التحالف السوري – الأمريكي الجديد.. واشنطن تصنع “حليفاً بديلاً” لإسرائيل
بقلم زينب عدنان زراقط
لم تكن زيارة أحمد الشرع إلى واشنطن حدثاً مفاجئاً بقدر ما كانت تتويجاً لمسارٍ يتجاوز حدود البروتوكول الدبلوماسي بدأ منذ لحظة سقوط نظام بشار الأسد. فخلف المشهد الرسمي للقاءات البيت الأبيض، تتكشف حقائق أعمق عن دور أمريكي خفي في صناعة النظام السوري الجديد.
الشرع الذي لم يصل إلى الحكم بالصدفة، بل ضمن هندسة سياسية أمريكية – غربية معقّدة رأت فيه واجهة مقبولة: مقاتل سابق يملك شرعية ميدانية، وقائد “براغماتي” قادر على استبدال دمشق القديمة بنظام يمكن تطويعه لخدمة مصالح البيت الأبيض.
فالرجل الذي ارتبط اسمه في بدايات الأزمة السورية بالجماعات الجهادية، يقف اليوم على منصة البيت الأبيض مصافحاً الرئيس الأمريكي، في مشهد يرمز إلى تحوّل عميق في موازين القوى الإقليمية. هذه الزيارة، التي وصفها الإعلام الأمريكي بـ “التحوّل المذهل” تفتح الباب أمام أسئلة كبرى: هل نشهد ولادة تحالفٍ جديد يغيّر قواعد اللعبة في الشرق الأوسط؟ هل تصبح سوريا منطقة نفوذ أمريكية جديدة تُستخدم للضغط على “المقاومة” عِوضاً عن إسرائيل؟.
تفاصيل الزيارة…
الشرع دخل البيت الأبيض في العاشر من نوفمبر 2025 من الباب الخلفي، لا من الممر الرسمي الذي يُستقبل فيه رؤساء الدول. وقد قرأ المراقبون هذا المشهد كرسالة رمزية من واشنطن: “نحن من أدخلكم إلى هذا المكان، ونحن القادرون على إخراجكم منه”. هذا الدخول غير التقليدي لم يكن مسألة بروتوكول، بل تجسيداً لحقيقة أن الشرع لم يُعامل كندٍّ سياسي متكافئ، بل كأداة ضمن مشروعٍ أمريكي أكبر لإعادة بناء الشرق الأوسط بعد تراجع فعالية إسرائيل في أداء دورها التقليدي كـ “شرطي المنطقة”. اللقاء أسفر عن اتفاقات مبدئية: تعليق جزئي للعقوبات، بدء التنسيق الأمني بين دمشق وواشنطن، وانضمام سوريا إلى التحالف الدولي ضد داعش، مقابل التزام غير معلن بمراقبة الوجود الإيراني في الجنوب السوري وضبط نشاط المقاومة على الحدود اللبنانية.
تُظهر الوثائق الأمريكية المسربة والتحليلات الصادرة عن Washington Institute أن رفع اسم سوريا عن قائمة “الدول الراعية للإرهاب” لم يكن خطوة مجانية، بل مشروطة بتعاون أمني واستخباري موسّع. الولايات المتحدة، التي تبحث عن مخرج من مستنقع الشرق الأوسط بعد تراجع نفوذها في العراق وأفغانستان، وجدت في دمشق بوابة لإعادة التموضع عبر “تحالف مكافحة الإرهاب”.
من متهم بالإرهاب إلى مشرّع لمحاربته
تاريخ العلاقة بين الشرع والولايات المتحدة لا يبدأ في نوفمبر 2025. فوفقاً لتقارير ميدانية متقاطعة، لعبت الاستخبارات الأمريكية دوراً في تأمين صعود الجناح “المنفصل عن القاعدة” داخل هيئة تحرير الشام، الذي قاده الشرع لاحقاً تحت غطاء محلي. ومع انهيار النظام السابق، دعمت واشنطن هذا التيار بوسائل غير مباشرة عبر قنوات تركية وخليجية، معتبرة أن شخصية مثل الشرع قادرة على تقديم صورة “إسلامية معتدلة” لسوريا الجديدة، تكون مقبولة دولياً ويمكنها فصل دمشق عن طهران ومحور المقاومة. بهذا المعنى، لم تكن زيارة الشرع إلى واشنطن سوى إعلان رسمي لتحالفٍ وُلد منذ سنوات في الكواليس، وهي خطوة تُثبت أن ما جرى في سوريا لم يكن مُجرّد “ثورة داخلية” بقدر ما كان إعادة ترتيب هندسي للنظام العربي على قاعدة أمريكية جديدة.
تُعدّ سيرة أحمد الشرع واحدة من أكثر المفارقات السياسية في الشرق الأوسط حدّةً. فالرجل الذي بدأ مسيرته في صفوف “جبهة النصرة” المرتبطة بالقاعدة، ثم قاد “هيئة تحرير الشام” التي سيطرت على إدلب، يُقدَّم اليوم على أنه المحرّك الأساسي لقانون ملاحقة تنظيم داعش داخل الأراضي السورية، وهو القانون الذي صاغته حكومته بدعم مباشر من وزارة الخارجية الأمريكية. لكن المفارقة هنا ليست قانونية فحسب، بل أخلاقية وسياسية في آنٍ معاً. فكيف يمكن لشخصٍ صُنّف لسنوات على لوائح الإرهاب الأمريكية أن يتحول إلى شريكٍ في صياغة تشريعات لمكافحة الإرهاب؟!.. الأدهى من ذلك أن القانون الجديد لا يقتصر على ملاحقة تنظيم داعش بالمعنى التقليدي، بل يعتمد تعريفاً أمريكياً واسعاً للإرهاب يشمل أي تنظيم أو فصيل “يستخدم السلاح خارج سلطة الدولة”، وهو تعريف يُثير قلق أطياف المقاومة في المنطقة، وخصوصاً في لبنان.
تهديد صريح للمقاومة
فعلى ضوء التجربة الأمريكية في العراق وأفغانستان، يُخشى أن يكون هذا القانون مقدّمة لمرحلة جديدة من تجريم حركات المقاومة تحت عنوان “مكافحة الإرهاب العابر للحدود”. فالمقاومة اللبنانية، التي ما زالت واشنطن تضع جناحها العسكري على قائمة الإرهاب، تدرك أن إدراج سوريا في التحالف الدولي ضد داعش يمنح الأمريكيين منصة قانونية جديدة لتوسيع تعريف الإرهاب ليشمل حلفاءها الطبيعيين. بمعنى آخر، إن القانون الذي يفترض أنه أداة لمحاربة داعش، قد يتحوّل في التطبيق إلى سيفٍ مسلّط على كل من يقاوم المشروع الأمريكي والإسرائيلي في المنطقة.
يبدو أن واشنطن تراهن على استثمار هذا الملف لتفكيك ما تبقّى من منظومة “محور المقاومة” عبر استخدام الشرع نفسه كغطاء عربي محلي لتنفيذ سياسات غربية. فمن خلال شراكة الشرع في “التحالف ضد الإرهاب”، تُحاول الولايات المتحدة أن تُضفي شرعية إقليمية على معركتها مع المقاومة، بحيث لا تبدو المواجهة وكأنها بين واشنطن وحلفائها من جهة، والمقاومة من جهة أخرى، بل بين “الدولة السورية الجديدة” و”جماعات خارجة عن القانون”.
في لبنان، تقرأ المقاومة هذا التحالف بوصفه تهديداً استراتيجياً صريحاً. دمشق، التي كانت يوماً عمقاً استراتيجياً للمقاومة، تتحول الآن إلى منطقة مراقبة أمريكية متقدمة. فواشنطن تطلب من الشرع “ضبط الحدود”، أي عملياً تجميد خطوط الإمداد التقليدية بين البقاع والقصير وحمص. وتشير تقارير أوروبية إلى أن فرقاً أمريكية تعمل على “تقييم الوضع الحدودي اللبناني – السوري” تمهيداً لنشر منظومة رقابة إلكترونية بتمويل خليجي – وهو ما يعني عملياً عزل المقاومة عن العمق السوري. أما سياسيّاً، فإن إعادة تأهيل النظام السوري تحت الرعاية الأمريكية تُضعف خطاب “محور المقاومة”، وتخلق شرخاً في المشهد العربي – الإيراني: حليف الأمس يصبح خصماً صامتاً، يمسك العصا من الوسط، وينفذ أجندة واشنطن دون أن يُظهر ذلك علناً. من هنا، تتحرك المقاومة اللبنانية بحذر، بين خيارين كلاهما صعب: مواجهة مباشرة تُعيد التوتر إلى الميدان، أو انتظار ما ستؤول إليه هذه “الشراكة الأمريكية – السورية” التي قد تعيد رسم حدود النفوذ في بلاد الشام.
حليف بديل عن إسرائيل
بعد عقود من الاعتماد على إسرائيل كأداة إدارة التوترات والحروب في الشرق الأوسط، يبدو أن واشنطن تبحث اليوم عن وكيل إقليمي جديد. إسرائيل، التي تعاني من أزمات سياسية وأمنية متتالية، لم تعد قادرة على لعب الدور القديم في زعزعة التوازنات واحتواء خصوم أمريكا. ومن هنا، ترى الإدارة الأمريكية في النظام السوري الجديد فرصة لإنتاج “إسرائيل عربية” نظامٍ مطواعٍ من الداخل، يمتلك خطاباً قومياً مموّهاً، ويستطيع التدخل في ملفات المنطقة دون أن يُتهم مباشرة بالعمالة. بكلمات أخرى، واشنطن لا تريد استقرار سوريا بقدر ما تريد استخدامها كأداة اضطراب جديدة تُعيد توجيه الصراعات نحو محاور بديلة: ضد المقاومة اللبنانية، ضد النفوذ الإيراني، وربما لاحقاً ضد القوى العربية التي ترفض الاصطفاف الكامل خلف الولايات المتحدة.
في الختام، إن أخطر ما في هذا التحالف الأمريكي – السوري أنه لا يعيد فقط صياغة الجغرافيا السياسية، بل يُعيد تعريف مفاهيم المقاومة والإرهاب وفق الرؤية الأمريكية. فبعدما دعمت واشنطن الشرع في انقلابه على الأسد، وأعادت تأهيل ماضيه الإرهابي ليصبح “معتدلاً” يخدم مصالحها، ها هي اليوم تستخدمه لتشريع قوانين تضرب في عمق مفهوم المقاومة ذاته. إنها لعبة مزدوجة بامتياز: من رحم الإرهاب تُنجب أمريكا حليفها، ومن شعار محاربة الإرهاب تُعيد إنتاج أدوات السيطرة على المنطقة. وهكذا، تُثبت واشنطن مرة أخرى أن سياساتها لا تقوم على بناء الاستقرار، بل على إدارة الفوضى وتبديل الوجوه فهل تؤدي سوريا جديدة الدور ذاته لإسرائيل.. ولكن بثوبٍ عربي هذه المرة؟.
