“طالبُ”.. أفقياً عاد أخيراً.. لكنه دائماً يعود
بقلم غسان عبد الله
كان نداءً منهمراً من خيمةِ الأوصياء.. والأولياء..
منذ البدء يقترِفُ الرؤيا.. يُدمِنُ أكؤساً مترعةً بالتَّسابيح..
يتنفَّسُ الشهادةَ.. يعرِفُ كيفَ يكونُ صديقَ نفْسِهِ..
ويعرِف كيف يكون نقيضَ نفْسِهِ حين تُحدِّثُهُ عن السكون خلفِ الثغور..
يسكُنُ في المتاهات والدساكر..
يأتي مفاجئاً كالموت.. ساطعاً كالعشق..
فتىً حرَّاً كان.. ولم يزل..
يغامرُ في دهاليزِ العُتْمةِ بنورٍ منهُ لا يراهُ غيرُهُ..
يرنو للفجر.. يُشاكِسُ الليل.. يغيبُ.. ينتشر.. يحضُرُ ينتصرْ..
أفقياً عاد أخيراً.. لكنه دائماً يعود.. يعود وينتصرْ..
طالبُ الفارسُ الآتي من غربةِ الروحِ إلى غربةِ الوطن..
من حديثِ هل أتى.. ودعاءِ كميلٍ.. وأمِّ الكتاب..
هذا الفارسُ الجنوبيُ.. ليس لديه سوى دمٍ واحدٍ
لونٍ واحدٍ.. وجهةٍ واحدةٍ.. وعزم الشبابْ..
ليسَ له من وطنٍ سوى القصائدِ التي سوفَ تكْتُبُهُ ذاتَ زمان..
كي يجْمَعَ عطرَهُ حيناً.. ويكتبَ وردَهُ حيناً..
ويذْكُرُ النُسيمات التي تهبُّ للثْمِهِ..
ثم يهدْهِدُ روحَهُ.. فتنبعِثُ الأشواقُ في هاتيك الشعاب..
ليس له من وطنٍ سوى تلاوةِ الكتاب فوق ذاك التراب..
والهواءُ العليلُ يفتِّشُ القريةَ.. كلَّ سنبلة.. يستثيرُ الهضاب..
والفارسُ الحبيبُ يبحثُ عن جَدِيلةِ عُشْبٍ تؤرِّخُ للحياة..
وروحُهُ دغْدَغَها النَّحلُ.. علَّمها رشْفَ الشهدِ الصباحي من ذاك الرِّضاب..
تُرى أي تراب؟؟ أي تراب؟؟!!..
دمُ الشهيدِ على عشبِ تحرَّرَ من وطئِ اليهودِ هو ذاك الرِّضابْ..
إلى أين يا طالبُ..
لا ترحلْ.. تمهَّلْ.. ما يزالُ على الأفقِ بصيصٌ من ضياء..
ما تزالُ صورُ المودِّعين تنادي “ويحَ الزمان.. ويحَ التاريخ”..
لا ترحلْ يا أخَ الأوردة.. وصديقَ الصباحات..
فأنت حينما أفْرَدْتَ جناحَكَ للهضاب والحقول..
وخلّفْتَ وراءَكَ الحنايا والقلوب..
لم تكن تسْعى وراءَ الليل والأشعار..
والدمى والعطرِ وطِيْبِ الهوى واللعبِ والنومِ على عبَقِ التراب..
كان في صدْرِكَ عُصْفورُ الحسين يُغرِّدُ. وأناشيدُ الدوالي..
في وريد قلْبِكَ تفورُ لتوقِظَ في الأرضِ تُراباً زيتوناً وصُبَّارْ..
كان في صدْرِكَ عَبَقُ التُرابْ.