إسرائيل عادت إلى أزمة اجتماعية داخلية
ترجمة وإعداد: حسن سليمان
مع انتهاء الحرب في معظم الجبهات وعودة جميع الأسرى الأحياء وغالبية القتلى، يبدو أن حكومة إسرائيل بدأت تعود إلى نوع من “الروتين” في مجالات عديدة. لكن هذا الروتين ليس بالضرورة إيجابياً.
فالإجراءات الأساسية التي تقودها الحكومة في هذه المرحلة تُوجَّه برؤى واستراتيجيات – أو بالأحرى خطوات هدم وإعادة صياغة – تهدف إلى تغيير وجه دولة إسرائيل وطابعها.
قضية التجنيد وتقاسُم العبء لا تُحل، والحكومة لا تلتزم حتى بقرار المحكمة العليا القاضي بسن قانون التجنيد كما هو. بل إن الحكومة تواصل تأجيل تقديم حل عادل، وتتجنب التشريع الحقيقي، والأهم أنها تمتنع عن تجنيد الحريديين وتحاول إيجاد آليات التفاف تسمح باستمرار إعفائهم من الخدمة، ما يضاعف العبء على الفئة التي تؤدي الخدمة فعلاً. هذا المسار سيُعمّق الانقسامات والاستقطاب في المجتمع الإسرائيلي، وقد يؤدي في غياب حل إلى صدام داخلي قد يصل حتى حد حرب أهلية مستقبلية، إذ لا يبدو أن الأطراف قادرة على التوصل إلى تسوية متفق عليها في هذه المسألة.
ومع انتهاء الحرب، تعود من جديد المطالبة بتشكيل لجنة تحقيق رسمية للدولة تكون مخوّلة بالتحقيق في أسباب ما جرى، والكشف عن الإخفاقات والمسؤولين عنها، والأهم وضع إطار إصلاحي يمنع تكرار أحداث مماثلة مستقبلاً. لكن الحكومة ما زالت ترفض بإصرار إقامة لجنة كهذه خشية تحميلها المسؤولية، وتحاول إيجاد بدائل غير مناسبة مثل لجنة تحقيق حكومية أو لجنة برلمانية – وهي لجان لا تمتلك الصلاحيات لمساءلة الحكومة أو تحميلها المسؤولية -.
في مجال الحوكمة والقضاء، تواصل حكومة إسرائيل، بوزرائها ورئيسها، خوض معركة شرسة ضد المحكمة العليا ورئيسها، بهدف المسّ بشرعيتها كجهة مخوّلة بمراجعة خطوات الحكومة أو قيادة لجنة تحقيق وطنية رسمية. وتمتنع القيادة السياسية عن دعوة رئيس المحكمة العليا إلى المناسبات الرسمية، كما ترفض التعاون مع الجهاز القضائي كما هو متوقع في دولة ديمقراطية سليمة.
كذلك عاد الهجوم على المستشارة القانونية للحكومة بكامل قوته، في محاولة لتقويض صلاحياتها القانونية وتجريدها من سلطتها. وفي هذا السياق، تحاول الحكومة دفع قانون يقضي بتقسيم منصب المستشار القانوني، بطريقة تُضعف قدرة المستشارة على التأثير في قرارات الحكومة. وحتى في القضية الأخيرة التي تورطت فيها المدعية العسكرية الرئيسية، والتي تشكّل بلا شك وصمة ثقيلة على منظومة القضاء العسكري، تحاول الحكومة زجّ المستشارة القانونية للحكومة في الملف والسعي لتشويهها وربطها بشبهات جنائية على الرغم من غياب أي دليل أو واقعة تدعم هذا الادعاء.
وفي مجالات الإدارة السليمة، بدأت الحكومة الترويج لتشريعات تسمح بتعيين مقرّبين ونشطاء سياسيين كأعضاء مجالس إدارة في شركات كبيرة، خلافاً لكل منطق مهني أو اقتصادي. ويأتي ذلك أيضاً بهدف السيطرة على آليات الإدارة والاقتصاد في الدولة والتحكم بها سياسياً دون رقابة أو عوائق.
في مجال الأمن الداخلي، يواصل الوزير المكلّف العمل خلافاً للقانون والإجراءات، من خلال إصدار تعليمات مباشرة لضباط الشرطة والتدخل بشكل غير مشروع في عمل شرطة إسرائيل. وفي هذا الإطار، ووفق سياسة الوزير والحكومة، تمتنع الدولة تماماً عن تنفيذ إنفاذ فعّال ضد الإرهابيين اليهود في الضفة الغربية، وبذلك تتيح تصاعد النشاط القومي المتطرف في الميدان، بصورة قد تقرّب اندلاع انتفاضة شعبية فلسطينية، فضلاً عن موجة الإدانات التي تتلقاها إسرائيل من مختلف دول العالم.
وإضافة إلى ذلك، ومع عودة الأسرى الأحياء، اتضح أن تصريحات الوزير وسياساته تسببت مباشرة في زيادة الضغط والتعذيب على الأسرى في غزة، وربما حتى في وفاة بعضهم. وهذا موضوع يستحق هو الآخر التحقيق فيه من قبل لجنة تحقيق رسمية للدولة، عندما يتم إنشاؤها.
كشف تقرير مراقب الدولة مؤخراً أن وزارة المالية لم تكن مستعدة تماماً لحدث الحرب ولم تتصرف بالشكل الصحيح حتى بعد اندلاعها، ما ألحق ضرراً جسيماً بالاقتصاد الإسرائيلي واحتياطيات ميزانيتها.
ويواصل وزير الاتصالات محاولاته لتنفيذ “إصلاح” في سوق الاتصالات، يتيح للحكومة إمكانية إغلاق وسائل الإعلام التي لا تدعمها، وتمويل تلك التي تؤيدها. كما يسعى لتعيين أشخاص موالين للحكومة في المناصب الرئيسية في مجال الرقابة على الاتصالات، بهدف منع النقد الخارجي لتعزيز دعم الحكومة لجميع سياساتها.
على الصعيد الاقتصادي، تواجه إسرائيل أزمة مستمرة بدأت قبل أحداث 7 تشرين الأول نتيجة سياسات الانقلاب الإداري التي قادتها الحكومة، والتي أدت إلى خفض التصنيف الائتماني للبلاد. وقد أدى ذلك إلى هجرة العقول وخبراء التكنولوجيا إلى الخارج بأعداد كبيرة، فيما غادرت العديد من الشركات الدولة ونقلت معظم أنشطتها إلى الخارج.
الحرب التي استمرت عامين كلفت ثمناً باهظاً، ليس فقط في الأرواح البشرية، بل أيضاً بتكاليف بلغت مئات المليارات من الشواكل على خزينة الدولة. كل ذلك أضيف إلى العجز الحكومي الذي وصل إلى ذروته قبل الحرب، والذي يشكل اليوم تحدياً حقيقياً يتعين على الدولة التعامل معه، وهو تحدٍ سيدفع ثمنه جميع مواطني الدولة وكذلك الأجيال القادمة.
وعند تحليل كل ما سبق، وإضافة محاولات لجان الكنيست المختلفة للتدخل في عمل المسؤولين المستقلين في الدولة، مثل رؤساء الأجهزة الأمنية والقضائية، تتضح صورة قاتمة جداً تعكس بشكل واضح اتجاهات حكومة إسرائيل الحالية في محاولتها تغيير طبيعة النظام في البلاد، وخلق نوع من الديكتاتورية التي تهيمن عليها الحكومة وحدها، دون أي قدرة للرقابة أو التوازن من قبل الأجهزة القضائية أو الأمنية، ودون أي مساءلة أو نقد من الجمهور أو وسائل الإعلام.
يبدو أن بعض أعضاء الحكومة يعتبرون هذه التحركات طبيعية وصحيحة للدولة، خصوصاً الفئات الحريدية والمتطرفين اليمينيين مثل الوزراء سموتريتش وبين غفير، الذين يسعون لتعزيز صورة الدولة كدولة دينية (دولة شريعة) مع إلغاء جميع الرموز الديمقراطية والتعددية القائمة فيها. وهذه اتجاهات خطيرة للغاية قد تدفع الدولة إلى مستوى منخفض جديد على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي وكذلك على الصعيد الدولي.
ثمة حاجة إلى تغيير جذري وسريع في سلوك القيادة المنتخبة لدولة إسرائيل، بما يراعي احتياجات الدولة ومصلحة الجمهور العام فوق مصالح جماعات الأقلية. بدون تغيير في أولويات الحكومة وتركيزها على إعادة التأهيل الاقتصادي والاجتماعي والسياسي لإسرائيل، سيكون من الصعب جداً المضي قدماً في تطوير الدولة وإعادتها إلى مكانتها بين الدول المتقدمة والمتطورة في الغرب.
معهد السياسات والاستراتيجية – ليئور أكرمان – باحث كبير في معهد السياسات والاستراتيجية – جامعة رايخمان)
