إقليميات

الشَّراكة السَّعودية – الأمِريكية: بين تَداعياتها على إسرائيل وإنهاء الحَرب في لُبنَان

بقلم زينب عدنان زراقط

بينما تعمل إسرائيل بلا هوادة لمنع أي تطوير نوعي في القدرات العسكرية السعودية، خصوصاً في ملف مقاتلات 35F والبرنامج النووي المدني. وفي الخلفية، أعادت حرب غزة تموضع القضية الفلسطينية في صدارة الوعي العربي، مما جعل أي خطوة نحو التطبيع السعودي – الإسرائيلي أكثر تعقيداً وكلفة سياسية من أي وقت مضى.

لكن العنصر الأكثر بروزاً في المشهد الجديد هو عودة لبنان إلى مركز الحسابات السعودية – الأمريكية. فإزاء تصاعد احتمالات المواجهة بين حزب الله وإسرائيل، لا تنظر الرياض إلى بيروت اليوم كملف ثانوي، بل كورقة جيوسياسية مؤثرة في ميزان القوى الإقليمي، وكمساحة تُظهر من خلالها قدرتها على تشكيل توازن موازٍ للنموذج الإسرائيلي. بل إن بعض المؤشرات يوحي بأن لبنان – بما يمثّله من تماس مباشر مع إسرائيل ومن تشابك مع النفوذ الإيراني – أصبح جزءاً من النقاشات غير المعلنة في التحرك السعودي نحو واشنطن.

ومن هنا يَطرح هذا المشهد مجموعة أسئلة مركزية: هل يمثّل الاتفاق الدفاعي السعودي – الأمريكي بداية إعادة هندسة الأمن الإقليمي؟ ولماذا تشعر إسرائيل بقلق متزايد تجاه ملفات الـ 35F والنووي السعودي؟ وكيف يدخل لبنان – بساحته الهشة وميزانه الداخلي المعقّد – في استراتيجية الرياض الجديدة؟ وهل بات التطبيع السعودي – الإسرائيلي مؤجّلاً إلى أجل غير مسمّى على الرغم من الضغوط الأمريكية؟.

السعودية وواشنطن: شراكة دفاعية تعيد رسم موازين المنطقة

منذ هجوم أرامكو عام 2019، تزعزعت ثقة الرياض في مظلة الحماية الأمريكية التقليدية، وهو ما دفعها للمطالبة باتفاق دفاعي “مُلزم” يمر عبر الكونغرس لأول مرة في تاريخ العلاقات بين البلدين. لم تعد المملكة تقبل بضمانات عامة أو تفاهمات شفوية، بل تسعى إلى صيغة تشبه التحالفات الدفاعية التي تُلزم واشنطن بالتدخل في حال تعرض أمن المملكة لأي تهديد حقيقي.

في هذا الإطار، تأتي رغبة السعودية في الحصول على مقاتلات 35F كجزء أساسي من منظومة الردع الجديدة، لتمنح المملكة تفوقاً نوعياً يقترب نسبياً من القدرات الجوية الإسرائيلية، لأول مرة منذ عقود. إلى جانب ذلك، تواصل الرياض دفع برنامج نووي مدني يسمح بالتخصيب داخل أراضيها، معتبرةً أن امتلاكها احتياطيات ضخمة من اليورانيوم يجعل التخصيب ضرورة استراتيجية وليست مطلباً ثانوياً. تتعامل واشنطن مع هذا التحرك السعودي بواقعية جديدة، مدركةً أن الرياض لم تعد الحليف الذي يقبل باتفاقات غير متوازنة، وأن تأمين مكانتها سيعيد الاستقرار إلى منطقة أعادت حرب غزة رسم حدودها السياسية والأمنية.

بينما في الوقت نفسه، لا يمكن تجاهل الاستنكار الشعبي والسياسي من حجم الاستثمارات السعودية الضخمة في الولايات المتحدة، التي وصلت إلى مستويات قياسية تتجاوز تريليون دولار، وهو رقم يثير الدهشة والتساؤل حول الأولويات الوطنية والإقليمية للرياض. فبينما يستثمر السعوديون مبالغ هائلة في أسواق أمريكية بعيدة عن محيطهم المباشر، يظل الوضع الداخلي العربي متأزماً، من فلسطين إلى لبنان مروراً بأزمات اقتصادية واجتماعية خانقة في العديد من الدول. هذا التوجه الاستثماري يثير استهجان المراقبين الذين يرون فيه تضخيماً للنفوذ المالي على حساب النفوذ السياسي والعسكري العربي المباشر، ويطرح تساؤلات حقيقية حول ما إذا كان التركيز على الأسواق الغربية يفوق الاهتمام بحماية المصالح العربية في الوقت الذي يشهد فيه الإقليم تحولات أمنية حادة وصراعات متزايدة.

إسرائيل بين القلق الاستراتيجي وحسابات نتنياهو الضيقة

من ناحية أخرى، تنظر إسرائيل إلى التحرك السعودي بعين الريبة، خشية أن يؤدي حصول الرياض على 35F أو تأسيس برنامج نووي بتخصيب محلي إلى تقويض عقيدة “التفوّق العسكري النوعي” التي بنت عليها استراتيجيتها لعقود. لذلك تكثف تل أبيب ضغوطها داخل واشنطن لمنع الصفقة أو ربطها بتطبيع مباشر.

لكن عقدة نتنياهو الأساسية تكمن في أن التطبيع ليس مصلحة سياسية في الوقت الحالي. فحكومته اليمينية تعتمد على التصعيد لا التهدئة، ويعتبر رئيس الوزراء أن المخاطر الإقليمية – الحقيقية أو المفبركة – هي الضمانة الوحيدة لبقائه في السلطة. ولذلك، يرفض شركاؤه مثل سموتريتش أي صيغة تطبيع ترتبط بالدولة الفلسطينية، ما يجعل الاتفاق شبه مستحيل، مهما حاولت الإدارة الأمريكية أو حتى الرئيس ترامب.

غزة تعيد ضبط البوصلة وتغلق نافذة التطبيع حيث كانت واشنطن والرياض على بعد أسابيع من إعلان تفاهم ثلاثي قبل 7 أكتوبر، إلا أن حرب غزة قلبت الموازين بالكامل. أعادت الأحداث القضية الفلسطينية إلى صدارة المشهد العربي، ومع ضغط الرأي العام السعودي الذي يرفض التطبيع، أصبح من المستحيل تمرير أي اتفاق لا يتضمن التزاماً إسرائيلياً واضحاً بحل الدولتين.

هذا الشرط يضع التطبيع في منطقة التجميد، إذ أن قبوله يعني عملياً استقالة الحكومة الإسرائيلية الحالية. وهكذا انتهت مرحلة “التطبيع غير المشروط” التي حاول البعض الترويج لها، لتعود المبادرة السعودية للسلام بحلتها الجديدة: حل القضية الفلسطينية أولاً، ثم علاقات طبيعية لاحقاً.

أضف إلى ما يكمن وراء الجدل المعلن حول التطبيع والـ 35F، حيث تدور واحدة من أهم المعارك الاستراتيجية: حق السعودية في التخصيب النووي. إذ ترى الرياض أن مستقبل الطاقة والردع في المنطقة يتطلب برنامجاً نووياً مستقلاً، فيما تخشى إسرائيل أي قدرة عربية قد تتحول مستقبلاً إلى قوة ردع متقدمة.

أما واشنطن، التي ترغب في إخراج السعودية من “مظلة الردع الباكستاني”، فتدرس خيار نشر أنظمة نووية أمريكية داخل المملكة بعد توقيع الاتفاق الدفاعي. هذا يعكس حجم التحول الجاري: السعودية تطمح إلى موقع مؤثر في معادلة القوى الكبرى، إسرائيل تسعى لمضاعفة الضمانات لحماية تفوقها، وأمريكا تحاول التوازن بين الطرفين دون خسارة أي منهما.

وفي السياق ذاته، تسعى إسرائيل لإبرام اتفاقية أمنية جديدة مع الولايات المتحدة تمتد لعشرين عاماً، ضعف مدة الاتفاقيات السابقة، لضمان استمرار الدعم العسكري السنوي البالغ نحو 4 مليارات دولار، مع السعي لزيادته. تهدف تل أبيب لتضمين الاتفاقية بنوداً تعكس شعار “أمريكا أولًا”، لكسب دعم إدارة ترامب وتجاوز معارضة مؤيدي المساعدات الخارجية. إلا أن إقرار الاتفاقية يواجه تعقيدات فنية وسياسية في واشنطن، بسبب الإحباط الأمريكي من سلوك إسرائيل في غزة وتنامي المعارضة الحزبية، ما يجعل المفاوضات القادمة أكثر صعوبة من السابق.

لبنان: ساحة التحرك السعودي الجديد

على الرُغم من التعقيدات المحيطة بالدور السعودي في لبنان، فإن توقيت التحركات الأخيرة للرياض لا يبدو منفصلاً عن تقاربها المتسارع مع واشنطن والسعي لتوقيع اتفاق دفاعي تاريخي. فزيارة ولي العهد السعودي المرتقبة إلى البيت الأبيض لم تُقدَّم رسمياً كزيارة تبحث الملف اللبناني، إلا أن الدلائل تشير إلى أن لبنان حاضر – ولو بصيغة غير مباشرة – في النقاشات المرتبطة بإعادة ترتيب الأمن الإقليمي. فالتوتر المتصاعد جرّاء تصعيد الاختراقات الإسرائيلية وإمكانية رد “حزب الله”، يجعل من لبنان عاملاً لا يمكن تجاهله في أي هندسة أمنية جديدة، خصوصاً وأن واشنطن تنظر إلى المملكة باعتبارها القوة العربية القادرة – مالياً وسياسياً – على لعب دور لاحتواء الانهيار اللبناني ومنع تمدد النفوذ الإيراني – حسبَ مفهومهم – بشكل أعمق.

وفي السياق ذاته، لا يمكن تجاهل الإشارات التي صدرت مؤخراً عن قيادة حزب الله، والتي تعكس استعداداً للتعاطي الإيجابي مع أي انفتاح سعودي جديد على لبنان. فقد أكّد الشيخ نعيم قاسم، الأمين العام لحزب الله، في أكثر من مناسبة، أن الحزب لا يعارض أي تقارب عربي مع لبنان، وأنه يرحب بأي مبادرة سعودية تساعد على منع الانهيار أو دعم الدولة ومؤسساتها، مُشدّداً على أن أبواب التواصل “غير مغلقة” وأن الحزب مستعد لمدّ اليد “لكل طرف يريد الخير للبنان”. هذا الخطاب، الذي بدا لافتاً في توقيته، يعكس إدراكاً داخلياً بأن الساحة اللبنانية تمر بمرحلة إعادة تموضع إقليمي، وأن عودة السعودية إلى لبنان يمكن أن تشكل عامل توازن – إن جاءت خارج منطق الهيمنة والاصطفاف السياسي الذي طبع مراحل سابقة من العلاقة.

وفي المقابل، ترى السعودية في هذا المسار فرصة لتعزيز موقعها التفاوضي أمام واشنطن، عبر تقديم نفسها كطرف قادر على تثبيت الاستقرار في منطقة تمثل إحدى أكثر نقاط الاحتكاك بين إيران وإسرائيل. وهذا يسهم في رفع وزن الرياض في واشنطن، خصوصاً في ظل رغبتها في الفوز بجملة مكاسب استراتيجية: اتفاق دفاعي ملزم، برنامج نووي مدني بتخصيب محلي، والحصول على مقاتلات 35F. ومن الطبيعي أن تحرص المملكة على تأكيد قدرتها على التأثير في ملفات إقليمية حساسة – ومن بينها لبنان – لتقوية حجتها لدى الإدارة الأمريكية بأن الاستثمار في شراكة طويلة الأمد معها هو رهان مضمون.

لكن هذا الدور لا يخلو من التحديات. بيدَ أنَّ هذه المبادرات من جانب حزب الله لا تعني إلغاء التباينات الجوهرية بينه وبين الرياض، إلا أنها تُظهر رغبة في تجنّب تحويل لبنان إلى ساحة صدام مباشر بين محور المقاومة والمحور السعودي – الأمريكي. فلبنان بالنسبة لكثير من اللبنانيين ساحة خبرت فيها السعودية تاريخاً من التدخلات السياسية عبر دعم أطراف معينة، أو التأثير في تشكيل الحكومات، أو محاولة تقليص نفوذ حزب الله. كما أن الاتهامات بتغذية الحملات الإعلامية أو الرقمية لتغيير المزاج السياسي المحلي خلقت حالة من الحذر تجاه أي دور سعودي مستجد. ولهذا تبدو الرياض اليوم مطالَبة بإقناع اللبنانيين – قبل واشنطن – أن دورها الجديد مختلف عن أدوار الماضي، وأن تحركها يأتي في إطار رؤية إقليمية أوسع لا مجرد إعادة اصطفافات سياسية داخلية.

وفي ذهن واشنطن، فإن أي دور سعودي في لبنان يجب أن يُترجم إلى قدرة على منع انفجار الجبهة الشمالية مع إسرائيل أو على الأقل تحييد لبنان عن مسار حرب إقليمية واسعة. أما في ذهن الرياض، فلبنان ليس الهدف بحد ذاته، بل ورقة ضمن ملفات كبرى تستخدمها المملكة لإعادة ترميم موقعها كقوة إقليمية مركزية، وضمان أن يكون الاتفاق الدفاعي المرتقب مفصلياً في إعادة صياغة توازنات الشرق الأوسط.

ختاماً، يقف الشرق الأوسط اليوم أمام مرحلة إعادة صياغة عميقة لموازين القوى: السعودية تبني قوة ردع حديثة عبر اتفاق دفاعي وبرنامج نووي مدني، إسرائيل تبحث عن اتفاق أمني أمريكي طويل الأمد لتعويض تآكل مكانتها بعد حرب غزة، وأمريكا تتعامل ببراغماتية لضمان نفوذها في المنطقة.

على الرُغم من أن التطبيع يبدو مؤجلًا، إلا أن ملفات القوة – الدفاع، النووي، لبنان، المعابر البحرية – تشير إلى أن العقد القادم سيكون عقد التوازنات الجديدة لا التسويات القديمة. يبقى السؤال مفتوحاً: هل ستولد منظومة أمنية عربية – أمريكية جديدة بقيادة السعودية؟ أم أن إسرائيل ستنجح في فرض قيودها على واشنطن ومنع تحولات التوازن الإقليمي؟ وهل يتحول لبنان إلى ساحة اختبار لهذه المعادلة أم إلى بوابة لحلّها؟.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *