلهم، في إطار المغرب الموحد”، وتابع: “بصفتي ملك البلاد، الضامن لحقوق وحريات المواطنين، أؤكد أن جميع المغاربة سواسية، لا فرق بين العائدين من مخيمات تندوف، وبين إخوانهم داخل أرض الوطن”.
من جهة أخرى، دعا ملك المغرب الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون إلى “حوار أخوي صادق” بين المغرب والجزائر من أجل “تجاوز الخلافات، وبناء علاقات جديدة”، تقوم على “الثقة، وروابط الأخوة وحسن الجوار”، مجدداً “التزامه بمواصلة العمل، من أجل إحياء الاتحاد المغاربي، على أساس الاحترام المتبادل، والتعاون والتكامل، بين دوله الخمس”.
موقف جبهة البوليساريو والجزائر
أكَّدَتْ جبهة البوليساريو، في بيانٍ عقب قرار مجلس الأمن، الجمعة الماضي، الذي تبنّى مشروع قرار أمريكي يدعم خطة المغرب للحكم الذاتي في الصحراء الغربية، ويُجَدِّدُ تمديد مهمة “مينورسو” عاماً واحداً، أنَّها “لن تكون طرفاً في أي عملية سياسية أو مفاوضات تقوم على أي مقترحات تهدف إلى إضفاء الشرعية على الاحتلال العسكري المغربي غير الشرعي للصحراء الغربية، وحرمان الشعب الصحراوي من حقه غير القابل للتصرف وغير القابل للمساومة أو التقادم في تقرير المصير”، بحسب لغة البيان.
وحذرت الجبهة من “إمكانية أن يؤدي فرض خيارات بعينها إلى تأزيم الوضع وتعقيد النزاع”، وشددت على أن “المقاربات أحادية الجانب التي تسعى للتضحية بسيادة القانون والعدالة والسلام من أجل تحقيق مآرب سياسية قصيرة الأجل، لن تؤدي إلّا إلى تفاقم النزاع وتعريض السلم والأمن والاستقرار في المنطقة بأكملها للخطر”.
ووصفت البوليساريو بعض البنود التي وردت في قرار مجلس الأمن بأنَّها “انحراف خطير وغير مسبوق عن الأسس التي اعتمدها مجلس الأمن في تناوله لقضية الصحراء الغربية طبقاً للمبادئ الأساسية المُكرسة في ميثاق الأمم المتحدة، وتنتهك الوضع الدولي للصحراء”، وجدَّدَتْ في المقابل “استعدادها الدائم للتعاطي البناء مع المسار السلمي، والانخراط بإيجابية في عملية السلام والدخول في مفاوضات مباشرة مع الطرف الآخر، طبقاً لقرارات الأمم المتحدة الأخرى ذات الصلة”، وذكّرت في السياق بمقترحها الموسّع الذي قدمته إلى الأمين العام للأمم المتحدة في 20 أكتوبر/ تشرين الأول2025.
ما حقيقة النزاع في الصحراء الغربية؟
إنَّ موضوع النزاع، هو الصحراء الغربية، التي تقع في شمال غرب إفريقيا، وتبلغ مساحتها 284 ألف كيلومتر مربع، يحدها من الشمال المغرب، ومن الشــرق الجزائر، ومن الجنوب والجنوب الشرقي موريتانيا ومن الغرب المحيط الأطلسي. وتتكون من إقليمين متمايزين: الساقية الحمراء في الشمال ووادي الذهب في الجنوب. استعمرت الصحراء الغربية من جانب إسبانيا عام 1884 وحدودها الموروثة عن الحقبة الاستعمارية محددة بالاتفاقات المبرمة بين باريس ومدريد ما بين 1886 و1943.
تحتوي الصحراء الغربية على ثروات طبيعية مهمة جداً. ففي عام 1974 اكتشف الجيولوجي الإسباني، مانويل الياس مدينا مناجم الفوسفات في منطقة بوكراع الواقعة جنوب شرق مدينة العيون، ويقدر احتياطي هذه المنطقة بأكثر من 10 مليارات طن من الفوسفات، ونقاوته تتراوح ما بين 70% و80%. كما توجد فيها ثروات معدنية وباطنية مهمة: بينها النفط والذهب والفضة واليورانيوم والحديد والنحاس والقصدير، وأهم ثروة سمكية موجودة على الكرة الأرضية، إذ تمتد مساحتها لتشكل 150 ألف كيلو متر مربع وتضم أكثر من 150 نوعاً بحرياً، ما بين رخويات وحيتان وقشريات إلخ.
وفي الفترة الفاصلة بين 1953-1956 أي فترة الكفاح الوطني التحرري من أجل استقلال المغرب، انخرط آلاف الصحراويين في جيش التحرير المغربي، باعتبارهم مواطنين مغاربة، وكانوا يطمحون بعد استقلال المغرب عام 1956، إلى استمرار الكفاح الوطني لتحرير المناطق الثلاث الواقعة جنوب المغرب أو التي ظلت خاضعة تحت الاستعمار الإسباني (أفني، وترفايا والصحراء الغربية). وفي عام 1963، أدخلت اللجنة الخاصة لإزالة الاستعمار التابعة للأمم المتحدة الصحراء الغربية ضمن الأراضي الإقليمية التي يجب إجلاء الاستعمار عنها بناء على طلب المغرب.

من هنا نسوق الملاحظتين التاريخيتين:
الأولى: إن الإمبراطورية في المغرب كانت تحكمها سلطة مركزية، باعتبار وجود هذه السلطة السياسية ممثلة في حكم السلطان، هي الحامية لوحدتها الترابية. ومن المعروف تاريخياً أن معظم البلدان الأوروبية كانت تتعامل مع هذا السلطان أو ذاك في المغرب، بغض النظر عن علاقة سلطة السلطان بأقاليمه، وكيفية إدارتها.
غير أن التنافس الاستعماري الأوروبي على تقسيم العالم، لاسيما للقارة العذراء إفريقيا، جعل الصراع الاستعماري بين فرنسا وإسبانيا يتمحور حول المغرب، وانتهى في المحطة النهائية على تقسيم الإمبراطورية إلى مناطق نفوذ فرنسية وإسبانية، كان نصيب إسبانيا منها استعمارها للصحراء الغربية، وبسط نفوذها عليها، حتى تاريخ إبرام اتفاقية مدريد الثلاثية في عام 1975.
الثانية: إن ما هو ثابت في التاريخ، أن سكان الصحراء الذين تتحكم فيهم البنية القبلية، ليس ثمة مجال للشك في أصلهم وانتمائهم إلى الإمبراطورية التي كانت تقام في المغرب، وهم موحدون تاريخياً معها عبر مختلف المراحل التي مرت بها. وحتى هذه القبائل التي اشتهرت بقساوتها، بوصفها قبائل حربية، لم تشكل كياناً قائماً بذاته، خاصاً بها، الأمر الذي ينفي قطعياً قيام أي سلطة سياسية مستقلة في هذا الإقليم.
إذا كانت حدة الفعل والعنف الاستعماري الغربي، قد تركا أثراً أساسياً في تقسيم وتفتيت الكيان الموحد للمغرب، جغرافياً وسكانياً، فإنه يعد من باب التكيف والخضوع لواقع التقسيم الكولونيالي البغيض، أن تبحث جبهة البوليساريو ومن ورائها الجزائر عن هوية جديدة وخلق كيانية مصطنعة، ليست لها أية مقومات.. محاولة بذلك نفي التاريخ المادي السابق، كي تنطلق في البحث عن الكيانية والهوية، في تاريخ الاستعمار الغربي والفعل الإمبريالي الراهن، اللذين أفرزا تناقضات أساسية: التجزئة، والقطرية، والإقليمية، والتبعية، والتخلف، والكيان الصهيوني، والطائفية.. إلخ أصبحت مستحكمة في صراع الأمة العربية مع معسكر أعدائها، لتحقيق وحدتها السياسية، واستقلالها، وتقدمها.
خاتمة
في سياق هذه الوضعية التاريخية المعقدة برزت ثلاث ظواهر:
الأولى: ظاهرة الخوف المتبادل بين المغرب والجزائر، تغذيه في ذلك تناقضات سياسية وإيديولوجية
الثانية: انتهاج سياسة التطويق والمحاصرة المتبادلة، قوامها الهيمنة في سبيل حل الموضوع الجوهري، ألا وهو الخلاف على الحدود بين البلدين، وبفضل الحضور القوي للجزائر على المسرح الإفريقي وفي بلدان عدم الانحياز، ومناهضة الإمبريالية، فرضت سياسة الهيمنة في المغرب العربي.
الثالثة: بناء المحاور الإقليمية، وخلق موازين القوى التي تسمح بذلك، للحفاظ على السلطة داخليا، وخوض الصراع حاليا على الصحراء الغربية.. ولما كانت سياسة تشكيل المحاور، أساسها الهيمنة وكسب قضية الصحراء، باعتبارها القضية المركزية لكل من الجزائر والمغرب، فإنَّنا نجدها دائما متغيرة ومتحولة.
بيد أن حل قضية الصحراء الغربية بالطريقة الراديكالية يتمثل في إقامة التطبيع الكامل بين الجزائر و المغرب، وبالتالي تحقيق بناء الصرح الوحدوي المغاربي، الذي يحتاج بدوره إلى ثورة حقيقية: قوامها تحول الأنظمة المغاربية القائمة الآن إلى أنظمة ديمقراطية فعلياً، وبالتالي تخليها عن احتكار الوطنية والقبول بنقاش حر وعلني حول القضايا التي تعوق بناء الاتحاد المغاربي هذا داخل الهيئات الوطنية المنتخبة بصورة ديموقراطية. فهل إن الجزائر والمغرب مستعدان لإقامة سلام بينهما، وحل هذا النزاع الإقليمي وفق رؤية مغاربية وحدوية شاملة؟.
يعيش العالم اليوم عصر التكتلات والتجمعات الإقليمية في سبيل التعاون والتكامل الاقتصادي مع دول الجوار، لمواجهة الصراعات والمشكلات الاقتصادية التي تعانيها بالدرجة الأولى، وتحقيق التنمية وحرية التجارة وحرية انتقال رؤوس الأموال واليد العاملة…
وكانت بلدان المغرب العربي سَعَتْ للتأقلم مع هذه البيئة الدولية الجديدة، من خلال إقامة اتحاد إقليمي (عام 1989) يوحّد سياساتها ومواقفها وقراراتها الاقتصادية بشكل يكفل لها إرساء ركائز وقنوات صلبة تستفيد بها من المزايا الكثيرة الناتجة من تكثيف التدفقات التجارية بين مختلف بقاع العالم.
ولمَّا كانت تجربة بناء الاتحاد المغاربي اصْطَدَمَتْ بالإسقاطات المدمرة للنزاع في الصحراء الغربية، فهل يشكل القرار الأممي الجديد الذي يتبنى الخطة المغربية، تحولاً تاريخياً يمكن من خلاله محاولة الإجابة عن الإشكالية المطروحة في ما يتعلق بإعادة بناء الاتحاد المغاربي على الأقل في مجال التكامل الاقتصادي، في ظل ما تعرفه الساحة العالمية من تشابكٍ وتدافعٍ وتعقيدٍ في العلاقات الاقتصادية الدولية، والتي يحكمها منطق القوة والتكتلات الإقليمية؟.
