مصر.. هل يأتي الشر من الجنوب؟
ترجمة وإعداد: حسن سليمان
مقدمة
تُعَدّ مصر الدولة العربية الأكبر والأقوى في الشرق الأوسط، إذ يبلغ عدد سكانها أكثر من 110 ملايين نسمة، وتملك جيشاً واسع الموارد. وتنظر القاهرة إلى معاهدة السلام الموقعة عام 1979، التي شكّلت تحولاً دراماتيكياً في علاقاتها مع إسرائيل، باعتبارها خياراً استراتيجياً.
وفي الوقت نفسه، تسعى إلى قيادة العالم العربي في إدارة العلاقة مع إسرائيل، محافظةً على عقيدة أمنية ترى في إسرائيل مصدر تهديد مرجعي.
تركّز هذه المقالة على سلوك مصر في إطار معاهدة السلام، بما في ذلك خروقاتها المتكررة للملحق العسكري للاتفاق. كما تستشرف وجهة مصر المستقبلية في علاقاتها مع إسرائيل، وتخلص في الختام إلى تحديد الخطوات التي ينبغي على إسرائيل اتخاذها في المدى المنظور لتعزيز التزام مصر بالسلام، وفي الوقت ذاته الاستعداد بصورة أفضل لمواجهة التحدي القادم من الجنوب حتى لا يتحوّل إلى تهديد، أو لمواجهة احتماله إن أصبح كذلك.
الحروب ومعاهدة السلام
تعود جذور العلاقات بين إسرائيل ومصر إلى عمق الصراع العربي – الإسرائيلي. فقد شاركت مصر بدور محوري في حرب الاستقلال (1948)، وحملة سيناء (1956)، وحرب الأيام الستة (1967)، وحرب الاستنزاف (1967–1970)، وحرب يوم الغفران (1973)، حيث قادت المواجهة ضد إسرائيل. وقد أدّت حرب يوم الغفران إلى مفاوضات أفضت في نهايتها إلى توقيع معاهدة السلام بين إسرائيل ومصر.
تعتبر مصر حرب يوم الغفران، أو “حرب أكتوبر” كما تُعرف لديها، انتصاراً عسكرياً، إذ إن المرحلة الأولى منها شكّلت فعلاً إنجازاً عسكرياً مصرياً مهماً، خصوصاً بالنظر إلى الطريقة التي انتهت بها حرب الأيام الستة قبل ست سنوات فقط. ويذهب بعض المحللين إلى القول إن الرئيس أنور السادات خاض تلك الحرب منذ البداية بهدف تحقيق إنجاز محدود أمام إسرائيل يتيح له تأسيس قاعدة تفاوضية لعقد اتفاق من موقع قوة.
وقد مثّل الاتفاق، الذي أُبرم عقب زيارة السادات التاريخية إلى إسرائيل، انتقال مصر من دولة مواجهة متحالفة مع الاتحاد السوفييتي والكتلة الشرقية إلى دولة براغماتية تعتمد على الدعم الغربي، ولا سيما من الولايات المتحدة. واستندت معاهدة السلام إلى مبدأ “التطبيع مقابل الانسحاب الإسرائيلي من سيناء” (1982). وقسّمت الاتفاقية شبه جزيرة سيناء إلى أربع مناطق أمنية (A–D)، وقيّدت وجود القوات المصرية فيها، وأنشأت قوة متعددة الجنسيات (MFO) للإشراف على التنفيذ. ورغم ذلك، ظلّ السلام بين البلدين “بارداً”، إذ اقتصر التعاون التجاري على نطاق محدود، وبقيت العداوة الأيديولوجية قائمة بل ويبدو أنها تصاعدت مع مرور السنين، مما ينعكس حتى اليوم في الخطاب المصري تجاه إسرائيل.

ينصّ الملحق العسكري لمعاهدة السلام على انتشار القوات بطريقة تمنع وقوع هجوم مفاجئ، وفق التقسيم التالي:
المنطقة A (غرب سيناء) – فرقة واحدة قوامها نحو 22 ألف جندي
المنطقة B – قوات حرس حدود تضم نحو 4 آلاف جندي
المنطقة C (المتاخمة للحدود مع إسرائيل) – قوات شرطة مسلّحة بأسلحة خفيفة فقط
المنطقة D (في الجانب الإسرائيلي) – يُسمح فيها بوجود أربعة كتائب.
أما القوة متعددة الجنسيات المسؤولة عن تنفيذ المعاهدة (MFO) والتي تستند أساساً إلى إشراف الولايات المتحدة، فهي تتولى مهمة الرقابة والإبلاغ عن أي خروقات. إلا أن نشاط هذه القوة تقلّص في السنوات الأخيرة، خاصة أثناء المواجهات مع تنظيم “داعش”، وتزايد هذا التراجع في العامين الأخيرين خلال الحرب في غزة، إذ فُرضت عليها قيود على الدوريات وحركتها في المنطقة.
خريطة شبه جزيرة سيناء
أظهرت التقديرات الاستخباراتية، المستندة إلى معلومات علنية، أن مصر بدأت بانتهاك اتفاق السلام فور توقيعه. فقد عمل الجيش المصري وفق عقيدة دفاعية، فأنشأ تحصينات وحقول ألغام ومعسكرات في مناطق سيناء، وزاد عدد كتائب الجسور حتى تضاعف، وأقام مواقع رادار تغطي كامل شبه الجزيرة، في خرق صريح للاتفاق. وبهذا وسّعت مصر بنيتها العسكرية إلى ما يتجاوز ما نصّ عليه الملحق الأمني للمعاهدة.
أدّى سقوط الرئيس المصري حسني مبارك عام 2011، وصعود محمد مرسي من جماعة الإخوان المسلمين إلى الحكم عام 2012، إلى حالة من الفوضى في سيناء مع تغلغل عناصر تنظيم الدولة الإسلامية. وقد جند فرع التنظيم المعروف باسم “ولاية سيناء” آلاف المقاتلين، بينهم فلسطينيون من غزة، وحوّل شمال سيناء إلى ساحة جهاد عالمية. وأسفرت الهجمات عن مقتل مئات الجنود المصريين وتراجُع السياحة في سيناء بشكل حاد.
في عام 2013، نفّذ الجيش بقيادة وزير الدفاع عبد الفتاح السيسي انقلاباً على حكم مرسي، ثم انتُخب السيسي لاحقاً (2014) رئيساً للجمهورية. ومنذ توليه المنصب، عمل على تعزيز قدرات الجيش من خلال شراء كميات ضخمة من الأسلحة الحديثة وتنويع مصادر التسلّح. وعلى خلفية الحرب ضد تنظيم داعش، وسّع السيسي أيضاً من انتشار الجيش المصري في سيناء متجاهلاً على نحو متزايد القيود التي يفرضها الملحق الأمني. ومع مرور الوقت، أصبحت هذه الانتهاكات منهجية، فيما منحت إسرائيل موافقات لاحقة على معظمها، في محاولة للحفاظ على التعاون العسكري القائم في الحرب ضد الإرهاب.
في عهد السيسي بدأت حملة عسكرية واسعة تحت اسم “عملية سيناء 2018″، شملت ضربات جوية، وإغلاق الأنفاق في رفح الممتدة نحو غزة، وبناء “جدار سيناء” – وهو سياج ذكي بطول 40 كيلومتراً -. ثم جاءت “عملية سيناء 2020” لتوسّع نطاق النشاط العسكري، عبر تعزيز القوات بعشرات الآلاف من الجنود وشنّ غارات جوية على العديد من الأهداف. وقد شاركت إسرائيل مع مصر في تبادل المعلومات الاستخباراتية بشأن نشاط تنظيم داعش، بل ونفّذت (بحسب مصادر أجنبية) أكثر من 100 غارة جوية منذ عام 2015 ضد التنظيم في سيناء. ومع أن نشاط داعش تراجع في السنوات الأخيرة، فإن خلايا صغيرة لا تزال تعمل في شبه الجزيرة حتى اليوم.
وقد منحت هذه الحملة لمصر، ظاهرياً، شرعية للقيام بعدد كبير من الانتهاكات للملحق الأمني في معاهدة السلام. فتمّ زيادة حجم القوات في المنطقتين B وC من نحو 4 آلاف إلى أكثر من 20 ألف جندي، ونُقلت دبابات ومجنزرات، وأُقيم أكثر من 50 موقعاً ومعسكر تدريب، إضافة إلى إنشاء مخازن وقواعد ومهابط للطائرات العسكرية، وكل ذلك بالتوازي مع تقييد دوريات القوة متعددة الجنسيات (MFO) بحجة حمايتها، في مخالفة صريحة لبنود الاتفاق.
وكما ذُكر سابقاً، فإن معظم هذه الانتهاكات حظيت بموافقة إسرائيلية لاحقة، إذ اعتُبرت مبرَّرة ضمن إطار التعاون في الحرب على الإرهاب والمصلحة الأمنية المشتركة. غير أن هذه الموافقات خلقت واقعاً جديداً: فرضت مصر أمراً واقعاً على الأرض، وحوّلت سيناء إلى منطقة عمليات عسكرية، في تعارض مباشر مع الملحق العسكري لمعاهدة السلام.
في عام 2025 عاد تنظيم داعش إلى نشاط محدود، تمثّل في تنفيذ هجمات ضد القوات المصرية في رفح، من بينها هجوم في شهر تموز/يوليو أسفر عن مقتل 15 شخصاً. وقد ردّت مصر بضربات عنيفة، لكنها استغلت الأحداث لتبرير مزيد من التعزيزات في حجم القوات والوسائل العسكرية العاملة في سيناء، بما في ذلك إنشاء مدارج طيران جديدة في أمّ خشيبة تتيح هبوط مقاتلات 16 F-.
في الواقع، استخدمت الحملة ضد داعش ذريعة لبناء قدرات عسكرية تهدّد توازن القوى. أمّا إسرائيل، فقد كانت تخشى تسرّب أسلحة متطورة إلى قطاع غزة عبر سيناء، ما أدى إلى تعزيز التعاون الاستخباراتي بين الجانبين، لكنه في الوقت ذاته تسبب بتوتّر، إذ اتهمت مصر إسرائيل بالتصعيد في غزة.
ورأت مصر في داعش تهديداً داخلياً، بينما خشيت إسرائيل من صلات التنظيم بالفلسطينيين. وفي السنوات الأخيرة استمرّ التعاون الأمني بين مصر وإسرائيل، متضمّناً تبادل معلومات استخباراتية للإنذار المبكر، وتحديد الأهداف، وتنفيذ ضربات مشتركة ضد خلايا داعش. غير أنّ الانتهاكات المصرية المتمثّلة في تجميع قوات تتجاوز الحدود المسموح بها، وتعزيز واضح للدبابات والمجنزرات في المنطقة C، أخذت بالازدياد هي الأخرى.
يتّسم حكم الرئيس عبد الفتاح السيسي (منذ عام 2014) بتعزيز كبير لقوة الجيش المصري، الذي يبلغ قوامه حالياً نحو 450 ألف جندي نظامي و800 ألف جندي احتياط. ويرى السيسي في الجيش الركيزة الأساسية لنظامه، إذ يخصص له ما بين 5% و6% من الناتج المحلي الإجمالي (أي نحو 12 مليار دولار سنوياً). وتقوم استراتيجيته على شراء أحدث منظومات السلاح في العالم مع تنويع مصادر التسلّح، على الرغم مما يسببه ذلك من صعوبات لوجستية، وذلك لتفادي الاعتماد على مصدر واحد قد يقطع الإمدادات.
كما سعى نظام السيسي إلى اقتناء أسلحة متطورة تشمل آلاف الدبابات الأمريكية من طراز أبرامز التي تُصنَّع أيضاً في مصر، ومئات الدبابات الروسية 90 T-التي يتم تجميعها محلياً، إلى جانب غواصات وسفن حربية، وطائرات رافال فرنسية، ومقاتلات روسية من طراز سو وميغ – 35، فضلاً عن طائرات 16 F- الأمريكية.
يتجاهل السيسي القيود المفروضة على انتشار القوات والمعدات في سيناء، إذ يعمل على بناء أنفاق وجسور إضافية تتيح عبور القناة، وإنشاء شبكة طرق جديدة في سيناء تخدم في الظاهر الحركة المدنية، لكنها تمكّن أيضاً من نشر سريع للقوات في حال الطوارئ، إلى جانب تعزيز القوات العسكرية في المنطقتين B وC وغيرها من التحركات.
وفي عام 2025، وخلال زيارة وزير الدفاع المصري إلى قيادة المنطقة الغربية (على الحدود مع ليبيا)، تحدث الوزير عن “الجاهزية لمنع طرق الملاحة إلى إسرائيل”. كما قامت مصر في تلك السنوات بتوسيع وتعميق ثلاثة موانئ، من بينها ميناء رفيد الجديد، الذي يمكن أن يشكل تهديداً للملاحة التجارية مع إسرائيل. ويشمل هذا التعزيز أيضاً رفع مستوى تدريبات الوحدات وتنظيمات الجاهزية القتالية للفرق العسكرية.
الانتقال إلى نهج هجومي في سيناء
ابتداءً من عام 2020، ظهرت شكوك تشير إلى أن الجيش المصري انتقل إلى بناء بنى تحتية تتيح له تنفيذ عمليات هجومية ضد إسرائيل، متجاوزاً بذلك العقيدة الدفاعية التقليدية التي اتّبعها في شبه جزيرة سيناء. ومن أبرز المؤشرات على هذا التحول: زيادة عدد الوحدات القتالية في الجيش بنسبة 30%، ونقل المخازن العسكرية التي كانت تقع غرب النيل بتكلفة مرتفعة، وإنشاء مخازن جديدة، بما في ذلك منشآت تخزين تحت الأرض، في سيناء وعلى الضفة الغربية لقناة السويس. وتتمتع هذه المنشآت بقدرة على تخزين مئات الصواريخ الباليستية، بما فيها صواريخ سكود القادرة على الوصول إلى وسط إسرائيل.
كما ازداد عدد الاستعراضات العسكرية على مستوى الفرق ليصل إلى ستة استعراضات سنوياً، منها أربعة لفرق مدرعة. وتم إنشاء مطارات جديدة وتوسيع القائم منها لتخدم القدرات العسكرية في أم حشيبة، ورفيديم، والعريش. وأُقيمت مستودعات وقود ضخمة في سيناء لا تُستخدم لأي غرض مدني، كما زادت مصر بشكل ملحوظ عدد ناقلات المدرعات في جيشها، وبُنيت مطارات مخصصة للاستخدام العسكري، إلى جانب توسيع كبير في الموانئ البحرية.
وقد أدت هذه الخطوات، إلى جانب تصريحات متصاعدة الطابع العدواني صادرة عن مسؤولين مصريين وشخصيات إعلامية قريبة من النظام، إلى تزايد القلق في إسرائيل. ومؤخراً، كُشف أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو طلب من وزير الخارجية ومستشار الأمن القومي الأمريكي، ماركو روبيو، ممارسة الضغط على مصر لتقليص وجودها العسكري في سيناء، وذلك بعد اكتشاف منشآت تحت أرضية لتخزين الصواريخ.
حرب “سيوف الحديد” حوّلت سيناء إلى ساحة مركزية للأحداث. فقد نشرت مصر قوات كبيرة وعزّزت الحاجز القائم على الحدود في رفح، خشيةً من تدفّق موجات من اللاجئين من قطاع غزة باتجاه أراضيها في سيناء. وقبيل دخول الجيش الإسرائيلي إلى رفح واحتلالها في أيار/مايو 2024، وبعد العملية أيضاً، نشرت إسرائيل قوات كبيرة في المنطقة، وهو ما اعتُبر في القاهرة خرقاً للملحق العسكري المتعلق بالمنطقة D، الأمر الذي أدى إلى ردّ مصري تمثل بزيادة إضافية في حجم القوات المصرية في سيناء إلى نحو 40 ألف جندي، إضافةً إلى نشر مزيد من الوحدات العسكرية والعربات المدرعة في منطقتي رفح والعريش.
إلى أين تتجه مصر؟.. نظرة استشرافية
منذ عدة سنوات، تعمل مصر على تعزيز قدراتها العسكرية في شبه جزيرة سيناء. فإلى جانب الزيادة في عدد الوحدات والمركبات المدرعة، يجري تعزيز البنى التحتية التي يمكن أن تشكل، عند الحاجة، قاعدة إمداد لقوات أكبر بكثير. إن توسيع المعابر عبر قناة السويس، وبناء الجسور والأنفاق والطرق الموصلة، إلى جانب إنشاء المعسكرات ومرافق التخزين ومستودعات الوقود والأنفاق الخاصة بالصواريخ والمطارات العسكرية، كلها خطوات تمكّن الجيش المصري من تشكيل تهديد جدي على دولة إسرائيل.
إن حاجة مصر إلى محاربة تنظيم “داعش”، والدور المصري في تطبيق الاتفاق مع حركة حماس، يدفعان إسرائيل إلى اتباع نهج متساهل تجاه الخروقات المصرية المستمرة والمتزايدة للملحق العسكري في اتفاقية السلام. ويمكن تفهّم غياب الاهتمام الكافي بالتهديد المصري خلال العامين الماضيين في ظل انشغال إسرائيل بالعمل في سبع جبهات قريبة وبعيدة. ومع ذلك، فإن الدرس الأهم المستفاد من أحداث السابع من تشرين الأول/أكتوبر هو ضرورة الاستعداد الدائم لقدرات الأعداء المحتملين وعدم السماح بالمفاجأة من جديد.
مصر لا تُصنَّف كدولة عدو، ولإسرائيل معها اتفاق سلام يمتد لأكثر من أربعين عاماً. ومع ذلك، تمتلك مصر جيشاً كبيراً وحديثاً، وتستثمر في تقويته بشكل مستمر، وتعزز حضورها واستعدادها العسكري في سيناء. تهديد المرجعية الذي يستخدمه الجيش المصري في تدريباته هو الجيش الإسرائيلي، والحدّ الأدنى الواجب علينا هو التأكد من ألا نُفاجأ مرة أخرى من جانب مصر.
من وجهة نظرنا، وبالنظر إلى التزامها الأساسي باتفاقية السلام ووضعها الاقتصادي واعتمادها على الولايات المتحدة، يصعب توقع هجوم مصري مفاجئ وشامل على المدى القريب، إلا أن الجيش مطالب بالاستعداد أيضاً لسيناريوهات المفاجأة، لا سيما بعد أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول. على مدى سنوات طويلة أخفق جيش الدفاع في الاهتمام بالساحة المصرية، سواء في البحث الاستخباراتي، أو في بنى الخرائط والتعريفات، وفي بنك الأهداف، أو في التخطيط العملياتي، ولو في مرحلة أولى لوضع خطط دفاعية فعّالة. ولتحقيق ذلك، لا بد من تغيير سيناريو التهديد المرجعي، وتحديث المنظومة الاستخباراتية، وتنفيذ نشاط تخطيطي عملياتي وتدريبات ملائمة على مستوى القادة والقيادات، مع الحيطة اللازمة.
المرحلة الأولى والأهم هي تعميق وتوسيع البحث الاستخباراتي حول الجيش المصري، مع التركيز على وجوده في سيناء، ودمج محتوى ذي صلة في برامج تدريب القيادات، وإجراء تدريبات تحاكي هذه المضامين في تمارين القيادات والأركان. وفي الوقت نفسه، ونظراً لانتهاء المرحلة الحالية من القتال في قطاع غزة، يجب التأكد من أن القوة متعددة الجنسيات في سيناء تعود إلى ممارسة مهامها بشكل كامل وفقاً للتفويض الممنوح لها، مع تعزيزها عند الحاجة، وممارسة ضغط على مصر لإعادة الأوضاع في سيناء إلى ما كانت عليه، وفقاً لما تم الاتفاق عليه في الملحق العسكري لمعاهدة السلام. ومن الممكن بل من المستحسن استغلال رغبة مصر في أن تكون جزءاً من العملية الإقليمية التي أعلن عنها الرئيس ترامب، والاستعانة بالدعم الأمريكي لضمان تصحيح تلك الخروقات.
إلى جانب ذلك، نشهد في الآونة الأخيرة تصاعداً في عمليات التهريب عبر الحدود مع مصر – تهريب أسلحة يتم بالتعاون مع قبائل بدوية في النقب الغربي -. ولا يزال من غير الواضح ما إذا كانت هذه العمليات تُنفَّذ بتشجيع أو بتعاون مباشر، أو بتغاضٍ من السلطات المصرية أو الجيش في شبه الجزيرة. ومع ذلك، ينبغي النظر إلى هذه التهريبات بجدية، باعتبارها جزءاً من شبكة تهديد متكاملة تهدف إلى تعزيز الخطر المحدق بإسرائيل.
وبناءً على ما سبق، تَحتمُ ضرورةُ اتخاذِ إجراءات حاسمةٍ أيضاً لمواجهة هذا التهديد على الصعيدَين الاستخباراتي والعملي. وبما أن مواطنين إسرائيليين متورطون، فالأمر يتطلّب تعاوناً شاملاً بين جميع الجهات المعنية، منها الجيش الاسرائيلي، جهاز الشاباك، شرطة إسرائيل، مصلحة الضرائب والجهات ذات الصلة الأخرى. وتُظهر الخبرة السابقة أن تفعيل الأجهزة المهنية المختلفة بفاعلية يَستلزم العمل في إطار قيادة موحّدة ومُنسَّقة. واحدة من السبل الممكنة إنشاءُ إدارةٍ موحّدة ومخصّصة للتعامل مع المشكلة. ويمكن لهذه الإدارة أن تستند إلى موارد القوة البشرية القائمة في الجيش الإسرائيلي، ووزارة الأمن القومي، ووزارات حكومية أخرى. وفي مرحلة لاحقة، يمكن أن تتولّى هذه المنظومة مسؤوليةَ منعِ عملياتِ التهريب أيضاً على الحدود مع الأردن.
الخلاصة
على الرغم من التزام مصر باتفاقية السلام مع إسرائيل، فإنها تُعَدّ تهديداً محتملاً: دولة إسلامية تملك جيشاً غربيّاً متطوراً، وتعاني من مشكلات داخلية عديدة، وقد تلجأ – انسجاماً مع التقاليد السياسية في العالم العربي – إلى توجيه الضغوط الداخلية نحو تأجيج الكراهية ضد إسرائيل. كما أن نظام الحكم فيها ينتهك باستمرار، وعلى مدى سنوات طويلة، الملحق العسكري لاتفاقية السلام فيما يخص شبه جزيرة سيناء، في حين يَعتبر جيشها الجيشَ الإسرائيلي نموذجَ التهديد المرجعي في تدريباته.
لقد أدّت الحرب في غزة خلال العامين الأخيرين إلى تصعيد الخطاب العدائي ضد إسرائيل وإلى زيادة الوجود العسكري المصري في سيناء. ومع ذلك، فإن الخوف المشترك من جماعة الإخوان المسلمين – التي تُعَدّ حركة حماس فرعاً تابعاً لها – إضافة إلى الفرص الاقتصادية التي تُتاح لمصر في ضوء الاتفاق والرؤية الإقليمية التي طرحها الرئيس ترامب، تمثل فرصة حقيقية لتحسين العلاقات بين الجانبين.
على دولة إسرائيل والمؤسسة الأمنية والعسكرية أن يعملا بالتوازي في مسارين:
أولاً: على الصعيد الدبلوماسي- تعميق الحوار مع مصر من جهة، وممارسة ضغوط لتصحيح خروقات الاتفاق وتغيير الخطاب المصري تجاه إسرائيل كشرط لمشاركة مصر في أي تسوية أو اتفاق إقليمي من جهة أخرى؛
ثانياً: على الصعيد الأمني – توسيع البحث الاستخباراتي بشكل ملموس والاستعداد للرد على التحدّي الذي قد تمثّله مصر وفق المسائل التي بيّناها آنفاً. وفي الوقت نفسه، يجب العمل على إيقاف عمليات التهريب عبر الحدود. لا بدّ لإسرائيل من التحلّي بيقظة عالية، لأن “السلام البارد” قد يتحوّل إلى مفاجأة استراتيجية، ومن “أحرق من الماء المغلي عليه ان يحذر من البخار الساخن”.
مركز القدس للاستراتيجية والأمن – العقيد (احتياط) البروفيسور غابي سيبوني والعميد (احتياط) إيريز فينر
