مسألة التجديد والأحداث السابقة
بقلم: غسان عبد الله
في أوج عصر التنوير الأوروبي أشار هيغل “أن الفكر ينمو ليصل إلى وعي أكبر لذاته، والتاريخ ما هو إلا سلسلة من الصحوات البطيئة لوعي العالم على نفسه”، وهناك قول آخر إن الوعي للمجتمعات والحضارات هو مسألة تتشكَّل حسب التحديات التي تواجهها، ونوع الاستجابات التي تتعرض لها.
حالة الجمود الديني في أوروبا هي من قادت الألماني “مارتن لوثر” للتصدي للخرافة الكنسية اعتراضاً على صكوك الغفران مدشناً مساراً حديثاً للإصلاح الديني، وفتح صفحة جديدة في تاريخ الدين المسيحي. في عالمنا العربي والإسلامي هناك الكثير من الممارسات التجديدية التي تحاول أن تكسر الجمود الكاهل على الفكر الإسلامي منذ أكثر من قرن، لكن للأسف أن مستوى الأفكار المطروحة لا يلامس جذور الإشكاليات الحالية من سياسية وثقافية ودينية. ومعالجة الإشكاليات السابقة ربما تحتاج إلى العقل أكثر من الشجاعة، وعمق الفكرة أكثر من رفع الصوت، والحوار أكثر من القطيعة والجدل الذي لا طائل منه.
مرَّ العالم العربي بعدة فترات ظهرت فيها أفكار شتى، بعضها دام طويلاً وبعضها مات في مهده، حيث إن جل الحركات الوطنية التحررية التي نفضت عن نفسها وأوطانها سيطرة الاستعمار كانت حركات تنتمي أفكارها إلى الداخل “محيطها”؛ أي أنها كانت إسلامية وطنية وليست “إسلاموية”، حيث إن بعضها كان ينطلق من الزوايا الصوفية التي كانت تمثل النمط الديني السائد في البلاد كما هو الحال في الجزائر وليبيا والمغرب، وفي الشرق كانت الحركات الوطنية بكافة أشكالها والنخب العربية هي من تناضل ضد المستعمر، لكن المغرب العربي كان في معركة كسر عظم مع المستعمر؛ وذلك بسبب الظروف الاستعمارية، حيث إن مصر كانت في تحالف ملكي مع المستعمر، لكن المغرب العربي كان تحت وصاية كاملة من قبل المستعمرين الغزاة، لهذا كان لا بد من صحوة داخلية.
ما إن انتصرت رغبة الشعوب العربية على المستعمر، إلا وبدأ مسار حديث لكن معوج الرؤية مسلوب العزيمة، ومن تجلياتها هو معركة البرلمان؛ حيث كان ابن نبي يقول في الوقت الذي كان الجزائريون يبنون الأرصفة بأيديهم كتعبير عن رغبة داخلية في النهضة تحولت مع الوقت إلى معركة داخل البرلمان حول كسب الأصوات، وتشكيل الخصوم الوطنية في تعبير كامل عن انحراف العمل النهضوي. وهذا النموذج القديم تجلَّى حديثاً في ما يسمى الربيع العربي، حيث بعد انتصار الثورة في مصر وتونس، تحولت الأصوات المجتمعة في الميادين إلى أصوات تتنافس على تقاسم السلطة، وعلى إقصاء شركاء الأمس ضد التخلف والاستبداد والجهل، إلى أن تصل لدرجة أنها تتحالف في سبيل “التمكين” مع العلة الأساسية التي هي المسؤولة عن كل ما يحدث داخل حدود الدولة الوطنية.
ما علاقة مسار التجديد بكل الأحداث السابقة؟ أي تحرك هو ناتج فكرة في المقام الأول قبل أن تكون أيّ شيء آخر، فعندما يكون مستوى الأفكار لا يرقى لطبيعة الأحداث الحالية، ولا يستوعب اللحظة التاريخية لها فمن الطبيعي أن تأتي استجابة سلبية تفشل إحداث تقدم إيجابي للموقف، بل إنها تحدث أزمة جديدة أكثر تعقيداً من سابقتها. يقول أهل الإدارة: إنه من المضحك أن تفعل ذات الفعل عدة مرات، وتتوقع حدوث نتيجة مختلفة، وهذا ما يحدث في عالمنا العربي؛ حيث الأحداث تتكرر، وتتكرر معها ذات الاستجابات القديمة ولا غرابة أن تفشل؛ حيث إن الحاضنة الفكرية للمجتمع وأيضاً التيارات الفكرية هي ذاتها متمحورة على قضايا محددة منذ عقود بلا أيِّ تجديد، ولهذا يقول قائل: ما أشبه الليلة بالبارحة! في حال عدم الجرأة على مراجعة الأفكار الحالية ونقدها نقداً ذاتياً أو تقبل البعض والانفتاح على نقد الآخر له، فنحن ندور في فلك تاريخي محدد، يتقدم الزمن ونبقى حبيسي هذا الإطار المحكوم بالفشل، والبعد عن إيقاع الحياة وحركة التاريخ، إلى أن يأتي جيل ويفيق من هذا السبات العظيم، ويرى حجم الكارثة التراكمية الكامنة على كاهل هذه المجتمعات.
دون تقديم أي مراجعات فكرية أو سياسية أو حتى ثقافية سوف تبقى حالة الركود والتخلف هي السائدة وإن تدثرنا بالمنتجات الشكلية الظاهرية البراقة، لكن يبقى الباطن متخلفاً إلى الجذور، ولن تغني الفقاعات الشكلية الظاهرية عن تعويض العلل الأساسية التي تبتلى بها المجتمعات العربية والإسلامية ما لم تتجرأ وتعلن مراجعات على كافة المستويات الدينية والثقافية وغيرها، حيث إن لا شيء يحدث في هذا العالم صدفة، صحيح أن التاريخ يتطور، والتطور يأخذ شكلاً سلبياً وإيجابياً، وهذا المسار يحدده رغبة الإنسان والكيانات الثقافية والدينية والسياسية، فهي إما أن تستكين إلى الدعة والحالة السائدة، وإما أن تقرر أنها سوف تقدم مراجعات تدفع إلى الدخول مجدداً كفاعل داخل حركة التاريخ بالتجديد الثقافي النقدي بدل الإبقاء على “إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون”.