جدلٌ حول تصويت الجزائر على الخطة الأمريكية بشأن غزَّة
بقلم توفيق المديني
أثار تصويت الجزائر في مجلس الأمن على مشروع القرار الأمريكي 2803، يوم الإثنين 17 نوفمبر 2025، الذي يدعم اتفاق وقف إطلاق النار في غزة الذي جرى التوصل إليه وفق خطة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب المكونة من 20 بنداً لإنهاء الحرب الإسرائيلية في غزَة، والصادرة في 29 سبتمبر/ أيلول 2025، إذ حصل المشروع على تأييد 13 دولة، بينما امتنع كلٌّ من روسيا والصين عن التصويت..
هذا الأمر أثار جدلاً واسعاً في الأوساط السياسية الجزائرية والعربية، بين المدافعين عنه، الذين يعتبرون أنَّ الجزائر لا تزال متمسكة بثوابتها الوطنية والقومية تجاه القضية الفلسطينية، وبين المعارضين الذين يعتبرون أنَّ القضية الفلسطينية تمت تصفيتها في مجلس الأمن، وأنَّ حلم الدولة الفلسطينية قد تبخر، بعد أن قال الجميع في مجلس الأمن : “نعم للوصاية الأمريكية الكاملة بقيادة الرئيس ترامب على غزَّة وفلسطين والشرق الأوسط كلّه”. وأوقف اتفاق وقف إطلاق النار حرب إبادة جماعية بدأتها “إسرائيل” في 8 أكتوبر 2023 بغزة بدعم أمريكي، واستمرت لعامين، مخلفة أكثر من 69 ألف شهيد فلسطيني، وما يزيد عن 170 ألف جريح، ودماراً هائلاً طال 90% من البنى التحتية المدنية.
لماذا صوّتت الجزائر لصالح القرار الأمريكي بشأن غزة؟
في هذا السياق كشف وزير الدولة، وزير الشؤون الخارجية والجالية الوطنية بالخارج والشؤون الإفريقية، أحمد عطاف، عن الاعتبارات التي اعتمدت عليها الجزائر في تصويتها لصالح القرار الذي بادرت به الولايات المتحدة الأمريكية بخصوص الأوضاع في غزة.
وقال عطاف في ندوة صحفية عقدها يوم الثلاثاء 18 نوفمبر 2025 بمقر الوزارة، أن الملفات ذات الأولوية بالنسبة للدبلوماسية الجزائرية شهدت تطوراتٍ لافتة على الساحة الأممية في الفترة الأخيرة، لا سيّما تلك المتصلة بالقضية الفلسطينية، وقضية الصحراء الغربية، ناهيك عن الأوضاع في منطقة الساحل الصحراوي. وأفاد عطاف أن مجلس الأمن اعتمد قراراً أممياً جديداً حول القضية الفلسطينية، أو بالأحرى حول الأوضاع في غزة، وهو القرار الذي بادرت بتقديمه الولايات المتحدة الأمريكية بهدف اعتماد ما سُمِّيَ بـ “خطة السلام في غزة”.
وقد صوتت الجزائر لصالح هذ القرار، يضيف عطاف، اعْتِدَاداً بجملةٍ من الاعتبارات الموضوعية المتعلقة أولاً بالأهداف الجوهرية لهذا القرار، ثُمَّ ثانياً بالخلفياتِ الكامنة وراءه، ثُم ثالثاً وأخيراً بمواقفِ أبرز الفواعل الإقليمية إِزَاءَهْ. وفيما يتعلق بالأهداف الجوهرية لهذا القرار، قال عطاف إنها تندرج أساساً في إطار ما يُمكنُ تَسْمِيَتهُ بالأولويات المستعجلة للمرحلة الراهنة، أو أولويات ما بعد العدوان على غزة، وهي أولوياتٌ رباعية الأبعاد:
– بُعدها الأول: تثبيتُ اتفاق وقف إطلاق النار،
– وبُعدها الثاني: توفيرُ الحماية الدولية للشعب الفلسطيني،
– وبُعدها الثالث: تمكينُ جهود الإغاثة الإنسانية في غزة دون قيود أو شروط،
– وبُعدها الرَّابِعُ والأخير: تمهيدُ الطريق لإطلاق مسيرة إعادة الإعمار في غزة.
القرار المعتمد يوفر أرضية مُلزمة للدفع نحو التكفل بهذه الأولويات الاستعجالية دون المساس بثوابت حل القضية الفلسطينية
أمّا عن ثوابت القضية الفلسطينية، فقال عطاف إن القرار المُعْتَمَد لا يَمُسُّ البتة بمرتكزات الحل العادل والدائم والنهائي للصراع الإسرائيلي-الفلسطيني على النحو الذي أجمعت عليه المجموعة الدولية، وبما يتوافق مع قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة.
فمن جهة، يُذَكِّرُ القرارُ المُعْتَمَد بجميع القرارات السابقة لمجلس الأمن المتعلقة بالقضية الفلسطينية، وهي القرارات التي تشكل العقيدة الأممية لتمكين الشعب الفلسطيني من حقوقه الشرعية والمشروعة، من خلال إنهاء احتلال أراضيه، وتجسيد مشروعه الوطني، وتمكينه من إقامة دولته المستقلة والسيدة.
الجزائر تمكنت من إدخال تعديل بالغ الأهمية على القرار الأمريكي
اعتبر وزير الخارجية الجزائرية عطاف، أنَّ الجزائر تمكنتْ خلال المفاوضات من إدخال تعديلٍ بالغ الأهمية على هذا القرار، وهو التعديل الذي يُوضح أن المقصَدَ النهائي من هذا القرار يتمثل في توفير الظروف المواتية لفتح أُفُقِ الحل السياسي للصراع الإسرائيلي-الفلسطيني وتمكين الشعب الفلسطيني من إقامة دولته المستقلة والسيدة.
وفيما يخص خلفيات هذا القرار، قال رئيس الدبلوماسية الجزائرية، إنها تتمثل في كون أن المبادرةَ بطلبِ عرض ما سُمِّيَ بـ “خطة السلام في غزة” على مجلس الأمن بهدف استصدار قرارٍ بشأنها قد جاءت أصلاً من الدول العربية المُشَارِكَة في قمة شرم الشيخ التي انعقدت بمصر منتصف الشهر المنصرم. فهذه القمة التي أفضت إلى اعتماد خطة السلام هذه، قد شَهِدَتْ أيضاً مُطالباتٍ عربية بإقرار هذه الخطة من قبل مجلس الأمن الأممي، وذلك لتحقيق ثلاث غايات رئيسية:
فالغاية الأولى، هي إضفاء القوة القانونية والصيغة التنفيذية على ما سُمِّيَ بـ “خطة السلام في غزة” من قبل مجلس الأمن الأممي، والغاية الثانية، وهي إخراج هذه الخطة من الدائرة الضيقة للمشاركين في قمة شرم الشيخ وإعطائها طابعاً أوسع وأشمل، ألا وهو الطابع الدولي. أما الغاية الثالثة، حسب عطاف، فهي تتعلق بوضع تنفيذِ خطة السلام هذه تحت قبة الأمم المتحدة و بهذا إِكْسَابِهَا الضمانةَ الأهم، ألا وهي الضمانة الأممية التي تَكْفُلُ تجسيدَها على النحو الذي لا يتعارض مع مبادئ ومقاصد ميثاق الأمم المتحدة وسائر اللوائح الأممية ذات الصلة بالصراع الإسرائيلي – الفلسطيني والتي تشكل ما نُسَمِّيهِ بالشرعية الدولية.
وأضاف أن الحال كذلك كان بالنسبة للدول العربية والدول الإسلامية المشاركة في قمة شرم الشيخ، والتي أصدرت هي الأخرى نهاية الأسبوع الماضي بياناً مشتركاً تَحُثُّ فيه مجلس الأمن على الإسراع في اعتماد مشروع القرار الأمريكي. وفور اعتماد هذا القرار، شرعت العديد من هذه الدول في إصدار بيانات ترحيبية وداعمة له.
المعارضون للموقف الجزائري
أعلنت حركة مجتمع السلم، أحد الأحزاب الكبيرة في الجزائر، تأسست هذه الحركة سنة1990 على يد الشيخ الراحل محفوظ نحناح، معارضتها لموقف الجزائر في التصويت على مشروع القرار الأمريكي في مجلس الأمن الدولي المتعلق بإدارة الوضع في قطاع غزة. وأكدت الحركة أنَّ التصويت “لا ينطبق مع ثوابت السياسة الجزائرية التاريخية في دعم القضية الفلسطينية والمقاومة ضد الاحتلال”، وأنه “لا يعكس نبض غالبية الشعب الجزائري، المتمسك بدعم فلسطين ورفض التطبيع مع الاحتلال الصهيوني”. وشدَّدت الحركة على أنَّ أي حل حقيقي لتحقيق السلام يجب أن يبدأ بـ “إنهاء الاحتلال ووقف الجرائم الصهيونية وتمكين الشعب الفلسطيني من حقوقه كاملة بما في ذلك حقه في المقاومة وإقامة الدولة المستقلة وعاصمتها القدس الشريف”، محذرة من “فرض وصاية دولية منحازة على الشعب الفلسطيني”. ودعت الحركة الدبلوماسية الجزائرية إلى “التركيز على آليات الدعم الفعلي المنسجمة مع مبادئ الدولة الجزائرية المستمدة من الثورة، لاستعادة الثقة الشعبية والعربية في موقف الجزائر كصوت حر ومدافع عن قضايا الأمة العادلة، وفي مقدمتها فلسطين”.
هل لا تزال قضية فلسطين قضية عربية؟
في كل مرّة يحصل عدوان على الشعب الفلسطيني في غزة، تتعالى الأصوات العربية، لا سيما من أوساط شعبية، ومن أحزاب سياسية وطنية تندد بهذا العدوان الصهيوني أو ذاك، لكنها تظل ردود أفعال يائسة لا تغير من الأمر شيئاً في واقع الصراع العربي-الصهيوني، حتى بعد أن انطلقت ما بات يعرف في الخطاب السياسي العربي “ثورات الربيع العربيط، إذ إن هذه الثورات لم تطرح قضية تحرير فلسطين ومجابهة العدو الصهيوني على برنامج جدول أعمالها.
“إسرائيل واقع استعماري؟”، هذا ما تجاسر على طرحه مكسيم رودنسون عام 1967. وقد أجمع المثقفون العرب من اليمين واليسار على أن إسرائيل هي جزء من “الظاهرة الاستعمارية” الأوروبية. وقد تبنى هذا الموقف العالم الثالث على أوسع نطاق. ويحار المرء في الانتقاء من بين التأكيدات العربية. فها هو عبد الناصر في كتابه “فلسفة الثورة” يحكي أفكاره كضابط في الثلاثين من العمر عند عودته من حرب فلسطين عام 1948: “لقد كان ذلك كله على توافق طبيعي مع الرؤيا التي رسمتها في ذهني التجربة. (فالمشرق العربي) يشكل منطقة واحدة تعمل فيها الظروف نفسها والعوامل نفسها وحتى القوى نفسها المتألبة عليها جميعاً. ومن البديهي أن تكون الإمبريالية أبرز هذه القوى. ولم تكن إسرائيل ذاتها سوى نتيجة من نتائج الإمبريالية”.
“إسرائيل” في نظر الشعوب العربية قاعدة إمبريالية أقامتها في الشرق الأوسط الإمبريالية البريطانية بالاتفاق مع الإمبرياليات الأخرى. وهي جزء من النظام الإمبريالي العالمي الأمريكي أحادي القطبية. ونشاطها في العالم هو منذ وجودها مرتبط بالنشاط الإمبريالي سواء أكان لمصلحتها الخاصة أو لحساب الإمبرياليات الأوروبية والأمريكية. هذا هو على الأقل التصور الأكثر شيوعاً في العالم العربي. ويشعر العرب من محيطهم إلى خليجهم بالمهانة من جراء فرض عنصر غريب في قلب أمتهم تسانده قوى العالم الأوروبي – الأمريكي.
وكان رؤساء إسرائيل يطمعون من وراء تنفيذ سياسة المذابح الجماعية ضد العرب، بوصفها السياسة الرسمية للدولة اليهودية الجديدة، التي بدأها الصهاينة في سنوات الحرب ـ توطيد سيطرتهم على الأراضي العربية، بعد تطهيرها من سكانها الأصليين، أي الفلسطينيين.
وهكذا ظهرت مشكلة اللاجئين الفلسطينيين الذين طردوا قسراً من أرضهم وعددهم 850 ألف فلسطيني، كانوا يمثلون في عام 1948 نحو 61 في المئة من الشعب الفلسطيني البالغ تعداده نحو مليون ونصف مليون شخص، توزع ثمانون في المائة من هؤلاء اللاجئين في الضفة وقطاع غزة، بينما توزع الباقي عشرون في المائة في البلدان العربية المجاورة (حسب الإحصاءات الرسمية لهيئة الأمم المتحدة).
وما أن تأسست الدولة الصهيونية، حتى أعلن بن غوريون رئيس وزراء الحكومة الصهيونية في الأيام الأولى لرئاسته، أن تأسيس “إسرائيل” ليس سوى بداية للنضال من أجل تأسيس الدولة اليهودية “من النيل إلى الفرات”. ولم ينكر أنَّ دولة “إسرائيل” ليست هدفاً بحد ذاتها، بل وسيلة لتحقيق الهدف.
من وجهة نظر الإيديولوجيا القومية العربية المعاصرة، وحركات المقاومة الفلسطينية واللبنانية، واليمنية، والعراقية، وإيران، لا تزال قضية فلسطين قضية عربية، وإسلامية، لا قومية سورية أو فلسطينية. وهذا يعني أنَّ احتلال فلسطين، ليس اعتداء على فلسطين حدود سايكس ـ بيكو، ولا على سكان فلسطين الذين صورتهم خريطة الاحتلال البريطاني، إنه اعتداء على العالم العربي والإسلامي كله، إذا اعتبرنا العالم العربي واحداً، والأمة العربية واحدة، رغم حدود سايكس ـ بيكو وكل حدود الاحتلال الاستعماري.
وبعد عملية طوفان الأقصى في 7أكتوبر 2023، انتشرت في “إسرائيل” انتشاراً كبيراً القناعة الإيديولوجية التالية أنَّ الدولة الصهيونية أصبحت تمثل “خطّ تماس دامٍ” بين الغرب والشرق، بين الحضارة “اليهوديّة المسيحية” – وهذا اختراع غريب إذا ما اطّلعنا على تاريخ الديانتيْن…- والحضارة الإسلاميّة. ولقد اعتبرت التيارات الأصولية المسيحية والصهيونية أنَّ “إسرائيل” هي “موقع أماميّ للعالم الحرّ”. وإذا كانت “إسرائيل” قد اكتسبت هذا المكان المميّز في الغرب، فذلك لأنّ الدولة الصهيونية تُعتبَر إرادة إلهية.
خاتمة: بعد حصول الرئيس الأمريكي ترامب على كلّ ما يريد من مؤتمر شرم الشيخ المشؤوم الشهر الماضي، وبعد التصويت الأخير في مجلس الأمن، ها هو ترامب يحصل الآن على شرعية دولية وعربية وإسلامية لتحقيق مطامعه وأحلامه الإمبراطورية لاستملاك غزّة، ترامب وهو يتحدّث سعيداً بقرار مجلس الأمن كان أوّل ما نطق به أنّ القضاء على قدرات إيران النووية يُعَدُّ الخطوة الأولى على طريق تحقيق الشرق الأوسط الأمريكي – الإسرائيلي الذي يريده، وما غزّة وفلسطين كلّها إلّا قطعة صغيرة على رقعة الشطرنج.
من وجهة نظر المدافعين عن خيار المقاومة ضد العدو الأمريكي – الصهيوني، تعيش القضية الفلسطينية إتمام عملية تصفيتها، لكنَّ هذه المرَّة بأيدٍ عربية سوف تنتشر عسكرياً في قطاع غزّة، تحت قيادة ترامب وبتنسيق كامل مع الكيان الصهيوني، في مهمّة وحيدة هي نزع سلاح الفلسطينيين بالقوّة، والقضاء على المقاومة وإنهاء وجودها، مبدأً ومشروعاً وممارسةً، على أرض غزّة وفلسطين، لنكون وللمرّة الأولى في التاريخ أمام إمكانية حرب عربية على المقاومة الفلسطينية، خدمة لأهداف صهيونية بالضرورة، وتنفيذاً لأوامر أمريكية بالطبع.
