إسرائيل والحرب في السودان.. المصالح الاستراتيجية والتداعيات الإقليمية
ترجمة وإعداد: حسن سليمان
ملخص: خلّفت الحرب الأهلية في السودان أسوأ أزمة إنسانية في العالم، وتهدد بزعزعة استقرار منطقة البحر الأحمر بأكملها. بالنسبة لإسرائيل، للتطورات في السودان تداعيات استراتيجية واضحة: فالأمن البحري، ومكافحة الإرهاب، والتطبيع الإقليمي، كلها أمور تعتمد على مستقبل السودان.
لقد أصبح الصراع ساحةً للتغلغل الإيراني والروسي والصيني، وهو تحدٍّ يتطلب من إسرائيل وشركائها الغربيين العمل معاً. من خلال التنسيق الاستخباراتي، وضمان الأمن في البحر الأحمر، وتقديم المساعدات الإنسانية، والتحضير للتطبيع بعد الحرب، تستطيع إسرائيل حماية مصالحها الحيوية، وتعزيز عضويتها في المعسكر الغربي، والمساهمة في تشكيل نظام إقليمي أكثر استقراراً.
مقدمة
يقع السودان حالياً في قلب أسوأ كارثة إنسانية في العالم، وهو انهيار له تداعيات مباشرة على أمن إسرائيل. فقد نزح أكثر من 12 مليون شخص، ويحتاج 30 مليوناً إلى مساعدة فورية، وتنتشر المجاعة والأوبئة بشكل خارج عن السيطرة. لم تعد هذه حرباً أهلية محلية، بل زلزال إقليمي يُعيد تشكيل منطقة القرن الأفريقي وحوض البحر الأحمر والبيئة الاستراتيجية لإسرائيل.
بينما ينصب الاهتمام الدولي على الحروب في أوكرانيا وغزة، فإن انهيار السودان قد يحوّل طريق البحر الأحمر إلى أرض خصبة للإرهاب وتهريب الأسلحة والتنافس بين القوى العظمى. بالنسبة لإسرائيل، فإن التداعيات بالغة الأهمية: فالأمن البحري، ومكافحة الإرهاب، ومستقبل التطبيع مع العالمين العربي والأفريقي، كلها أمور تعتمد على التطورات هناك.
من صراعات السلطة إلى انهيار الدولة والأزمة الإنسانية
اندلعت الحرب في نيسان 2023 بعد أشهر من التوترات بين الجيش السوداني بقيادة الفريق عبد الفتاح البرهان، وقوات الدعم السريع بقيادة الفريق محمد حمدان دقلو (حميدتي). أصبح الطرفان، اللذان تعاونا في الإطاحة بنظام عمر البشير، خصمين في صراع على السيطرة والموارد والتحالفات الخارجية، وكانت النتيجة مدمرة. دُمرت الخرطوم وأم درمان في معارك شوارع، وعانت دارفور من فظائع عرقية تُذكرنا بأوائل الألفية الثانية، وانهار النظام الصحي، وانتشرت المجاعة، وفرّ الملايين إلى تشاد وجنوب السودان وإثيوبيا. تفككت البلاد، تاركةً مناطق شاسعة بلا حكومة، مُشكّلةً أرضاً خصبة للجهاديين وشبكات التهريب والتدخل الأجنبي.
يُعدّ موقع السودان الجغرافي مصدر قلق بالغ. فهو يربط منطقة الساحل بالقرن الأفريقي، وله ساحل طويل على البحر الأحمر، شريان حيوي للتجارة العالمية، ومنفذ لإسرائيل إلى المحيط الهندي. يؤثر عدم الاستقرار هناك على ممرات الشحن، ويقوّض الحكومات الإقليمية، ويهدد توازن القوى في الشرق الأوسط بأكمله.
القوى الأجنبية وصراع النفوذ
أصبح السودان ساحة معركة بين قوى إقليمية وعالمية متنافسة، كل منها تنحاز إلى جانب في الصراع الداخلي. تدعم مصر القوات المسلحة السودانية بقيادة البرهان للحفاظ على السيطرة على نهر النيل ومنع تدهور الأوضاع الإقليمية. الإمارات العربية المتحدة هي الداعم الرئيسي لقوات الدعم السريع التابعة لحميدتي، سواء من حيث الروابط السياسية أو المصالح الاقتصادية أو الوصول إلى الذهب. أما المملكة العربية السعودية، التي يُعدّ البحر الأحمر محورياً لأمنها، فتسعى جاهدةً للحفاظ على التوازن، لكنها تُضفي شرعيةً متزايدةً على قوات الدعم السريع كشريكٍ محتملٍ في حماية الممرات الملاحية.
تتعاون مجموعة فاغنر الروسية مع قوات الدعم السريع مقابل الوصول إلى مناجم الذهب والقدرة على العمل على طول ساحل البحر الأحمر. تسعى إيران إلى استعادة موطئ قدمٍ لها من خلال دعم عناصر مختلفة وتهريب الأسلحة إلى فروعها خارج البلاد. من ناحيةٍ أخرى، تتجنب الصين التدخل المباشر، لكنها تعمل على الحفاظ على نفوذها الاقتصادي في إطار مبادرة “الحزام والطريق”، مع التركيز على تطوير البنية التحتية والموانئ.
يُظهر هذا التنوع في التدخل الخارجي تعقيد الوضع وعودة التنافس بين القوى على القارة الأفريقية. الشركاء العرب للعناصر المتشددة لا ينقسمون بين شركاء إسرائيل من جهة ومنافسيها من جهةٍ أخرى. من وجهة نظر إسرائيل، لهذا الأمر تداعيات رئيسية عديدة: أولاً، أصبح البحر الأحمر ساحة أخرى للجبهة الإيرانية، حيث يهدد حلفاء طهران – الحوثيون في اليمن ووكلاؤهم – حرية الملاحة؛ ثانياً، يُضعف ترسيخ النفوذ الروسي والصيني في القرن الأفريقي إمكانية الوصول الاستراتيجي للغرب وقوى الاعتدال في المنطقة؛ ثالثاً، لتجنب الانجرار إلى مواجهة مع العناصر التي تُثير التوتر في السودان، فإن الشاغل الرئيسي لإسرائيل هو استقرار الوضع، وليس بالضرورة التوصل إلى حسم لصالح أحد الأطراف المتشددة، لذا، يُمثل السودان اختباراً لقدرة إسرائيل – مع شركائها الغربيين – على التأثير في الصراعات في نظام دولي متعدد الأقطاب. قد يؤدي التقاعس عن العمل إلى فقدان أحد أهم شرايين إسرائيل البحرية لصالح القوى المعادية.
مصالح إسرائيل الاستراتيجية
الأمن والبحر الأحمر
يُعد البحر الأحمر شريان الحياة البحري لإسرائيل إلى آسيا وشرق إفريقيا. يعتمد ميناء إيلات على حرية الملاحة عبر مضيق باب المندب، وهو طريق بحري مهدد حالياً من قِبل الحوثيين المدعومين من إيران، بالإضافة إلى عدم الاستقرار على الساحل السوداني. تسمح الفوضى في السودان بتهريب الأسلحة إلى حماس وحزب الله عبر سيناء وليبيا، وهي ظاهرة موثقة منذ عقدين. لذلك، فإن استقرار السودان وإبعاد العناصر المعادية عنه، مع التركيز على إيران، يصب في مصلحة إسرائيل المباشرة في منع تجدد “ممر الأسلحة” من طهران إلى غزة.
مواءمة الخط الدبلوماسي والاستراتيجي
في عام 2020، وافقت الحكومة الانتقالية في السودان على الانضمام إلى “اتفاقيات إبراهيم” – وهي خطوة تاريخية بعد عقود من العداء. لو اكتملت هذه العملية، لكان قد تم إنشاء محور استراتيجي يربط إسرائيل والخليج والقرن الإفريقي. تلاشت هذه الفرصة بعد الانقلاب العسكري عام 2021 واندلاع الحرب، لكن الفكرة لا تزال قائمة: سودان مستقر ومؤيد للغرب من شأنه أن يعزز وجود إسرائيل في البحر الأحمر، وأن يكون شريكاً في مكافحة الإرهاب والأمن البحري.
للتطبيع مع السودان بُعد رمزي أيضاً: كان من الممكن أن تصبح الخرطوم – مدينة “الثلاث لاءات” عام 1967 – رمزاً للمصالحة. إن استئناف هذا المسار، بمجرد استقرار الوضع، من شأنه أن يُشير إلى أن التطبيع مع إسرائيل هو طريق نحو التنمية والاستقرار، وليس مخاطرة سياسية.
التكامل الإقليمي والتنمية
إلى جانب الأمن والدبلوماسية، يمكن لإسرائيل أيضاً أن تُسهم على المستوى العملي. فخبرتها في الزراعة الصحراوية، وإدارة المياه، والصحة العامة، يمكن أن تُساعد في إعادة بناء السودان بعد الحرب. كما أن دمج التقنيات الإسرائيلية مع جهود المساعدة الدولية من شأنه أن يُعيد بناء البنية التحتية ويوفر سبل العيش في هذا البلد المُدمر، وأن يُعزز علاقات إسرائيل مع الدول الأفريقية.
خيارات إسرائيل
لا تستطيع إسرائيل وحدها تحديد مصير السودان، لكنها تستطيع العمل – بشكل مباشر وبالتنسيق مع شركائها الغربيين والإقليميين – للحد من المخاطر ورسم ملامح واقع ما بعد الحرب. أربعة مسارات رئيسية:
التعاون البحري والاستخباراتي
يجب تعميق التنسيق الاستخباراتي مع الولايات المتحدة والشركاء العرب بشأن أمن البحر الأحمر. وتُعدّ مراقبة طرق تهريب الأسلحة من إيران عبر السودان واليمن أمراً أساسياً. ومن شأن تعزيز الوجود البحري في إيلات، إلى جانب تبادل المعلومات الآني، أن يُسهم في ردع التهريب والقرصنة.
المشاركة في الوساطة الإقليمية
يقود الاتحاد الأفريقي والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة مبادرات لوقف إطلاق النار. ويمكن لإسرائيل التعاون مع هؤلاء الوسطاء في هدوء دبلوماسي، مع التأكيد على الخطر الذي يُشكّله استمرار عدم الاستقرار على أمن البحر الأحمر. ويمكن للدبلوماسية الإسرائيلية أن تُكمّل الجهود الغربية بفضل توسيع قنوات الاتصال في أفريقيا والخليج.
الدبلوماسية الإنسانية
على الرغم من تواضع مساهمة إسرائيل الإنسانية، إلا أن قدرتها على تقديم الدعم الطبي واللوجستي السريع مُعترف بها عالمياً. من خلال وكالة المعونة الدولية ومنظمات المجتمع المدني الإسرائيلية المتخصصة في تقديم المساعدات للمناطق المنكوبة، يُمكن قيادة جهود إغاثة تُعزز صورة إسرائيل كقوة بناءة ومسؤولة في المنطقة.
الاستعداد للتطبيع بعد الحرب
مع عودة حكومة مدنية شرعية، يجب على إسرائيل أن تكون مستعدة لاستئناف محادثات التطبيع ودعم إعادة دمج السودان في “اتفاقيات أبراهام”. ستساهم هذه الخطوة في إعادة إعمار السودان، وتعزز مكانة إسرائيل الإقليمية، وتفتح آفاقاً اقتصادية جديدة.
التوافق الجيوسياسي مع الغرب
يتوافق موقف إسرائيل تجاه السودان بطبيعة الحال مع موقف الولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى. فلجميعها مصلحة مشتركة في الحفاظ على حرية الملاحة، وكبح جماح التوسع الإيراني، ومنع ترسيخ الوجود الروسي والصيني في منطقة البحر الأحمر. إن قدرات إسرائيل الاستخباراتية والعملياتية، إلى جانب علاقاتها الإقليمية، تجعلها شريكاً حيوياً.
يعزز هذا التعاون مكانة إسرائيل في المعسكر الديمقراطي والغربي – دولة متقدمة تكنولوجياً تُسهم مساهمة حقيقية في الاستقرار العالمي. في وقتٍ يشهد فيه الشرق الأوسط انقساماً، ويُثير فيه التدخل الأمريكي جدلاً، يُمكن للتدخل الإسرائيلي في أفريقيا أن يُبرز مسؤوليتها ودورها كشريكٍ موثوقٍ في النظام الدولي الليبرالي. ويكتسب هذا أهميةً خاصة في سياق الجهود التي تقودها الولايات المتحدة لتوسيع نطاق “اتفاقيات إبراهيم” لتشمل المملكة العربية السعودية.
خلاصة
يُشكل انهيار السودان كارثةً إنسانيةً جسيمةً وتهديداً استراتيجياً طويل الأمد لإسرائيل. ونظراً لتدهور الأمن في البحر الأحمر وتزايد التدخل الإيراني، لا تتمتع إسرائيل بامتياز عدم الاكتراث. ومع ذلك، فإن الانحياز العلني إلى أحد الطرفين المتحاربين قد يُلطخ سمعة إسرائيل بجرائم حربٍ يتورط فيها الطرفان، ويُنفّر القيادة التي ستظهر في المستقبل.
في هذه الحالة، تتطلب مصلحة إسرائيل انخراطاً دقيقاً ومتدرجاً يُركز على ثلاث خطواتٍ مُعاصرة:
1- منع ترسيخ إيران وتهريب الأسلحة من خلال القدرات الاستخباراتية والتعاون مع الولايات المتحدة والشركاء العرب الرئيسيين.
2- تعزيز أمن البحر الأحمر من خلال تحديد الخطوط الحمراء وتوسيع التنسيق العملياتي مع الشركاء الإقليميين.
3- نشاط دبلوماسي سري من خلال وساطة متوازنة لا تحسب إسرائيل على أيٍّ من المتدخلات البربرية على الأرض.
ستسمح هذه الخطوات المحدودة لإسرائيل بالحفاظ على مجال نفوذ مستقبلي، مع تجنب التشابكات الأخلاقية والسياسية في الوقت نفسه. عندما تُتاح فرصة سياسية – مع صعود قيادة مدنية شرعية – يجب على إسرائيل أن تكون مستعدة للعودة إلى تعزيز التطبيع وتقديم الدعم لإعادة الإعمار الاقتصادي والاجتماعي في السودان. سيسمح هذا بتوسيع “اتفاقيات أبراهام”، مما يضمن عمقاً استراتيجياً لإسرائيل، ويحوّل البحر الأحمر من محور تهديد دائم إلى ممر للتعاون والتقارب.
لا تستطيع إسرائيل حل الأزمة في السودان بمفردها – وبالتأكيد ليس في الوقت الحالي – لكن التخطيط السليم الآن يضمن تأثيراً حقيقياً بعد الحرب. وهذا شرط أساسي للحفاظ على مصالح إسرائيل الأمنية وقيادة عملية إقليمية لصالح الجميع.
معهد القدس للاستراتيجية والأمن – د عمانوئيل نافون
