من الرعية إلى المواطنة: رحلة لم تكتمل في المجتمعات العربية العرب: انفصالُ النّظرية عن الواقع وأزمة البناء السياسي الحديث
بقلم: نبيل علي صالح / كاتب وباحث سوري
المواطنة والوطنية مفهومان سياسيان يستخدمان كثيراً في مجالات السياسة والاجتماع البشري للتأكيد على حقوق الأفراد والمجتمعات في البناء والمشاركة والتطور المجتمعي.. حيث انطلق التعاطي معهما على نحو تأصيلي وممارسة سياسية عملية حقيقية بعيد الثورات التي تفجرت في أمريكا وأوروبا، وخصوصاً في فرنسا التي أعلت ثورتها من قيم المواطنة وتركيز الحقوق الفردية في الدساتير والأنظمة السياسية..
لكن في البعد التاريخي، لم يظهر مفهوم المواطن (والمواطنة) فجأة، بل تطور عبر قرون طويلة منذ أيام الإغريق والرومان..
ففي السابق كان الإنسان تابعاً لانتماءاته الأولى، مع تراجع فكرة “الوطن” لصالح الولاءات الشخصية والإقطاعية (الولاء للإقطاعي أو الملك – القائد والزعيم)، والولاء للكنيسة، أي أنه لم تكن هناك هوية وطنية جامعة بالمعنى الحديث للمفهوم.. ومع ظهور الدولة القومية في أعقاب صلح وستفاليا عام 1648م، أصبحت فكرة الوطن مرتبطة بالأمة، وهي مجموعة من الناس يتشاركون اللغة، التاريخ، الثقافة، والإقليم.. وليكون “الوطن” هو الكيان السياسي والثقافي المحدد الذي ينتمي إليه الفرد، وهو المفهوم السائد اليوم.
أما مفهوم المواطنة فهو من أكثر تحديداً وتركيزاً من الناحية القانونية والسياسية فقد ظهر منذ أيام الإغريق، وكانت أثينا هي مكان نشأته الأولى حوالي القرن الخامس قبل الميلاد، وكان يعني وقتها “الذكر الحر” المولود في أثينا نفسها.. حيث المشاركة الفعالة في الحكم (ضمن المجلس الشعبي “الإكليسيا”)، وفي القضاء، وفي الدفاع عن المدينة.. وهي مهمة تقتصر على الرجال لا النساء، وتستثني العبيد والأجانب المقيمين فيها.. أما في إسبرطة، فكانت المواطنة مرتبطة بالخدمة العسكرية أساساً.
وخلال العصر الروماني تطور مفهوم المواطنة ليصبح صفة قانونية تمنح حقوقاً عديدة منها (الملكية، الزواج، التقدم للقضاء) وتأخذ من الفرد الواجبات، بغض النظر عن المكان الذي تعيش فيه داخل الإمبراطورية. وهذا كان هو النواة الأولى لفكرة “المواطنة العالمية”.
وخلال العصور الوسطى – التي عاشت فيها أوروبا التخلف والظلام الدامس سياسياً وعملياً – اختفى مفهوم المواطنة الفاعل، وحل محله مفهوم “الرعية” أو “الرعوية”.. حيث كان الناس مجرد رعايا وخدم وحشم للملك أو الإقطاعي، ليس لهم أدنى حقوق سياسية، بل عليهم كثير من الواجبات تجاه مالكيهم..
ولا شك بأن النقلة النوعية في هذا المفهوم تمثلت خلال عصر الثورات إبان القرن الثامن عشر، حيث كانت الولادة الفعلية الحقيقية للمواطنة الحديثة مع الثورتين الأمريكية (عام 1776م) والفرنسية (عام 1789م) اللتين أعادتا إحياء المفهوم اليوناني-الروماني للمواطنة ولكن على أسس جديدة، حيث تم تعريف المواطن على قاعدة أنه فرد حر متساوٍ مع الآخرين في الحقوق والواجبات، ويشارك في السيادة.. كما ربطت هذه الثورات بين المواطنة ومبادئ الحرية، المساواة، والسيادة الشعبية.. ليتوسع هذا المفهوم خلال القرن العشرين مع إصدار إنشاء منظمة الأمم المتحدة والهيئات الحقوقية العديدة التابعة لها، حيث شمل مفهوم المواطنة الحقوق الاجتماعية والاقتصادية (الحق في العمل، التعليم، الضمان الاجتماعي) وليس فقط الحقوق السياسية.. كما برزت للعلن مفاهيم جديدة مثل “المواطنة العالمية”، وتعني الاهتمام بقضايا البشرية جمعاء، ومفهوم “المواطنة الرقمية” الذي يعني (السلوك والحقوق في العالم الافتراضي)..!!.
وفي تاريخنا العربي والإسلامي برزت الكثير من النماذج الحية لفكرة المواطنة ضمن مجال عمل الإسلام، حيث أصبح الانتماء للإسلام والأمة الإسلامية هو الهوية الجامعة، متجاوزاً حدود القبيلة والعرق والانتماء الأولي البدائي.. وجاء مفهوم “المواطنة” في الدولة الإسلامية الأولى في المدينة ليقوم على مبادئ “وثيقة المدينة” التي أسست لـ “أمة” واحدة تضم المسلمين من المهاجرين والأنصار، كما تضم اليهود كطائفة لها حريتها الدينية ضمن كيان سياسي واحد.. وكان هذا شكلاً مبكراً من “المواطنة” القائمة على العقد والشراكة، وليس على الدم أو العرق أو الانتماء القبلي. (أي هو تجسد عملياً في ميثاق تاريخي صاغه النبي الأكرم(ص) بعد الهجرة إلى المدينة المنورة، من أجل ضبط وتنظيم العلاقات بين مختلف المجموعات داخل المجتمع الجديد.. وتُعد هذه الوثيقة بمثابة دستور للدولة الإسلامية الناشئة، حيث كانت تُعنى بوضع أسس المواطنة والمساواة بين المسلمين واليهود، وتنظيم الشؤون المشتركة، وتحديد الحقوق والواجبات للجميع..). ولكن هذه البذور النوعية الأولى لم تتحول لاحقاً إلى ثمرة ناضجة أو إلى قاعدة سياسية واجتماعية حقيقية واسعة في المجال السياسي والاجتماعي العربي والإسلامي… ففي العصور الإسلامية اللاحقة اليت حكمت فيها الدول أو الإمبراطوريات (الأموية، العباسية، العثمانية)، كان الولاء منحصراً فقط في الحاكم أو السلطان أو السلالة الحاكمة، ليكون هو المحرك الأساسي والقاعدة الأساسية لأية فاعلية اجتماعية وسياسية عملية.. فعادت فكرة “الرعية” وليس “المواطن” لتسود الحياة السياسية والاجتماعية في عالم العرب والمسلمين رغم أن الإسلام حاربها ومنعها وحاول إسقاطها.. وكانت الحقوق والواجبات تتحدد حسب موقع الفرد في الهرم الاجتماعي (حاكم، جندي، عالم، تاجر، فلاح).
وهكذا انتهت شؤون العرب على هذا الصعيد إلى فشلهم، خصوصاً في المشرق، في ترجمة وتحويل مفاهيم العصر مثل الوطنية والمواطنة إلى واقع حي ملموس، رغم محاولاته المستمرة منذ أحداث ما يسمى بالربيع العربي.. فقد بقي النقاش النظري يدور في دوامة من التناطح الفكري بعيداً عن هموم المجتمع وتحدياته العملية.. وما زلنا في بلداننا ومجتمعاتنا نعيش ضمن فضاء الانتماءات الأولى ما قبل وطنية وما قبل دولتية حديثة، كالعشائرية والقبلية، التي تقدم للناس على أساس أنها هي التجسيد الحقيقي لمفهوم المواطنة، وأن الولاء للملك والزعيم المفدى هو أرقى أشكال تحقق معنى الوطن والوطنية والمواطنة..!!.
والتحدي الأكبر في الواقع الحالي يكمن في ضرورة السعي لبناء مواطنة حقيقية تكون فيها الهوية الوطنية الجامعة هي الإطار الحاضن للتنوع الديني والاثني والثقافي، وتتفوق على الانتماءات الضيقة (الطائفية والعشائرية) من جهة، وتتعايشُ بانسجام مع الانتماءات الأوسع (القومية والدينية) من جهة أخرى.. رغم أن الواقع العربي لا يبشر بالخير حالياً للأسف، والدليل على ذلك، هو هذه العودة الطاغية اليوم للانتماءات الضيقة ما قبل الوطنية، كالطائفية والعشائرية، والتي أصبحت تُقدَّم وكأنها التجسيد الحي والحقيقي للوطنية والمواطنة.. حيث شهدنا كيف أدت هذه النزعات في دول مثل العراق ولبنان إلى تقويض فكرة الدولة الحديثة، واستبدالها بنظام المحاصصة الذي يحبط أي إمكانية للتنمية أو الاستقرار أو الازدهار المجتمعي.. واليوم، تتكرر نفس الظاهرة في سوريا، حيث يدَّعي كل فريق احتكار مفهوم “الوطنية” بناءً على انتمائه الضيق، ويتهم الآخرين بالخيانة لمجرد الاختلاف معهم..!.
إن هذا الصراع يتجاوز السعي للمكاسب المادية والسياسية، ليصبح معركة على الهوية نفسها. لقد تحولت “الوطنية” في خطاب بعض النخب إلى هوية “قبلية” طائفية أو إثنية، تُستخدم كسلاح لتهميش الآخر ونزع غطاء الشرعية عنه بل ومحاربته في أساس وجوده.. وهذا انحراف خطير عن المفهوم الحقيقي للمواطنة، الذي يقوم على أساس الحق في الاختلاف في الرأي والفكر والمعتقد، ويشكل حجر الزاوية في الدولة الحديثة التي تسعى لتحقيق المساواة بين أبنائها وتحترم حرياتهم.
طبعاً من المهم هنا أن نميز بين مفاهيم المواطن والوطنية والمواطنة.. فالوطنية تعني هذا الشعور النفسي العاطفي بالانتماء إلى الأرض والتاريخ والثقافة.. إنها قيمة حميمية تمنح الفرد الإحساس بالاستقرار والحماية والانتماء، لكنها تبقى جامدة إذا لم تقترن بحقوق فردية سياسية واضحة وصريحة ومضمونة الإجراء والتجسد..
وأما المواطن (Citizen) فهو الشخص الذي ينتمي قانونياً إلى دولة معينة، وتكون العلاقة بينهما قائمة على الوضع القانوني من حيث الحقوق والواجبات.. فللمواطن حقوق يضمنها القانون (كالحق في العمل، التعليم، التصويت، الترشح للانتخابات وووإلخ)، وعليه واجبات يجب أن يؤديها (كدفع الضرائب، احترام القانون، والدفاع عن الوطن في بعض الأحيان).. وباختصار: المواطنة هي صفة قانونية تحدد عضوية الإنسان في دولة ما.
ويمكن القول بأنَّ المواطنة هي التجسيد القانوني الحركي والعملي للوطنية.. إنها صفة الفاعلية التي تمنح الفرد حقوقاً، وترتب عليه واجبات ضمن إطار الدولة الوطنية التي يعيش تحت ظل قانونها المدني.. وهي الفضاء الذي يسمح بالتنوع والاختلاف تحت مظلة القانون الواحد.
ولا شك بأن العلاقة بين المفهومين متجذرة وعضوية؛ فالوطنية المشبعة بالحب هي البيئة الخصبة للمواطنة الفاعلة، والمواطنة العادلة هي التي تحول هذا الحب من شعار جامد إلى واقع حي. وبدون مواطنة حقيقية، تتحول الوطنية إلى أداة للاستبعاد والقمع، كما حدث في تجربة الأنظمة الشمولية التي جرت فيها عملية احتكار كامل وشامل للسلطة في تعريف الوطن واتهام كل مختلف بالخيانة والتآمر وبالتالي قامت تلك النظم بالقضاء عليه. فالمواطن هو الهوية الرسمية؛ والوطنية هي الشعور والروح التي تملأ هذه الهوية بالمعنى والحياة والامتداد والحركة الفاعلة..
لقد قدمت الدول والمجتمعات الأوروبية الحديثة (وما زالت تقدم) نموذجاً متطوراً لدولة المواطنة، حيث انتقلت من المفهوم التقليدي للوطنية القائم على الانتماء العاطفي والثبات، إلى مفهوم يرتكز على الإنسان نفسه: أفكاره، طموحاته، وتمايزه. فلم يعد الوجود الوطني مجرد انتماء وجداني فطري، بل تحوّل إلى فضاءٍ يحتضن قدرة الفرد على التميُّز وممارسة حريته في الاختلاف.
وأصبحت السُبل متعددة لتحقيق الذات وحضورها بشكل فاعل ومنتج، في الفكر والسياسة والعلم والفن والأدب والدين وغيرها.. وهكذا، بات الإنسان مواطناً لا بمجرد انتمائه الجغرافي أو العاطفي، بل بكونه كائناً مفكراً واجتماعياً ومبدعاً، يتمتع بالحق في الاختلاف والمشاركة الفاعلة في مختلف مناحي الحياة، كفردٍ ذي قيمةٍ وحقوقٍ وحرية.
وفي هذا النموذج، يتحول الوطن من كيان ثابت إلى حركة ديناميكية، قائمة على الإنتاج والقيمة والتطور الحضاري. هذا التحوّل لا يلغي قيمة الأرض والانتماء التقليدي، بل يثريهما بإضافة حقوق الإنسان واحترام التنوع والاختلاف، لتصبح هذه العناصر عوامل دفعٍ وبناء للمجتمع، لا أسبابًا للتفكك والهدم.
وللأسف، لم نصل نحن بعد – في اجتماعنا العربي والإسلامي – إلى هذه المرحلة النوعية من الوعي السياسي الحقيقي لمفهوم الوطنية والمواطنة.. بل ما زلنا نعيش تحت وطأة “الوطنية المختزلة” التي تنتزع صفة الوطني من أي شخص يفكر بشكل مختلف عن تفكير نخبته السياسية الحاكمة إلى أي صيغة سياسية انتمت.. فنرى هيمنة “وطنيات” محلية ضيقة تتنكر للهوية الوطنية العامة الجامعة، وتختزل الوطن في حدودها الضيقة.. وجميعهم يرفعون شعار المواطنة ولكنهم يتنكرون لجوهرها في حقيقة “الاختلاف” الإيجابي المثمر والمنتج.
نعم، نحن لم نتمكن بعد من إنجاز مشروع “الدولة الوطنية” القائمة على العقد الاجتماعي الذي يحترم الاختلاف ويديره بشكل قانوني مدني سلمي.. والخطر الحقيقي يكمن هنا في أن نستبدل استبداد الأنظمة العسكرية باستبداد طائفي أو عرقي جديد، تحت شعارات وطنية زائفة..!!.
إننا نعتقد أن المواطنة الحقيقية هي التي تحوِّلُ الوطن من مكان ثابت مغلق إلى فضاء سائل منفتح يتسع للجميع على قاعدة الحقوق والوعي والمسؤولية، على عكس التصلب الطائفي – وغيره من الانتماءات الأولى – الذي يجمد الزمن والمكان، ويحول الوطن إلى سجن كبير بهوية أحادية مغلقة.. ولا شك بأن المستقبل يتطلب حواراً جريئاً يعيد تعريف العلاقة بين الانتماء العاطفي للوطن، ومتطلبات العيش المشترك تحت سقف مواطنة متساوية..
