أول الكلام

يا أشرار العالم اسمعوا جيداً: “هنا الضاحية”

بقلم غسان عبد الله

من غرفةٍ مشتركةٍ بينك وبين الجميع إلى بابٍ عند عتباته طوابير الانتظار للـ ((إعاشة والفرش والأغطية)).. ومن قريةٍ إلى غابة، ومن غابةٍ إلى تخوم الضاحية ومن ثم العودة إلى موسم الهجرةِ اللامنتهي.. ولكن أبداً لا وصول.

تَشتَد عليك حُمى الحرب والصواريخُ والغارات فلا ينقِذُكَ تفاؤلٌ، ولا يَرُدُ عزيمَتَكَ إليك أمل.. ولا موجزُ الأخبار وملحقاتُهُ تفشُّ خلقك.. الكلُّ عقد عزيمته على افتراسك.. ومن الداخل أنيابٌ وطنيةٌ بامتياز.. والخسارةُ كانت أكبر بكثير مما كنت تظن.. كانت تقديراتُك خاطئةً منذ البداية…عزاؤك الوحيد أنك ((لست أول من رأى السراب فخاله ماءً…)).

فجأةً تدرك أن المنفى آخذٌ في الاتساع، وأنت قاب قوسين أو أدنى من ضاحية الحب والأنس وليالي الأمان.. وأنت – أيضاً – لا حول لك ولا قوة. تخلدُ إلى النوم في غرفة ضيقة،.. تتصبب عرقاً والطقسُ باردٌ، وتزداد نبضات قلبك، ثم تتحول إلى طرقات تنذرك بابتعاد الفجر، وتشتد عليك حُمى الغربة والاغتراب.

تعودُ إلى ضاحيتِكَ.. عند عتبات الصبح.. لتتفقّد الدمار.. ترتادُ أكثر من مكان في كل حيٍّ من أحياء الحارة وبرج البراجنة التي تغيرت كلُّ ملامحها.. تكاد لا تستطيع حتى سيراً على الأقدام لتصل إلى المبنى الذي في الحي.. بلهفةٍ تحيّي جيرانَكَ الشباب على الدراجات النارية الذين يجوبون شوارع البرج لتفقُّد منازلهم التي سُوّيت بالأرض.. وكأنكَ عائدٌ من الغربة.. “كنا إذا خرجنا من الضاحيةِ بأي اتجاه نحلفُ بغربتنا“.. يأتي ليلٌ آخرٌ وأنت لم تنمْ.. تُدرِكُ عجْزَكَ عن النوم فتخرج… تتمشى داخل بوابة مدخل المبنى الذي يعجُّ بأمثالك من المقهورين قسرياً.. يُذَكّرُك الرّدْمُ الذي تحت المبنى وقرب المكب (مكب النفايات)، كوحوش الأساطير في الميثولوجيا الاسكندنافية، بحجم أزمتك الراكدة. تنظر إلى الخارج فيدعوك غبارُ المباني المقصوفة إلى العودةِ إلى حيثُ أتيت، ولكن إلى أين؟ هذه طائرةُ الـ “أم ك” ما انفك هديرها المزعج يؤرِّقُ جفن الأطفال والرجال والنساء.. تهيّئ الاشتعال وهذا بحرٌ من أنفاسِ الناسِ يمتد عبر الأفق، وأنت مُقتَلع.

يبزُغ القمرُ من خلف سُحُب الدخانِ الكثيفة، فتعود بك الذاكرة إلى تلك الليالي المُقمرة في البرج وفي الحارة والغبيري.. يُصبح القمرُ ضاحيةً.. وعندما يأخذنا السهر في ليالي النزوح ونحن نحتسي أكواب الشاي نشنِّفُ آذاننا لنسمع صوت المذيع في الخبر العاجل..: “تعرّضت منطقة حارة حريك لغارةٍ صهيونية.. وثمة حديثٌ عن عدد كبير من الشهداء والجرحى.. وحرائق تحاول فرق الإطفاء أن تدخل لمعالجتها…. لكن هدير المسيرات يمنعها”.. فكل فرق الدفاع المدني والاسعاف أهدافٌ مشروعةٌ للصهاينة.

تَصرخ: النجدة !!، ولا يسمعك أحد… لا يشعر بوجودك أحد، وتتذكر المثل الشعبي: “لا تندهي ما في حدا”… حربٌ على المقاومةِ.. تضعُ يدك على قلبك.. ترفعُ رأسك.. وتصرخُ.. “يا أغبياء.. يا حمقى… هنا الضاحية“.

هنا الضاحية، في هذه البقعة المباركة من أرض الشهادةِ والوفاء والتضحيةِ والإباء، تَدُبُ في شرايينك حرارةٌ تهبُّ من جحيمٍ دائم الغليان، يَستعر كلما تذكرت أحبّاءَكَ، أو خطر ببالك أصدقاء ورفاق غابوا في ظلام دامس، هربوا من جحيم القذائف نحو الجبال وآخرون غيَّبهم الموت، وآخرون ما زالوا في غياهب السجون والمعتقلات العربية، وغيرهم انتفوا – طوعاَ أو قسراً – في أصقاع الدنيا، بعد أن ضاقت بهم أرض العرب بما رحبت.

وتشعر بأن هذه الضاحية المقصوفة أوصالُها أكثر دفئاً وحناناً، وأكثر إنسانية من أولئك الذين خُيِّل اليك أنك تشاركهم اللغة، والثقافة، والدين، والتاريخ، والنضال، والمسير، والمصير المشترك. تنظر إلى أسراب الطيور المهاجرة، وتبحث عن نفسك فلا تجدها… تحترق أصابعك إذا مَسَّتها، تقتربُ من النار ولا تدانيها… وتدرك أنها بعيدة عنك بُعدك عن الله!!.

تَشحذُ ذاكرتك، وتفتش فيها، فلا تجد إلا صورةَ شاعرٍ، وبيتَ غزل، وقصيدةً حُرَّة صمدت. تعيد النظر، وحساباتك، فتقول: ربما الشعر يبقى العزاء الوحيد. ولكن أي شعر؟!.. إنه ما كان موسيقاه ليس سوى خفقات تدقُ في قلبك، وقشعريرة تسري في بدنك، وأنه ما كان مضمونه ليس سوى الروح في تململها وانتفاضتها، وأن شكله ليس سوى دلالة تخفي ثورة في الثورة على تركيب اللغة، وأن الموسيقى، والمضمون، والشكل، مجتمعة ليست سوى انقلاب جذري يُلغي المأنوس ويُحَطِّم المألوف ويتمرد على الأنظمة المتوارثة التي ما عادت تتسع لطموح الروح وجنوح الأمل.

تجنحُ نحو شباب المقاومةِ تراهم بعين القلب.. وترفلُ روحُك بالدعاء.. وفجأةً تتالى الأخبار بأن الشباب الذين هدّهم خبر سيّدهم الذي ارتقى إلى الملكوت الأعلى ليلتحق بأجداده من محمد وآل بيت محمد استعادوا زمام الأمر.. صلياتٌ صاروخية على حيفا.. مواجهات بطوليةٌ عند الحدود وقتلى من الصهاينة برُتبٍ سكريةٍ وطوافات للعدو تحاول لملمة أشلائهم.. تسترجع أيام عدوان تموز 2006 حيثُ صوت الملحق في تلفزيون المنار.. يتلوه مباشرةً صوتٌ ربَّانيُّ النبرةِ حسينيُّ العزم “البارجة البحرية التي في عرض البحر.. أنظروا إليها تحترق”.. يطالُ قلبَكَ الاشتعالُ المبين.. تسجُدُ لله.. وترفع رأسك صوب السماء.. ترى طائرة الاستطلاع.. ترفع إصبعكَ متوعّداً.. يا أوغاد.. إنها المقاومة.. يا كل العالم اشهد.. سيِّدُ النصر رضوان الله عليه لا يزال حيّاً في قلوب أبنائه المقاومين وفي عزمهم.. يبشّرنا بالنصرِ المبين “حتماً”.. تشعر بأن الناس الذين كانوا نازحين أطفالاً وشيوخاً ونساءً باتوا خلفك.. تعتريكَ نوبةُ الاعتزازِ الحسيني المنشأ.. تصرخُ ملء روحك.. يا أشرار العالم.. اسمعوا جيداً.. ” هنا الضاحية”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *