أسى الغياب… (بُعيدَ الرجوع إلى الضاحية)
بقلم غسان عبد الله
الوقتُ ليلٌ والمكانُ ملبَّدٌ بخريفِهِ.. وعلى امتدادِ الصّمتِ صوتُ الرّاحلينْ..
دمعي وغيبتُهُ البعيدةُ عن دمي، وإلى السماءِ يقوم حزنٌ في اليدينْ..
الصمتُ كنَّسَ ما تبقّى من خطاكَ على الصدى،
ويهزُّ أطرافَ السّكونِ بكفِّهِ لينامَ أو يرقى المواجعَ
ربما سيهبُّ قربَ أكفِّ من نزفوا انتظاركَ من شبابيك الغرقْ..
لم يعرفوا أنَّ الجسور تعلِّقُ الشَّفتينِ كي يمضي الكلامُ على هوَاهُ،
وربَّما يمضي الغيابُ على هواهُ،
رحلتَ متّكئاً على عكازِ عزمِكَ لا سفائنَ تحملُ الآن البحارَ مسافةً زرقاءَ عنكَ،
ولن ترى الشطآنَ تَصْلِبُ فوق ثورةِ صخرِها تعبَ الغَسَقْ..
غادرتَ!!.. لم تترك لمنديل الترابِ ولو رفيفاً واحداً
ليعانقَ الشَّجوَ الحزينَ بناظريكَ، ولم تنادمْ بالقصائدِ جرحَك الغافي على جفنِ الورقْ..
غادرتَ.. من سيعانقُ العشّاقَ إن أبكاهُم صيفٌ طاعنٌ بالنارِ؟
نامَ الأرجوانُ.. وعلَّقَ الأحلامَ من دمعاتها الثّكلى على كفِّ الأفقْ..
غادرتَ لم تُبقِ الحياةُ لساعديكَ سوى الضبابِ.. سوى العتابِ..
على انتظاراتٍ تسيلُ على الطرقْ..
ذات انتظارٍ، عاتَبَتْكَ رؤايَ فوق ذرا خريفي،
من يعانقُ يا ندايَ ضفافَ ذاكرتي إذا علَّمَتْني الموتَ الطويلَ وحيداً؟
أَمْسِكْ يدي، عاد السَّرابُ يلوح في رؤيا غدي،
عادت ثمالاتُ النهايةِ تعتلي بردَ الضلوعِ كما سماءٍ لا تغطّينا بزرقتِها،
وعادَ الصمتُ يأسرني فأنزفُ بين حبِّكَ والصقيعْ..
حاولتُ أن أنساكَ في فوضى الدروبِ
فهدهَدَتْ أقمارُ وجهكَ غربةَ الخطواتِ.. دَلَّتْنِي على صدرِ الربيعْ..
حاولتُ غرسكَ في شرايينِ المدى، إلغاءَ لونِكَ في تلاويحِ النهايةِ،
من غيابات السّفر، لكنَّه حزني المضمَّخُ في ثوانيكَ البهيةِ بالدموع..
أرخى السّتار على وجودي، واستباحَ صدى تعاويذي نداءً راحلاً يأبى الرّجوعْ..
ثَكِلٌ أنا، ثكلٌ بفقدك في غَياباتِ الكلامْ
أغفو لأحلمَ.. لا أراكَ سوى ظلامْ..
لم يبقَ بعد رحيل معناك النديِّ سوى خناجرَ في دمي تهوى المقامْ..
ثكلٌ بفقدكَ، من يعيدُ ليقظتي ما أستعيدُ به السَّكينةَ والسلامْ؟
صهواتُ دمعيَ أيقظتْ وهمَ الحكاياتِ القديمةِ والعقيمةِ،
عَذَّبتْ خدَّ الوسادةِ بانهمار الحزن فوق حريرها،
لم يبقَ بعد رحيلكَ المحزونِ ما يرفو انهزامي فاستحلتُ إلى قتامْ.
خذني إلى أرضٍ تفجِّرُ دهشتي الأولى وتجمعُ في يديها قوسَ ألواني
لأذكرَ من ذكراكَ حلوَها ومرارَها وأوسِّدَ الجسَدَ المدمَّى بالحنينِ إلى يديكْ..
بعضَ الندى، أحتاجُ في عزِّ الرَّدى،
لأُحطِّمَ الأصنامَ في درْبي وأعدو في الطّريقِ لمقلتيكْ..
وأرتِّبَ الأرضَ التي إن ما تدورُ الآن دورَتَها ستأخذني إليكْ..
ما زلتُ أنتظرُ منذُ السفرِ المهيب معكَ..
ما زلتُ أنتظرُ تلويحةَ يديكْ..
ما زلتُ أذكُرُ ساعةَ قلتَ: “يا شاعر النوافذِ والأشرعةِ”..
أن الشعرَ على شفاهكَ ذابَ وما رفَّت في محياهُ مقلتيكْ..
ما زلتُ أذكُرُ ضحكةَ وجهكَ حين القصائدُ خرَجتْ خجلى..
وعلى عجلٍ واريتُها خلف الغمامِ فعادتْ إليكْ..
ما كنتُ أدري أنَّ من سيكتُبُ الشعرَ كرمى لكَ سيكتُبُهُ لحظةَ الفراقِ شوقاً إليكْ..
هيا.. لوِّحْ باليدِ التي لامَستْ رأسي الموجوعَ كلمسةِ وليّ..
لوِّحْ بها.. فأنا.. ما زلتُ ها هنا.. ما زلتُ أنتظرُ استعادةَ راحتيكْ.