فضاءات فكرية

البُعدُ الصّوفي والرّوحي للأديان نحو فهمٍ أعمق يتجاوزُ النّظرة الظّاهريّة العرفانُ كطريقٍ للوعي الفاعل المُتجدِّد

بقلم: نبيل علي صالح / كاتب وباحث سوري

وهذه النظرة الظاهرية السطحية للدين باتت مشكلة حقيقية في العصر الحالي، كونها تتجاهل العمق الروحاني الإنساني المتجذر في فطرة الإنسان، لتكتفي فقط بالقشور الظاهرية المتصلة بسلوكيات ذات بعد مظهري استعراضي لا معنى له، مع إهمال شبه كامل للأخلاق الحياتية العملية، وإسقاط القيم الحقوقية..

هذا كله في الواقع يبرز أهمية التأكيد على البعد العرفاني الإنساني في الأديان.. ويُقدم البعد الصوفي والعرفاني كفرصة للبحث عن الجوهر الأصيل والمعنى الأعمق للحياة من خلال الارتباط المباشر مع الذات والبحث عن الحقائق الإلهية، وهو ما يتجاوز مجرد الالتزام الظاهري بعادات وتقاليد وسلوكيات دينية، وقد لا تكون من الدين في شيء..

نعم يجب التأكيد على أهمية هذا البُعد الصوفي والعرفاني في أصل حقيقة الأديان، وإعادته إلى واجهة المشهد الديني، ليس خلاصاً أو إهمالاً الشعائر أو الالتزامات الدينية الأساسية.. بل لتصويب معاني الإيمان الديني التي تم تحريفها عن مقاصدها الإنسانية، وإعادة توجيه “الطاقة الدينية” – إذا جاز التعبير – نحو معالجة قضايا الوعي والعقل البشري الشاملة، والتركيز على جوهر الأديان، ومضامينها العميقة، في منحها معنى أعمق وغاية أسمى، بدلاً من الاقتصار على مظاهرها الخارجية وطقوسها وتشريعاتها (دون التقليل من شأن أي جانب منها بطبيعة الحال). كما ستعيد الاهتمام إلى “السير والسلوك” الفردي كمسار مركزي، وتستعمل لغة مفاهيمية قابلة للانتشار عالمياً.. وهذا ما يعمق الإحساس بالوجود والقيم الإنسانية السامية.. مما يجعل الدين حياً في القلب والسلوك وليس مجرد طقوس شكلية مؤقتة ووظيفية آنية.

لقد باتَ عالمنا اليوم – الذي يموج بالصراعات، وتغلب عليه النزعة المادية في هيمنة الاستهلاك والتسليع وفقدان المعنى – بحاجة لمعاني الدين الجوهرية في وعي العرفان كنهر جوفي هادئ، يروي ظمأ الروح الإنسانية الباحثة عن المعنى فيما وراء المظاهر الشكلية..

والاهتمام بالبعد العرفاني الروحي للدين ليس مذهباً فلسفياً معقداً، ولا مجرد طقوس منعزلة عن ساحة الوجود والحياة، بل يمكن القول إنه “جوهر الدين الحي” وقلبه النابض؛ وطريق مباشر لتذوق حلاوة الإيمان والوصول إلى اليقين..

وفي عصرنا هذا – الذي طغت عليه الشكليات والطقوس الجافة والخطابات الظاهرية، وهيمنت على كامل المشهد الديني العملي – تأتي الحاجة الملحة لإعادة اكتشاف هذا البعد الغائب أو المُهمَّش في مواقعنا الاجتماعية والعملية.

ويمكن تعريف العرفان ببساطة على أساس أنه “معرفة القلب” أو “علم الباطن”.. فهو ليس مجرد معرفة عقلية أو جمع للمعلومات، بل هو “ذوق” و”كشف” وتحقّق.. وإذا كانت علوم الشريعة تهتم بـ “ما يجب على العبد فعله“، فإن علم العرفان يهتم بـ “حالة القلب أثناء الفعل وبعده“. إنه الانزياح من سؤال “هل هذا الفعل حلال أم حرام؟” إلى سؤال أعمق: “ما هي حالة قلبي وأنا أؤدي هذا الفعل؟! وهل يقربني هذا الفعل من الله أم يبعدني عنه؟!”.. فالله تعالى هو الغاية والمنتهى.

إن العرفان مسارٌ روحيٌّ يهدف إلى المعرفة المباشرة للحقيقة الإلهية عبر التجربة الذاتية، لا مجرد التلقّي النظري.. ويتم فيه التركيز على الباطن (تزكية النفس وصفاء القلب)، والسير إلى الله (في رحلة وجودية من الحجاب إلى المشاهدة)، والكشف والشهود (كإدراك مباشر للحقائق الامنة وراء المنطق).. إنه الاتصال والمحبة التي هي علاقةٌ وجودية قائمة على القرب والمحبة لا الخوف، وهنا تأتي قيمة مقولة أمير المؤمنين الإمام علي(ع) حول: (عبادة الأحرار لا عبادة التجار)..

والعرفان بطبيعة الحال لا يلغي الشريعة (القانون والأحكام)، بل يتجاوزها إلى المقصد الأعمق منها وهو نباء النفس وتقويمها عملياً على معايير الدين العميقة في السير والسلوك.. وهذا لُباب الدين وروحه، بينما الشريعة هي الهيكل والجسد.. وكما أن الجسد بلا روح جثة هامدة، فإن الدين بلا بُعد عرفاني يتحول إلى طقوس مجردة وجافة تفتقر إلى الحياة.

ولا يقوم العرفان على التنظير الفلسفي فقط، بل هو في الأساس “رحلة عملية” يخوضها الإنسان داخل نفسه. وتدور هذه الرحلة حول عدة محاور أساسية:

1- التزكية والترقية الأخلاقية: الهدف الأساسي هو تطهير النفس من الرذائل (كالحقد – الغرور- الطمع – الجشع)، وتحليتها بالفضائل (كالمحبة والتواضع والزهد). إنها معركة يومية ضد “الأنا” التي تحجب الإنسان عن ربه، والتزاماته تجاهه تعالى.

2- المجاهدة والمراقبة: لا يتم هذا التطهير بسهولة، بل يحتاج إلى مجاهدة دائمة للنفس والشهوات، ومراقبة مستمرة للقلب وأفكاره وخواطره. وهذا ما يقوله العرفاء، من أن النفس كالطفل، إن تهمله شب على حب الرضاع، وإن تفطمه ينفطم.

3- الذكر والفناء: الذكر ليس مجرد ترديد لألفاظ، بل هو استحضار دائم لله في القلب، يؤدي إلى “فناء” العبد عن كل ما سوى الله، و”بقائه” به. فهو عملية تطهير مستمرة للقلب ليكون عبدًا خالصًا لله.

4- المحبة والشوق: حيث يتحول العابد من عبد يؤدي واجباته بخوف من النار أو طمعًا في الجنة، إلى عاشق يتجه إلى محبوبه بشوق ولذة، لأن الطاعة تصبح غذاءً للروح.

العرفان كدواء لأزمة الإنسان المعاصر:

في الواقع، كما قلنا في البداية، البشرية تعاني، وصراعاتها كثيرة، وأزماتها معقدة، وهذا له دلالة كبيرة على عمق وتوسع هذا القلق الوجودي والفراغ الروحي في مجتمعات هذا العالم على اختلاف انتماءاتها وقومياتها وأعراقها، ولا شك بأن العرفان يقدم لنا إجابات عملية واضحة وعميقة في هذا السياق.. فهو:

يعالج أزمة الهوية: حيث أنه في زمن تذوب فيه الهويات، يذكرك العرفان بأن هويتك الحقيقية هي “روحك” (أي إنسانيتك) التي تنتمي إلى مطلق مقدس، وليست فقط بانتمائك العرقي أو الاجتماعي أو الجهوي أو أو إلخ.. هو رحلة لاكتشاف الذات الحقيقية، وهي ذات إنسانية فطرها الله على الخير والجمال والمحبة.

ويخفف وطأة المادية: لا ينكر العرفان العالم المادي، ولكنه يعلمنا عدم التعلق به واعتباره غاية ونهاية مآل.. إنه يقدم منهجاً للعيش في العالم دون أن نكون عبداً له ولما فيه من نزعات وشهوات، مما يحررنا من طغيان الاستهلاك والملذات وزخارف الحياة.

– ويعمق التسامح والتعايش: حيث أنه عندما تدرك أن النور الإلهي واحد، والمصدر واحد، حتى وإن اختلفت الطرق، ستنفتح على الآخر المختلف بدافع المحبة الفطرية لا بدافع التسامح الشكلي الظهري. والعارفون يرون الدين منظومة قيم جوهرية (كالمحبة والعدل والرحمة) قبل أن يكون مجموعة من الشعائر والالتزامات الخارجية.

– ويطوّر الوعي: فالرحلة العرفانية هي في جوهرها وأساسها رحلة عملية لتطوير الوعي الإنساني، وإعادة تثميره، من خلال نقله من حالة وموقع الوعي الحسي المحدود إلى حالة ومستوى الوعي الروحي الشامل الذي يرى الوحدة الكامنة وراء كثرة المخلوقات.

وهنا قد يسأل سائل: أليسَ العرفان هروباً من واقع المسؤولية واستقالةً كلية من الحياة؟!.

حقيقة، لطالما لُفّ العرفان بهالةٍ من سوء الفهم.. ولكن يجب القول والتأكيد على أنّ العرفان ليس انعزالاً عن العالم، حيث أن العارف الحقيقي لا يعتزل الناس في صومعة، بل هو من يدخل بينهم بروح إنسانية وقلب سليم غير متعلق.. وهنا نذكر بأن كبار العرفاء كانوا مجاهدين وتجاراً وأئمة ومصلحين اجتماعيين.. كذلك العرفان ليس إلغاءً للعقل، بل يتجاوزه. وهو كمثل الطائر يطير بجناحين، جناح العقل وجناح القلب.. ويستخدم العقل حتى النهاية ثم يسلّم للقلب، حيث يبدأ مجال “المكاشفة”.

والعرفان أيضاً ليس حكراً على دين معين أو محدد بذاته، بل يظهر في كل الأديان..

ففي الإسلام: كان التصوف، وهو المسار العرفاني الرئيسي الذي جاء مع شخصيات مثل محيي الدين بن عربي (وحدة الوجود) وجلال الدين الرومي (المحبة الإلهية).. مع التركيز الدائم على التخلق بأخلاق الله والفناء عن النفس والبقاء بالله.

وفي المسيحية: جاء التصوف المسيحي مع شخصيات مثل القديس يوحنا الصليب (الليل المظلم للروح) والقديسة تيريزا الأفيلية، حيث التركيز على الاتحاد بالله من خلال المحبة والتأمل.

وفي اليهودية: كانت القَبالَة، وهي التقليد العرفاني اليهودي الذي يبحث في الأسرار الإلهية وطبيعة الخلق. ويهتم بتفسير البعد الباطني للتوراة.

كما تضمّنت الهندوسية بعضَ المسارات الخاصة بالتأمل والتحرر، وذلك بهدف الوصول إلى وحدة الذات بالروح الكونية.

أما في البوذية: فهناك التأمل سعياً للاستنارة عبر الاختبار المباشر للطبيعة الحقيقية للواقع.

الطاوية: هناك السعي للاتحاد مع “الطاو” (المبدأ الكوني الأعلى).

وهكذا فإن العرفان ليس نظرية فلسفية ندرسها، بل هو “منهج حياة” و”رحلة وجودية”.. هو دعوة لكل إنسان – بغض النظر عن انتمائه – للانطلاق في رحلة داخلية لاكتشاف أعماق نفسه والكون من حوله (من عرف نفسه، عرف ربه – العبودية جوهرة: كنهها الربوبية).. إنها دعوة للانتقال من الدين كتراث موروث إلى الدين كتجربة حية، من الإيمان التقليدي إلى الإيمان الذوقي اليقيني. ولا شك بأن الالتزام بأركان الدين وقيمه القارّة أساس العرفان..

وهذا الزمن – زمن الضجيج والسطوح والقشور والاستهلاك وهيمنة النزعات الأولى في قواها الشهوية والغضبية لدى البشر – يأتي العرفان ليذكرنا بأنَّ الحقائق والجواهر كامنة في البواطن، وأن خلاص الإنسان لا يكون بالهروب إلى الخارج، بل بالغوص إلى أعماق نفسه (أتزْعمُ أنكَ جرمٌ صَغير، وفيكَ انطوى العالمُ الأكبرُ)، حيث يسكن السلام والحب والمعرفة الحقيقية.. إنه طريق العودة إلى “الفطرة” الإنسانية السليمة، التي تتوق دائماً إلى أصلها وفصلها، إلى حيث نبعها ومصدرها النوعي الأول..

إذاً كخلاصة لما تقدم، تكمن أهمية البعد الصوفي والعرفاني في الأديان في:

  • تعميق الفهم والإدراك المعنوي: يتجاوز الوعي الديني السطحي ليغوص في تفسيرات أعمق للنصوص والطقوس الدينية، بما في ذلك معانيها الروحانية والرمزية.
  • تحقيق السلام الداخلي والمصالحة مع الذات: وهو ما يتيح للعقل والروح السعي الغائي الهادف وراء سبل الهدوء والسكينة الداخلية، وتعميق الاتصال بالله بطريقة أعمق وأكثر شخصية.
  • البحث عن المعنى ذاتاً وموضوعاً: يوفّرُ إطاراً فلسفياً وروحياً يُمكّن من فهم المعنى الحقيقي للحياة من خلال التركيز على القيم الروحية والأخلاقية.
  • تجاوز المادية والنظرة الشكلية: يساعدُ على مقاومة تأثير النظرة المادية للعالم من خلال التركيز على الأبعاد القيمية الروحية والمعنوية.
  • تعزيز الأخلاق والنظرة القيمية للدين: يؤدي إلى سلوك أخلاقي أكثر استدامة، لأنه ينبع من الداخل، لا من مجرد القوانين والقواعد الظاهرية.
  • تعزيز الروحانية العملية: يساهم في إحياء الروحانية الأصيلة للإنسان في ظل التركيز المادي والظاهري في الدين، ويُشجع على العيش وفق القيم الروحانية الحقيقية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *