إقليميات

الدور الإقليمي لمصر في السودان

بقلم توفيق المديني

قالت الخارجية، إن الزيارة جاءت بتوجيهات من الرئيس عبد الفتاح السيسي، وأن الوزير أكد “دعم مصر الكامل قيادةً وشعباً للسودان الشقيق اتساقاً مع الروابط التاريخية والأخوية التي تجمع البلدين الشقيقين “. كما شدَّد على “تضامن مصر الكامل مع السودان ودعم استقراره وأمنه وسيادته ووحدة وسلامة أراضيه ومؤسساته الوطنية ومقدرات الشعب السوداني، وعلى رأسها القوات المسلحة السودانية”.

وأكد عبد العاطي بحسب البيان عن دعم مصر الكامل لـ “حكومة الأمل”، مشدداً على إدانة مصر للانتهاكات والفظائع في مدينة الفاشر، ومواصلة مصر جهودها لتحقيق الاستقرار في السودان الشقيق، والانخراط بصورة فاعلة في الجهود الهادفة لوقف إطلاق النار في السودان ووضع حد لمعاناة الشعب السوداني الشقيق سواء في الإطار الثنائي أو المحافل الاقليمية والدولية وفي مقدمتها الرباعية الدولية.

وشدد الوزير المصري على أن “مصر تتواصل مع كافة الأطراف الإقليمية والدولية، لتعزيز الجهود الرامية للوصول لتسوية شاملة للأزمة السودانية، بما يصون مقدرات الشعب السوداني ويحقق تطلعاته في الأمن والاستقرار”، بحسب البيان.

ولما كانت مدينة الفاشر تحتل موقعاً استراتيجياً في السودان، نظراً لارتباطها بشبكة حدودية دولية، واحتضانها كتلة سكانية كبيرة، فقد شكل سقوطها نقطة تحوّل في مسار الحرب أعاد تشكيل موازين القوى العسكرية والسياسية، ما لم تتمكّن حكومة الخرطوم من احتواء تداعياته.

فسقوط الفاشر، يمنح السيطرة الكاملة لقوات الدعم السريع على إقليم دارفور، إلى جانب أجزاء واسعة من إقليم كردفان، تفوّقا ميدانيا واضحا يعيد تشكيل الخريطة العسكرية في السودان. ولا يقتصر هذا التوسّع الجغرافي على اتساع المساحة العملياتية تحت سيطرتها، بل يعزز قدرتها على المناورة وتنفيذ عمليات هجومية متعدّدة المحاور، ويُسهم في انكشاف الجبهة الغربية للقوات المسلحة، خصوصاً مع تراجع خطوط الإمداد والدعم.

تقدم قوات الدعم السريع للسيطرة على مدينة بابنوسة

منذ استيلاء قوات “الدعم السريع” على مدينة  الفاشر الاستراتيجية عاصمة ولاية دارفور الشمالية  في 26 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، ما جعل ولايات إقليم دارفور الخمس خاضعة لـ”الدعم”، ارتكبت تلك المليشيات مجازر بحق مدنيين بحسب منظمات محلية، وتصاعدت المعارك والغارات الجوية بين الجيش السوداني وقوات  “الدعم السريع” في عدد من المناطق السودانية، خلال الفترة الماضية، وسط غموض يكتنف مصير الهدنة الإنسانية لمدة ثلاثة أشهر، المقترحة من الوسطاء الدوليين (الرباعية؛ مصر والولايات المتحدة والإمارات والسعودية) والتي وافقت عليها قوات “الدعم” شكلياً بعدما وسعت تحركاتها في إقليم كردفان جنوب وسط البلاد عبر هجمات بالطائرات المسيّرة والقصف المدفعي، في وقت واصل الجيش شن غارات جوية على معاقل “الدعم” في إقليم دارفور غربي البلاد.

وشنت قوات “الدعم السريع”، مع بداية هذا الأسبوع هجوماً على مدينة بابنوسة في ولاية غرب كردفان التي تحاصرها منذ أشهر. وقالت صحيفة “التغيير” السودانية الإلكترونية إن “الموقف في مدينة بابنوسة بولاية غرب كردفان – غربي السودان – تصاعد بعد تقدم قوات الدعم السريع وفرضها حصاراً جديداً على مواقع الجيش والفرقة 22 التابعة له”.

وتعاني بابنوسة منذ أشهر من حصار خانق فرضته قوات الدعم السريع التي تقاتل الجيش منذ العام 2023 ما تسبب في أزمة غذاء ودواء حادة. وتسيطر “الدعم السريع” على معظم مناطق غرب كردفان، بما في ذلك الفولة، النهود والخوي، في حين لا يزال الجيش يسيطر على بابنوسة وحقول النفط في هجليج. ومنذ بدء الحرب في 15 نيسان/ أبريل 2023، ظلت بابنوسة تشهد معارك مستمرة مما أدى إلى وقوع المئات من القتلى والجرحى وسط المدنيين.

ولأسباب وقائية أخلى معظم سكان بابنوسة منازلهم في حركة نزوح غير مسبوقة بعد استمرار المواجهات العسكرية الدامية داخل وخارج المدينة. وقد نزح آلاف المدنيين وسط ظروف إنسانية وصحية بالغة التعقيد، مع مناشدات بضرورة فتح ممرات آمنة لحركة المواطنين ووصول المساعدات الإنسانية بشكل عاجل. وتكتسب مدينة بابنوسة أهمية استراتيجية كبيرة إذ تقع على خط السكة الحديد الذي يربط بين كوستي في ولاية النيل الأبيض ونيالا وصولا إلى مدينة واو في جنوب السودان. 

تداعيات التطبيع على العلاقات المصرية – السودانية

على الرغم من أنَّ مصر تُعَدُّ أول دولة عربية تطبع علاقاتها مع الكيان الصهيوني منذ إبرام اتفاقيات كامب ديفيد عام 1979، فإِنًّهَا مع ذلك غير مرتاحة للتطبيع الجاري بن السودان والكيان الصهيوني، نظراً لأوضاع السودان المعقدة، إذْ تعيشُ سلطته في ظل مرحلة انتقالية، وتحتاجُ لمساعدات كبيرة يمكن أن يقدمها الكيان الصهيوني من خلال علاقاته القوية بالولايات المتحدة، فتضطر الخرطوم لتقديم تنازلات مقابل ذلك، قد تأخذ طابعاً سياسياً وأمنياً مزعجاً للقاهرة.

مصر لا تستبعد تأثير علاقات الكيان الصهيوني مع السودان على مصالحها الحيوية في المنطقة، وهو ما جعل القاهرة تضاعف من التعاون مع الخرطوم، لأنَّها تشك في نوايا الصهاينة الاستراتيجية. ففي أدبيات المؤسسة العسكرية وأجهزة المخابرات المصرية، لا يزال الكيان الصهيوني يعتبر العدو الرئيسي لمصر، والحال هذه لا تستبعد مصر تأثير علاقاته مع السودان على مصالحها الحيوية في المنطقة، وتراه القاهرة خطرا على أمنها القومي في هذه الزاوية، وهو ما جعل القاهرة تضاعف من التعاون مع الخرطوم، وتحاول تصحيح الأخطاء السابقة، الأمر الذي ينسجم مع رغبة السلطة الانتقالية السودانية في الهدوء وتعدد مراكز القوى الإقليمية لديها.

فقد نجحت السلطة الانتقالية السودانية بشقيها المدني والعسكري في بناء جملة من التوازنات الدقيقة، مكنتها من تجاوز سلسلة كبيرة من العقبات اعترتها منذ تأسيسها قبل نحو عام ونيف، وأسهمت في تخفيف نسبة الضغوط التي طالبتها باستعجال التوقيع على اتفاق السلام في الداخل مع المنظمات التي حملت السلاح ضد الدولة. بموجب هذه التوازنات بدأ السودان يتخطى المشكلات التي تناثرت على جانبي المفاوضات. حيث أمعنت بعض الحركات المسلحة في رفع سقف مطالبها السياسية والاقتصادية، وحاولت أخرى توظيف العثرات والارتباكات لتفشيل المرحلة الانتقالية.

فقد راهن رئيس المجلس العسكري الانتقالي الفريق البرهان على التطبيع مع الكيان الصهيوني باعتباره خطوة مهمة لرفع اسم السودان من القائمة الأمريكية للدول الراعية للإرهاب، لأن هذه الخطوة تمثل حياة للاقتصاد الذي يعاني من أزمات كبيرة، حسب وجهة نظر السلطة الانتقالية السودانية والأحزاب والمنظمات المؤيدة للتطبيع، التي راهنت في غالبيتها على ظهور دولة حديثة، تتنصل من الميراث الذي شدها إلى الخلف، ويتعلق بالتوترات والحروب الأهلية الواسعة، والعلاقة مع التنظيمات المتطرفة. والحال هذه، وضعت السلطة السودانية آمالها على الولايات المتحدة في ولم يعد المواطنون قادرين على تحمل المزيد من التداعيات السلبية، ووجدوا في التسويات المادية التي عقدتها الخرطوم مع واشنطن بشأن القضايا الخلافية وسيلة لتخفيف هذه المعاناة.

وكان التعامل مع قضية التطبيع أحد أبرز التحديات التي واجهت السودان قبل بضع سنوات، لأن من طرحوه ومن تعاملوا معه تصوروا أنَّه قادرٌ على تسوية جميع الأزمات، وكأنه الفانوس السحري الذي يعبر بالبلاد إلى بر الأمان. ومهما كان التقدير حياله، فهو خطوة كبيرة، تحتمل أن تكون قفزة في الهواء، لأنَّ السلطة الانتقالية لم تستقر بعد، وها هي تواجه اليوم خطر تقسيم السودان.

ما يحتاج تسليط الأضواء عليه حالياً هو انعكاسات التطبيع على علاقات الخرطوم بالقاهرة التي تتشارك معها في الاتجاه نفسه، حيث تقيم الثانية علاقات سياسية مع الكيان الصهيوني منذ أربعة عقود، وبدأت تتطور روابطها مع السودان مؤخراً، وأخذت أشكالا عديدة من التعاون والتنسيق.

يبدو البرهان راغباً في أنْ يسير على خطى السيسي في ترتيبات الصعود إلى قلب السلطة، فهناك تشابه في كثير من المقاطع بينهما، ويمثل توثيق العلاقات مدخلا مناسبا للوصول إلى صيغة قريبة، وبناء حائط إقليمي يسهم في تجاوز بعض التحديات التي يواجهها الرجل على صعيد الحكم مستقبلا، وآليات الحصول على شبكة أمان خارجية.

يواجه رئيس مجلس السيادة عقبات كبيرة في سبيل تحقيق هذه الأمنية، أبرزها وجود هواجس تاريخية من قبل بعض القوى السياسية حيال مصر، ولن تستطيع الخرطوم تجاوزها إلا بالتوصل إلى تفاهمات مختلفة ومغرية مع القاهرة، تشمل النواحي الأمنية، لأن السودان محاط بمجموعة من الأزمات، ويتعرض لتهديدات كبيرة من جانب قوات “الدعم السريع التي فجرت عواصف داخل البلاد تهدد بتقسيم السودان، ويحتاج للتعاون مع مصر لكبح جماح هذه القوى، ومنع استثمارها للأوضاع المتدهورة في البلاد.

يعد اقتراب رؤية الخرطوم من القاهرة في ملف سد النهضة الإثيوبي واحدة من التطورات التي تعزز التعاون بينهما، فقد أذابت هذه المسألة الكثير من الفجوات السابقة، وفتحت طاقة أمل لمزيد من التنسيق، مع مراعاة ألا يصل ذلك إلى مستوى يؤثر سلبا على العلاقة مع أديس أبابا، وهو ما يمثل أحد أبعاد الحيرة التي تبحث لها الخرطوم عن وسيلة لخروج آمن منها. في الوقت الذي يعوّل فيه الكيان الصهيوني على التطبيع مع السودان لتحقيق المزيد من التغلغل الصهيوني داخل بلدان القرن الإفريقي، وفي باقي البلدان الإفريقية الواقعة في وسط وشرق القارة، يريد السودان التقاط الأنفاس، لأن السلطة فيه انتقالية ومكبلة بقيود عديدة، وتخشى الانخراط في التطبيع فتكون له ارتدادات لا تستطيع تحمل تبعاتها على المدى البعيد.

تجد طبقة سياسية كبيرة في السودان، أن الخروج من هذه الحيرة يأتي من تكرار النموذج المصري في التطبيع مع الكيان الصهيوني إلى حين استشفاف أبعاد العلاقات في المستقبل، حيث حصرت القاهرة (تقريباً) ملف التطبيع في نطاق العلاقات الدبلوماسية، وفرغته من مضامينه الجوهرية، وحجمت الكثير من جوانبه الاقتصادية والأمنية، واستندت في ذلك إلى رفض شعبي عارم، رفع شعارات متباينة ضد التطبيع.

من هنا تظهر حيرة أخرى مع مصر تقود إلى أن السودان ربما يستقر على دبلوماسية بها الكثير من الدفء مع القاهرة، ووصوله إلى درجة السخونة يتوقف على ما يقدمه كل طرف للآخر، وربما تفرض المصالح تفاهمات عدة، غير أنها معرضة لتصطدم بمتغيرات إقليمية أمامها بعض الوقت لتتضح معالمها، فالسيولة الراهنة لن تمكن أحدا من الأطراف حسم خياراته سريعاً.

يحافظ الكيان الصهيوني، الذي يعول على السودان، على درجة من الدفء أيضاً، تمكنه من انتظار استجلاء الأمور، وقياس المدى الذي يمكن أن يذهب إليه مع الخرطوم، فهو يريد أن يستفيد من الأزمات لتدشين مقاربات واعدة في مجالات متنوعة، لكن لا يضمن الثبات والتغير في المشهد الحالي، لذلك سوف تبقى حيرة السودان مستمرة حيال كل من مصر والكيان الصهيوني إلى حين التعرف على التوجهات العامة في المنطقة.

خاتمة

يُعَدُّ ملف الأزمة السودانية ملف أمن قومي لمصر، إذ تؤكد الدبلوماسية المصرية على تأييد مؤسسات الدولة الرسمية السودانية لكنَّ بشكلٍ عمليٍّ، فإنَّها تدعم طرفاً داخل هذه المؤسسة، ما يعني الحفاظ على نفوذ مباشر. وترفض مصر التدخل الأجنبي في السودان، لكنَّها في الوقت عينه تسعى لتوسيع عملها الاقتصادي والعسكري في السودان.

فهناك ملفات إضافية أهمها “ملف اللاجئين والنازحين السودانيين في مصر نتيجة للحرب” في السودان، تثير مشكلة حقيقة لمصر، حيث تتعامل القاهرة مع هذا الملف بنوع من الحذر، لأنَّ من الواضح وفي ضوء المعطيات الراهنة أنَّ اللاجئين لن يعودوا قريبا إلى السودان.

ومصر إذا أرادت أن ترتاح من ملف اللاجئين فعليها أن تبذل قصارى جهدها لإغلاق باب الحرب، لأنَّ الدور المصري في السودان يميل بوضوح للحفاظ على المصالح الاستراتيجية أكثر من كونه يسعى لوقف نزيف الحرب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *