الحرب الإسرائيلية المتوحشة على لبنان واستراتيجية الفشل
بقلم توفيق المديني
على الرغم من طبيعة العدوان الإسرائيلي الوحشي والمدمر ضد حزب الله، منذ بدئه يوم الثلاثاء 17 سبتمبر الجاري بتفجير آلاف أجهزة البيجر التي كان يحملها أعضاؤه في وقتٍ واحدٍ..
وتكرر السيناريو عينه مرَّة أخرى باستخدام أجهزة الاتصال اللاسلكي يوم الأربعاء 18سبتمبر 2024، وتدمير الطائرات الإسرائيلية مبنى كاملاً في الضاحية الجنوبية لبيروت بعد يومين، ما أدَّى إلى استشهاد القائد العسكري الكبير إبراهيم عقيل، قائد وحدة النخبة “الرضوان”، ونحو خمسة عشر عضواً آخر من عناصر الحركة، إذْ خلَّفَتْ الغارة الإسرائيلية، 45 شهيداً، من بينهم 21 مدنياً على الأقل، من بينهم عائلتان كاملتان وأطفال، على الرغم من كل هذه الضربات المتلاحقة التي تلقاها حزب الله اللبناني، خلال الأيام الماضية، فإنَّ تأثير كل هذه الاعتداءات الإسرائيلية نفسيٌ ومعنويٌ واحتفاليٌ أكثر منه عسكريٌ، بسبب طبيعة بنائه وقدراته الميدانية من التسليح والبنية التنظيمية.
غير أنَّ المنظمات الجهادية مثل حزب الله وحماس والجهاد الإسلامي، التي تعرضت لعمليات اغتيال كبيرة لقياداتها السياسية والعسكرية، سرعان ما تتم تغيير تشكيلات البنى العسكرية واستبدال أصحاب المناصب الرفيعة عقب عمليات الاغتيال، فضلاً عن أنَّ هذه التصفيات عملياً تجدِّدُ شباب صفوف القيادة العليا في المنظمات الجهادية.
ومن بين القيادات العسكرية الخمس الأولى في حزب الله التي قادتْ عملية التحرير في عام 2000، قام جهاز الموساد بالاشتراك مع الـ سي. آي. إيه، بتصفية عماد مغنية في دمشق عام 2008، أمَّا ابن عمه وصهره مصطفى بدر الدين فتمتْ تصفيته في دمشق في 2016. وفي 30 يوليو 2024 قامت “إسرائيل” بتصفية فؤاد شكر بقصف جوي في الضاحية الجنوبية لبيروت، والآن إبراهيم عقيل. الوحيد الذي بقي من هؤلاء الخمسة هو طلال حمية، رئيس جهاز العمليات الخارجية في حزب الله، ومعه شخص رفيع آخر هو علي الكركي، قائد منطقة الجنوب.
استطاع حزب الله أن يوقع شبكه تجسس كاملة في الأسْرِ يوم الأربعاء 25 سبتمبر 2024 في الضاحية الجنوبية من بيروت بعد الغارات الإسرائيلية مساء الإثنين الماضي، يترأسها القيادي بالحزب حسين الباشا، قائد وحدة الاتصالات، والرجل المقرب من السيد حسن نصر الله، والذي بلغ عن العديد من موقع القيادات للحزب، وتمَّ مداهمة منزله والعثور على أكثر من 7 مليون دولار. وتم وقع هذا العميل الإسرائيلي بعد إبلاغه بموقع القائد علي كركي الوهمي، حيث وقعت المخابرات الإسرائيلية في المصيدة يوم الثلاثاء الماضي، وتم القبض على جميع العملاء من شبكه التجسس من الموساد الإسرائيلي (4 لبنانيين، 5 فلسطينيين، 3 من اليهود العرب مغاربة، وبولندي و6 أشخاص متعاونين)، وحصول على معلومات وبيانات وأجهزة وخارطة تنفيذ وصور قيادات حماس وحزب الله. ومازال 8 أفراد من شبكه التجسس هاربين ويتم ملاحقتهم من الأمن اللبناني وعناصر حزب الله، ومن ضمنهم العميل حسين الباشا، الذي لم يتم القبض عليه، ويُعتقدُ أنَّه متواجدٌ في “إسرائيل” الآن.
تصاعد وتيرة العدوان الإسرائيلي على لبنان
وصف الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله هذه الأحداث بأنَّها “مجزرة” و”إعلان حربٍ”، وبالتزامن مع هذه التفجيرات الذي قام بها العدو الصهيوني خلال الأسبوع الماضي، شنَّ جيش الاحتلال الإسرائيلي منذ صباح الإثنين 23 سبتمبر 2024، عدواناً وحشياً وهمجياً هو “الأعنف والأوسع” على لبنان منذ بدء المواجهات العسكرية مع “حزب الله” يوم 8 أكتوبر 2023، أسفر عن 558 شهيداً بينهم 50 طفلاً و94 امرأة، و1835 جريحاً، وفق أحدث بيانات وزارة الصحة اللبنانية.
القوة الضاربة في هذا العدوان الإسرائيلي هو سلاح الطيران الحربي، وهو أعنف قصف جوي تنفذه “إسرائيل” منذ حرب تموز/ يوليو 2006، ويستهدف مناطق واسعة في جنوب لبنان وشرقه، أي منطقة البقاع، وعدد كبير من مخازن القذائف والصواريخ لحزب الله التي نشرها في قرى جنوب لبنان. كما هاجم سلاح الجو في مساء الإثنين، بيروت في محاولة لتصفية قائد كبير في حزب الله، قائد الجبهة الجنوبية علي الكركي.
وكنتيجة لهذا القصف الوحشي والعنيف من قبل سلاح الجو الإسرائيلي، شهدت القرى والمدن الواقعة في جنوب لبنان، وفي منطقة البقاع موجة نزوح جماعية من السكان باتجاه منطقة بيروت. الشارع الرئيسي بين صور وبيروت احتلته السيارات التي تتحرك نحو الشمال كل المسارات الستة حتى على حساب المسارات التي تتجه نحو الجنوب. موجة الهجمات الكثيفة التي لم يشاهد مثلها في لبنان منذ حرب تموز2006 جاءتْ استمراراً لأحداث الاسبوع الماضي، هجوم البيجرات المتفجرة وأجهزة الاتصال وبعد ذلك تصفية القائد الكبير في حزب الله إبراهيم عقيل و15 قائد في قوة النخبة الرضوان في بيروت.
ما هو ردّ المقاومة اللبنانية؟
وبالمقابل، قام حزب الله في أحدث بيان له بقصف المخازن اللوجستيّة للفرقة 146 في قاعدة نفتالي بصلية صاروخية، وذلك “دعماً لشعبنا الفلسطيني الصامد في قطاع غزة وإسناداً لمقاومته الباسلة والشريفة، ودفاعاً عن لبنان وشعبه”. ومنذ فجر الثلاثاء 24 أيلول/سبتمبر الجاري، لم تتوقف صفارات الإنذار في مستوطنات شمال فلسطين المحتلة، جرَّاء إطلاق حزب الله 100 صاروخ من لبنان على مستوطنات شمالية، ما أسفر عن اندلاع حرائق في مناطق متفرقة، حيث سقط قسم منها في مستوطنة كريات شمونة القريبة من الحدود الجنوبية للبنان، وفقاً للقناة 12 الإسرائيلية.
وقال حزب الله في بيان إنَّه ردٌّ على “استشهاد العديد من المدنيين” بإطلاق نحو مئة صاروخ متوسط المدى فادي 1 و2 صباح الأحد على مناطق مأهولة بالسكان في شمال فلسطين المحتلة وصلت إلى محيط مدينة حيفا الكبرى. ويحدد البيان الصحفي أنَّ الأهداف كانت عسكرية: قاعدة رامات دافيد والمجمع الصناعي العسكري التابع لشركة رافائيل. ويستخدم حزب الله صواريخ فادي لليوم الثالث على التوالي، وللمرَّة الأولى منذ بدء موجة الاشتباكات مع الجيش الإسرائيلي قبل قرابة العام، وهي صواريخ مساحية وليست نقطية، أي تصيب مساحات واسعة، لا نقاطا محدَّدة. وكان مدى صواريخ حزب الله في هجماته ضد الأهداف الإسرائيلية وصل في الأيام الأخيرة إلى مدن صفد وعكا وحيفا التي تبعد عن الحدود اللبنانية بمسافات تتراوح بين 20 و60 كم.
وعلى الصعيد الاستراتيجي، فإنَّ موضوع هجمات حزب الله على حيفا يقع أيضاً على هذا المستوى. وفي الوقت الذي كثف فيه العدو الصهيوني عدوانه مستهدفاً قواعد ومنصات إطلاق الصواريخ في جنوب لبنان – حيث تم تسجيل تفجيرات ضخمة – تمكن حزب الله من إطلاق صواريخ أكثر تطوراً من صواريخ الكاتيوشا التي يستخدمها عادة. ويصل مدى صواريخ فادي 1 و2 إلى حوالي مائة كيلومتر. كما يمتلك حزب الله صواريخ أكثر تطوراً، يمكنه إطلاقها من الأنفاق والتي كشف عن وجودها في شريط فيديو حديث.
وفي تحولٍ نوعيٍّ في المواجهة العسكرية بين حزب الله وجيش الاحتلال الإسرائيلي، أعلن حزب الله في بيان عبر “تليغرام”، إنَّه “أطلق عند الساعة السادسة والنصف من صباح الأربعاء 25 أيلول/سبتمبر 2024، صاروخاً باليستياً من نوع قادر 1 للمرَّة الأولى، مستهدفاً مقر قيادة الموساد في ضواحي تل أبيب، المعروف باسم 8200، وهو المقر المسؤول عن اغتيال القادة وعن تفجير أجهزة الاتصال اللاسلكي في أنحاء لبنان قبل أيام. ولفت الحزب إلى أنَّ هذا الهجوم يأتي “دعماً لشعبنا الفلسطيني الصامد في قطاع غزة وإسناداً لمقاومته الباسلة والشريفة، ودفاعاً عن لبنان وشعبه”.
وبينما لم يؤكد أو ينفي صحة ما أعلنه حزب الله، فإنَّ جيش الاحتلال الإسرائيلي قال، في وقت سابقٍ من صباح الأربعاء إنَّ منطقة “تل أبيب” الكبرى تعرضت لقصفٍ صاروخيٍّ من لبنان للمرَّة الأولى منذ اندلاع المواجهات مع “حزب الله” في 8 أكتوبر/ تشرين الأول 2023.وأفادت إذاعة الجيش بأنَّ “قذيفة صاروخية واحدة تم إطلاقها من لبنان على منطقتي غوش دان وشارون وسط إسرائيل، وأنه تم اعتراضها”.
بعد عمليات الاغتيال لكبار قادة حزب الله وقادة الساحات والمسؤولين عن الأقسام في الحزب، وفي ظل العدوان الإسرائيلي المستمر على لبنان، تحول الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله، إلى رئيس هيئة الأركان الفعلي للحزب، وليس فقط الزعيم الذي يوجه ويرسم الاستراتيجية، بل هو قائد جبهة الحرب ضد “إسرائيل” فعلياً. هذه المهمة ليست غريبة عليه. فقبل تعيينه كرئيس لحزب الله كان قائد ساحة الجنوب في لبنان، وعمل بشكل مباشر على إدارة القوات العسكرية في المقاومة. هو يعرف جيدّاً منظومة القوات، وبشكل شخصي أيضاً يعرف بعض قادة الألوية. السيد حسن نصر الله يعرف قراءة الخرائط وتقدير قوة النيران التي توجد لديه، وحتى الآن يوجد لديه مخزون من القادة بدرجات عالية الذين يمكنهم مواصلة إدارة عمليات المقاومة أمام العدو الإسرائيلي، وهذا ما يفعلونه في الواقع. بهذا الشكل يمكن للسيد حسن نصر الله مواصلة إدارة الحرب لفترة طويلة.
أهداف العدوان الصهيوني على حزب الله ولبنان
تكمن أهداف العدوان الصهيوني منذ ارتكاب مجزرتي أجهزة الاتصالات اللاسلكية (البيجر وغيرها)، وقصف سلاح الجو الإسرائيلي الحصن الاجتماعي للمقاومة اللبنانية في الجنوب والبقاع، تصفية حزب الله تنظيمياً وجسدياً وعسكرياً، وترهيب الشعب اللبناني بأسره، حتى تبقى فلسطين، ومنها غزّة، وحدها في مواجهة حرب إبادة صهيونية – أمريكية.
في الأسبوع الماضي انقلبت الدائرة، وقام جيش الاحتلال الصهيوني بشنِّ حربٍ واسعةٍ ضدَّ حزب الله، بعد سنة تقريباً على استنزاف بدون حسم وتبادل يومي لإطلاق النار وإخلاء المستوطنات في الجليل الأعلى شمال فلسطين. وعمل وزير الحرب الصهيوني غالانت بمفاجأة حزب الله بضربة نيران استباقية تفقده التوازن وتحطم مرَّة وإلى الأبد صورته كجيش لا يمكن هزيمته، تحقق بسرعة مفاجئة عندما تم تفجير أجهزة البيجر وأجهزة الاتصال وتصفية كبار قادة العدو التنفيذيين. التوق لتصفية حزب الله وحتى إضعاف بنيته العسكرية لا يعتبر نزوة خاصة لوزير الحرب الإسرائيلي، بل إنَّ كل جيش الاحتلال الإسرائيلي بني واستعد بالضبط لهذه المواجهة منذ 18 عاماً، حين قام السيد حسن نصر الله بإهانة “إسرائيل” في حرب لبنان الثانية، تموز 2006. “جيش الهايتيك”، كما عرفه العميد احتياط غاي حزوت، تم تطويره بالضبط للمهمة في الشمال. وإلى هناك تم توجيه الموارد الاستخبارية وسلاح الجو، التي تدربت خلال عشر سنوات على “المعركة بين حربين”. خلافا لغزَّة التي تفاجأ فيها الجيش الإسرائيلي من قبل حماس.
في منظور كبار القادة الصهاينة السياسيين والعسكريين، الذين يقودون الحرب العدوانية الوحشية ضد لبنان منذ الأسبوع الماضي، لم يسجل تقدم في تحقيق أي من الهدفين: الفصل بين ساحة لبنان وساحة غزَّة وإعادة المستوطنين الصهاينة إلى بيوتهم في شمال فلسطين المحتلة. فحزب الله لا يوقف النار، وإجبار حزب الله على وقف النار دون صلة بما يحدث في المواجهة مع حماس. إضافة إلى ذلك تريد “إسرائيل” إبعاد المقاومين من حزب الله الى شمال نهر الليطاني، من خلال تطبيق القرار الأممي 1701 الصادر في شهر أغسطس 2006، والمسِّ بشكل كبير بالقدرات العسكرية التي راكمها حزب الله لمدة عشرين سنة وعلى رأسها قدرات إطلاق الصواريخ.
لأجل دفع حزب الله بالانسحاب إلى شمال الليطاني ووقف النار على المستوطنات والمقرات العسكرية والاستخباراتية الإسرائيلية في شمال فلسطين، يعمل جيش الاحتلال الإسرائيلي على اجتياح جنوب لبنان عسكرياً برِّياً، واحتلال شريط حدودي هناك يضم أرضاً واسعةً. فإقامة منطقة عازلة داخل لبنان، ربما كان هذا ممكناً عقب الاجتياح الصهيوني للبنان عام 1982، حين كانت المنطقة العازلة تُدَارُ من قبل جيش لبنان الجنوبي (قوات لحد الموالية لإسرائيل)، لكنَّ الوضع يختلف عما كان سابقاً في حرب لبنان، وربما يحتاج جيش الاحتلال الإسرائيلي إلى ثماني فرق عسكرية في جنوبي لبنان لكي يقيم منطقة عازلة.
لكنَّ الاجتياح البرَي سيكون مكلفاً جداً لـ “إسرائيل”، لأنَّ حزب الله سيستخدم تكتيكات حرب العصابات، لإخراج جيش الاحتلال الإسرائيلي، وسيواصل إطلاق الصواريخ باتجاه شمال ووسط فلسطين المحتلة. حرب كهذه من شأنها أيضاً أن تورط “إسرائيل” في وحل لبناني لأشهر طويلة، دون الوصول إلى حلٍّ.
الحرب في لبنان ليست نزهة بالنسبة لجيش الاحتلال الإسرائيلي، إذْ تعاني “إسرائيل” من قلة في الدبابات التي دُمِّرَ عددٌ كبيرٌ منها في حرب غزَّة، وكذا نقص في الذخيرة والجنود، وهناك تقارير عن نقص في قطع الغيار والتي لن تُعَوِضَ بشكلٍ سريعٍ مع توسع الحرب إلى لبنان. إضافة لكل ذلك، فإنَّ الحرب في لبنان ستكلِّفُ “إسرائيل” ما بين (20 – 100 مليار شيكل)، أي (ما بين 5 إلى 25 مليار دولار أمريكي). هذا متعلق فقط بمدة الحرب وإذا كان دخول برِّيٌ أم لا. الحرب مع حماس كلفت حتى الآن نحو 110 مليارات شيكل، (أي حوالي 30 مليار دولار أمريكي). وهكذا، فإِنَّ الحرب في جبهة الشمال بسهولة يمكن أن تضاعف تكلفة الحرب.
يعتقد حزب الله أنَّ الحلَّ الوحيد لتفادي الحرب الإقليمية الشاملة، يتطلب من “إسرائيل” التوصل مع حركة حماس إلى اتفاقٍ لوقف الحرب في غزَّة، ذلك هو الشرط الرئيس الذي يضعه الحزب لوقف النار مع الكيان الصهيوني في الجبهة الشمالية. ولا يبدو في هذه اللحظة أنَّه يوجد أمام “إسرائيل” خيار آخر. أما الانسحاب وراء نهر الليطاني فهو مرتبط بإيجاد تسوية إقليمية لكل أزمات المنطقة.
استراتيجية حزب الله حرب استنزاف طويلة ضد العدو الإسرائيلي
يتمتع حزب الله الآن بكل سمات شبه الدولة، مع خدمات الصحة والتعليم، ووسائل الإعلام، والبنوك، وبطبيعة الحال، ترسانة مستقلة من الأسلحة الثقيلة. وعلى الرغم من تلقي حزب الله ضربة قوية خلال العدوان الإسرائيلي الأخير، فإِنَّهُ لا يزالُ مُصَمِّماً على مقاومة العدو الإسرائيلي حتى بعد أن أصيب الالاف من نشطائه وصُفِّيَّ رَئِيسَا أركانه الأخيرين إلى جانب قيادة قوة الرضوان.. ومن هنا فإِنَّ النار نحو الكيان الصهيوني لن تتوقف بل العكس ستشتدُ. ومع ذلك، لا يريد حزب الله حرباً شاملةً الان، حرباً تهز كل لبنان بما في ذلك بيروت، مما يؤدي إلى خسائر فادحة في صفوف المدنيين وأضرار جانبية، ويعرض الدعم الضعيف بالفعل لحزب الله في المجتمع اللبناني للخطر، حرباً تدفع إيران لأن تفقد الأداة الأهم لها في ردع “إسرائيل” حيال إمكانية أن تهاجم هذه منشآتها النووية.
استراتيجية حزب الله في هذه المرحلة تتركز في خوض حربِ استنزافٍ طويلة الأمد مع “إسرائيل”، والإبقاء على زخم الاستنزاف الموجود في يديه، وهو مخزون كبير كاف من الصواريخ، والمقذوفات الصاروخية والمُسيرات – والذي يوجد بالفعل لديه، وببساطة مواصلة إطلاقها نحو عمق كامل فلسطين المحتلة.. فترسانة حزب الله من الصواريخ والمسيرات ستجهد قدرات “إسرائيل”، وبخاصة عندما يتحول الاستهداف من المناطق العسكرية إلى المناطق المدنية. وتشير بعض التقديرات الغربية إلى أنَّ ترسانة حزب الله من الصواريخ والقذائف والمسيرات تبلغ 150,000 على الأقل، أي عشرة أضعاف الذخائر التي كانت بحوزته خلال حرب عام 2006، وتشمل الآن ذخائر موجهة بدقة يمكن أن تُهَدِّدَ المواقع الاستراتيجية داخل “إسرائيل”. ويمتلك حزب الله شبكة كاملة من الأنفاق تحت الأرض، والتي وفقاً لتقرير صادر عن مركز ألما للأبحاث، هي أكثر تطوراً من شبكة أنفاق حماس في غزَّة.
أما مخزون “إسرائيل” من الصواريخ المعترضة للقبة الحديدية ومقلاع داوود، فقد نفد. ويفترض أنَّ المساعدات العسكرية الأمريكية لن تكون كافية أو قد تصل في الوقت المناسب لدعم الدفاعات الجوية الإسرائيلية المتوترة، ما سيجبر الجيش الإسرائيلي على الدفاع عن المناطق ذات الأولوية فقط.
ترى “إسرائيل” أنَّ استراتيجية الاستنزاف التي يطبقها محور المقاومة عبر جبهات الإسناد تعمل بكثافة لمصلحة إيران منذ نحو سنة: خوض حرب استنزاف طويلة ومريرة في عدة جبهات تؤدي بدولة “إسرائيل” إلى انهيار اقتصادي، اجتماعي وأمني فيما عملياً لا يمكن تجاهل حقيقة أنَّ للإيرانيين يوجد صحيح حتى اليوم نجاح لا بأس به في تنفيذ خطتهم بعيدة المدى التي تتواصل منذ سنة ونهايتها لا تبدو في الأفق.
هذه الخطة وصلت في الأسبوعين الأخيرين إلى مرحلتها الحرجة والحاسمة، وبعد أن أصبح شمال فلسطين المحتلة بعد 11 شهراً من الحرب “أرضاً سائبة” مهجورة من المستوطنين الصهاينة وعرضة لقصف يومي من الصواريخ والمُسيرات خلَّفتْ وراءها دماراً، خراباً وآلاف من الدونمات المحروقة، وهو ما دفع بالقيادة الصهيونية العسكرية والسياسية والاستخباراتية العليا إلى شنَ الحرب في الجبهة الشمالية بهدف إضعاف حزب الله، وتثبيت عودة المستوطنين إلى بيوتهم بأحد أهداف الحرب.
خاتمة
يعتقد المحللون الغربيون والإسرائيليون أنَّ تجربة حرب 2006، وواقع أنَّ الحرب اليوم ستكون أكثر تدميراً، من حيث الخسائر في الأرواح والأضرار الجانبية وخطر التوسع الإقليمي تقدم أسباباً إضافية لـ “إسرائيل” للذهاب إلى حرب إقليمية شاملة، هي ستكون كارثية ومكلفة جدّاً لجميع الأطراف.
على الرغم من أنَّ الإدارة الأمريكية تمارس دائماً النفاق والكذب، إِذْ ذهبت في دعم “إسرائيل” خلال حرب الإبادة الجماعية على غزَّة إلى حدود القفز فوق القوانين في دعهما وتسليحها، وباركت إقدام نتنياهو على تصفية قيادات حزب الله في لبنان لأنَّهم شاركوا حين كانوا في منظمة الجهاد الإسلامي (قبل ولادة حزب الله)، في عملية تفجير ضد السفارة الأمريكية قوات المارينز في بيروت يوم 23 أكتوبر 1983، التي قتل فيها 241 جندياً أمريكياً من المارينز، و58 مظلياً فرنسياً، ونأتْ بنفسها عن صدّ “إسرائيل” إزاء عدوانها الوحشي على لبنان، وازداد تراخيها مع اقتراب الاستحقاق الانتخابي، خشية اندفاع نتنياهو باتجاه إشعال جبهات أخرى تُهَدِّدُ بإرباك الإدارة، والانعكاس سلباً على مرشحتها كامالا هاريس، فإِنَّها تسعى الآن إلى طرح مبادرة يجري العمل عليها بعدما ثبت فشل الحزمة القاتلة التي أعدّها الأمريكي ونفَذَّ بعضها كيان الاحـتـلال الإسرائيلي في إسقاط حــزب الله بالضربة القاضية. وصار استمرار حرب الاستنزاف في غير صالح الاحــتلال، خصوصاً إذا اتخذتْ الحر ب شكل المواجهة البرِّية. والنقطة المحورية في المبادرة هو قبول شرط حــزب الله بربط وقف النار بين لبنان وغــزة.
ويدور النقاش حول صيغة قرار يصدر عن مجلس الأمن الدولي برضا الأطراف يدعو لوقف النار على جبهات القتال في غــزَّة ولبنان، وفقاً لأحكام القرارين 1701 بالنسبة للبنان و2735 بالنسبة لغــزَّة على أن يقوم الأمين العام للأمم المتحدة ببلورة تفاصيل تنفيذية للقرارين خلال مهلة أقصاها أربعة أسابيع.. وهذا هو السبب أيضا، وراء استقبال المفاوضين الأمريكيين، بمن فيهم مبعوث البيت الأبيض عاموس هوكشتاين، على مستوى عال في كل من “إسرائيل” ولبنان وهم يحاولون منع توسع الأعمال العدائية.