التغييب الممنهج للقانون والأصول المؤسساتية في بلداننا العربية
بقلم: نبيل علي صالح / كاتب وباحث سوري
واستمرت العقلية السلوكية محكومة بقوانين خاصة تقليدية تاريخية بعيدة عن الإطارات والنظم القانونية الحديثة التي تم إقرارها وبناء دولهم (ظاهرياً) بالاستناد عليها.. ولم تتمكن تلك القوانين من النفاذ التطبيقي في العلاقات والممارسات، ولم تغير كثيراً في طبيعة النظرة التقليدية النمطية القائمة التي كانت تتحكم بتصورات وتقييمات النخب الثقافية والسياسية العربية والدولية للمواطن العربي، ومفادها أن العرب محكومون بتاريخهم الذين حولهم في عالم اليوم إلى مجرد ظاهرة صوتية لا فعل لهم، وأنهم ليسوا إلا مجموعة شعوب مستكينة خانعة وقانعة وخاضعة لطاعة السلطان الحاكم، ولهذا فهي عصية على التغيير الحداثي أو الإصلاح القانوني..
بالنظر إلى ذلك كله نتساءل فكرياً: هل يمكن أن نتحدث عن إمكانية وجود علاقات عربية داخلية سوية ومتوازنة يمكن أن تقوم بين أفراد المجتمعات العربية وبين سلطاتهم ونخبهم الحاكمة مرتكزة على حياة سياسية وعملية قانونية ودستورية صحيحة متوازنة، وممارسات منظمة فاعلة يمكن أن تسمح بحلّ مجمل الاستعصاءات والنزاعات التي تواجهها عن طريق الحوار السلمي والتسويات المتبادلة القائمة على مساهمات مشتركة بين مختلف الأفرقاء؟!!..
بمعنى آخر: هل يمكنُ أنْ يشيد العرب حالياً، أو في المستقبل القريب، (من خلال أطقم الحكم الجدد من الإسلاميين الذين همشوا في السابق) حياة قانونية مدنية حديثة صحيحة بعيدة عن أحكام القبيلة والطغيان الشخصي، بحيث تتقوم على فكرة التعددية والتنوع و”الديمقراطية” الحقيقية وليس الشكلية، والتداول السلمي للسلطة، وبناء مدنية المجتمع، وتعميم حريات الناس العامة والخاصة، وقبول مشاركة كافة الجماعات السياسية ومختلف التنظيمات والمكونات المجتمعية في العملية السياسية، بما يضمن عدم وصول أو قفز أي تيار أو حزب أو فرد إلى الحكم ليمارس من جديد سلطة ديكتاتورية قمعية، ويبني مؤسسات فساد وإفساد كالتي كانت موجودة في تلك الدول؟!!.
أي: هل يمكن أن يتأسس مناخ سياسي وحياة سياسية سلمية تداولية لا احتكار فيها للسلطة من قبل شخص أو حزب أو تيار ديني أم غير ديني؟ وهل يمكن للثقافة العربية التقليدية القائمة على مرجعية التقاليد القبلية وجوهرانية النصوص القائمة على الشخصنة التاريخية وحاكمية العادات والأعراف، أن تسمح – من خلال ممثليها ورموزها ونخبها وتياراتها الكبيرة – بنشوء مثل تلك الحياة السياسية المدنية القائمة على مفردتي “المدنية” و”الديمقراطية” كشرطين أساسين لنهضة المجتمعات العربية وحداثتها وانطلاقتها الفاعلة؟!!.
في الواقع، إنّ ما لاحظناه في مجتمعاتنا من حضور كثيف وشبه دائم لثقافة الماضي في الحاضر الراهن، على كل المستويات الذاتية (الفردية والأسرية) والموضوعية (المجتمعية والمؤسساتية)، ومن وجود سطوة غير طبيعية لرجالات التدين القبلي، ولجوء الناس في مختلف الظروف – خصوصاً الاستثنائية منها – إلى ذاتية التكوينات والتضامنات القديمة، وغياب أو تغييب لثقافة الأصول القانونية المؤسساتية المدنية، يجعلنا نتحفظ كثيراً على تفاؤلنا السابق، ونبدي الكثير من الشك في أن تبدأ بلداننا بالسير على طريق الديمقراطية والحكم الصالح القائم على الحرية وحكم القانون والمؤسسات بعيداً عن مناخ التعصب والعصبيات التاريخية وعقائد أصحابها وممارساتهم القائمة على قواعد الغلبة والقهر والعنف الدائم…!!.
والذي نلاحظه هنا أنه عند أي مفصل تاريخي أو منعطف حيوي تمر به تلك المجتمعات، نجد أن كثيراً من الناس عندنا يُقْبِلونَ (بحكم ثقافة الولاء الأعمى والطاعة والخضوع الاستلابي للأصول التقليدية) على أخذ آراء (وتوجيهات وقناعات ومعتقدات) مواقع ورموز ونخب الأعراف والتقاليد بعين الاعتبار والتقدير الكبيرين، خصوصاً على مستوى الالتزام القانوني العملي (تحليلاً وتحريماً)، ويعيشون ويتحركون – على مستوى ترتيب وتنظيم علاقاتهم في مختلف مجالات الانتظام الاجتماعي – بالاستناد إلى مفاهيم وضوابط متنوعة تتقوم فقط بمفهوم وحيد هو القوة الممتدة من الأسرة باعتبارها الحاضن الأولي له، إلى مختلف مؤسسات وهياكل بنى الدولة المتعددة.. فمثلاً الانطباع السائد في مجتمعاتنا العربية – المتغلغل في لا وعيها – عن فكرة “المدنية وحتى العلمنة”، مأخوذ كلياً من رموز السياسة ورموز الدين فقط، (أو من بعض تطبيقاتها السلبية من قبل أصحابها أنفسهم كما لاحظناها في تجليات العلمنة المستبدة الإقصائية الإلغائية في كثير من الدول).. وهو بكل المقاييس والمعاني، انطباع سيء وخاطئ للغاية يتمحور حول أن مفهوم المدنية “غزو ثقافي مدمر، وهو ملازم للإلحاد والفوضى، ومكرس للفحش والإفساد والغواية والانحراف الأخلاقي والسلوكي!!”.. وأن “العلمنة أو المدنية تفسد عقول وأخلاق الشباب وتحرفهم عن جادة الصواب، بحيث تبدو –كما يقدمها معظم رموز التيار الإسلامي المتطرف منهم والمعتدل- وكأنها ملازمة للشيطان!!”.. أو “أن المدنية ليست سوى زندقة وكفر بواح”..
طبعاً لا بد من الانتباه هنا إلى أن إشارتنا إلى تلك المعيقات (التي تقف حائلاً أمام نمو وتطور وبناء الهيكل المدني الديمقراطي الحقيقي القادر على خلق مناخ سياسي ملائم لنهضة مجتمعاتنا العربية الإسلامية على طريق النمو والتعافي الاقتصادي والاجتماعي بعد عقود طويلة من هيمنة التخلف والاستبداد والفساد وسلوكية النهب) لا تستهدف الدين ذاته باعتباره قيمة روحية سامية تتعالى على اللحظوي والسياسوي والتحزبات الضيقة،ونحن نعرف أن كل الأنظمة، وفي طليعتها الأنظمة في تونس وسورية ومصر قالت للغرب الأوروبي والأميركي: لا شيء من بعدنا غير الفوضى أو الإسلاميين! والإسلام كدين إنساني منفتح على الحياة والعصر ليس هو المقصود والمعني في نقدنا السابق، ولا نحمله المسؤولية عن وجود ثقافة دينية متعصبة ترفضُ الآخر، وتكرّسُ مناخ الانغلاق على الأفكار والعقائد الأصولية القديمة، كما ولا نحمله مسؤولية هذه الحالة من الفراغ القانوني وشيوع ثقافة الاستهتار بالأصول القانونية الأخلاقية التي تسود في غالبية مجتمعاتنا العربية، فالأديان كلها –كما يجب أن تكون تفسيراً وتأويلاً- تدعو بصورة عامة إلى قيم التسامح والمحبة والاعتدال والتواصل والإخاء الإنساني، وتكريس قيم السلام والتعارف وكل الأخلاقيات العملية التي من شأنها أن ترسخ الوجود الإنساني الفاعل المحب للحياة، وتعزز أفكار وثقافة الحوار والانفتاح بين الناس جميعاً على اختلاف مللهم وأديانهم ومذاهبهم وانتماءاتهم.. وإنما المقصود مما تقدم من تحليل نقدي هو كل تلك التراكمات والشروحات والتفسيرات والتأويلات التي يتغطى بها كثير من رجالات الدين، حيث تم تقديمها للناس بصفة أنها نصوص دينية مقدسة معبرة عن إرادة الدين ذاته، وهي لم تكن كذلك، بل صاغتها عقول بشرية تخطأ وتصيب، وكانت بمجملهم مجرد شروحات على نصوص تناسب تلك المراحل التاريخية والعصور الزمنية القديمة التي عاش فيها رجال وعلماء الدين..
كما أن النظم السياسية التي تعاقبت على منطقتنا العربية تتحمل بتسلطها وعنجهيتها واستبدادها وسوء أفعالها وممارساتها للعنف والعسف اليومي المادي والرمزي بحق الناس والشعوب، تتحمل المسؤولية الكاملة عن حالة الفراغ الأخلاقي والقانوني الحاصلة، لأنها لم تؤسس أية بنى قانونية عقلانية صحيحة، تعلي من شأن “الفرد-المواطن”، وتمنحه حقوقه، وتعيد الحياة المدنية للمجتمعات، بل اعتبرت أقوال وممارسات زعاماتها التسلطية هي القانون المعبر عن إرادة “الحاكم-الإله”، المضاف إلى قانون آخر هو قانون ومنطق القوة العارية والخوف الأعمى البدائي، بحكم اغتصابها للسلطة وإرادة الناس.. فالحاكم الأعلى هو المعبر عن مجموع الأمة، وهو الممثل والمعلم والمربي لأبنائها، وهو صانع القانون ومصدر الفكر التشريعي، وهو ملهم آمال وتطلعات جماهير الأمة، وهذا ما تجلى في أعلى تعابيره في مفهوم وسلوك النظام السابق في سوريا، وهو نظام مستبد غير عقلاني، بنى نظاماً طغيانياً قوياً ودولة ضعيفة هشة، مجتمعاً منخوراً، بل وأخذ بلداً بأكمله إلى الحروب والمنازعات والاصطدام الأهلي المجتمعي، فجراً تعقيدات التاريخ ونزعاته العصبية بين مكونات مجتمعه على مدى سنوات طويلة، كما رفض أن يستمع لأقرب حلفائه من دول الإقليم والعالم، من أجل إحداث أي تغيير قانوني ولو بسيط لصالح شعبه ومجتمعه.. وبدلاً من أن ينتج بلداً متحضراً خاصة وأنه لم ينازعه في ملكه أحد منذ أن استلم الحكم قبل عقود، أفضى هذا النظام إلى إنتاج مجتمع مقهور محروم ومكبوتة، وبنى قيماً مبتذلة، حيث كان ينفّس عن كبته عبر كثير من السبل والمسالك القبيحة من التلصص والتحريض وتتّبع العورات والنميمة والفساد الخفي ونشر الكراهية ومراقبة الناس والاهتمام بالمظاهر الشكلية، والعنصرية والنرجسية والخوف من المختلف والإيمان بالمؤامرة وشيوع الخرافات والأخلاق المُنغلقة ونشر الخوف واللعب على المصائر واختلاق تهديدات وهمية والتفاخر الكاذب والتغطرس والتمجد الفارغ وووإلخ
نعم كانت تجربة الحكم السابق مكلفة وباهظة الأثمان، فقد تم إدخال سوريا على مدى عقود في غياهب المجهول نتيجة تقوية النظام وتضعيف الدولة من أجل لعب أدوار وظيفية خارجية على حساب الداخل، وجرت عملية نهب وفساد منظمة، بعدما تمت إدارة البلد على نحو شخصي بعيد عن منطق السياسة القائم على ضرورة إعلاء وإرساء مصالح البلد لا مصلحة نخبة خاصة، لم يكن لها من همٍّ وهاجسٍ سوى الترسخ والتجذر بالقوة والعنف الأعمى على كراسي الحكم ولو على حساب تدمير بلد بأكمله، تم إدخاله -من خلال الأساليب الفاشلة في إدارة الحكم- في حروب ومجاعات وحصار، ليتحول الشعب إلى مهاجرين يطاردون على الحدود أو فقراء يتوسلون لقمة العيش ورغيف الخبز.. رغم ما كان يمتلكه البلد من ثروات وموارد وطاقات هائلة تم زجها وحشدها وتركيزها فقط للتمكين السلطوي العنفي…
من هنا اعتقادنا بأن وجود مثل تلك المفاهيم والتصورات التقليدية والانطباعات النمطية الخاطئة عن مفاهيم وتصورات فكرية تخص آليات العمل السياسي القائم على منطق الحرية وحق الناس في خوض غمار تحقيق مصائرها بنفسها وعلى مسؤوليتها، بات يشكل ضرورة حيوية للبدء ببناء مجتمعات مدنية عربية محكومة بالعقل والعلم والسلام المجتمعي الداخلي، يقتضي منا الإسراع في حل عقدة هذا الإشكال المركوز في ساحة اللاوعي لمجتمعاتنا، والخطوة الأولى هي في نشر ثقافة العقل والحوار والتسامح الديني والسياسي من خلال القيام بنوعين من الإصلاح، سياسي وقبله ديني.
أما الإصلاح الديني المطلوب، فيعني ضرورة إعمال حركة النقد والتجديد في كثير من مفاهيم وطروحات وأفكار الدين التي لم تعد صالحة للعصر والحياة، والسير على هدى العقل والعلم وترك الكثير من المقولات الأيديولوجية الدينية التاريخية العتيقة التي لم تعد قابلة للصرف في عالم اليوم والغد، مع الاستجابة الواعية لمتطلبات الحياة والعصر بما فيها أسئلة العلم والعصر التي أشعلتها ثورات المعرفة والانفجارات العلمية منذ بدء عصر الاكتشافات العلمية وحتى عصر الذرة والانترنت وزمن التدفق المعلوماتي والتواصل الإلكتروني العابر للقارات والحدود والحواجز… حيث أن الحياة العلمية المرتكزة على الأخلاق العملية الإنسانية باتت تشكل قاعدة للتطور الحياتي المجتمعي، خاصة بعد ما طرح على تلك المجتمعات من أسئلة وتحديات مصيرية على مستوى الاقتصاد السياسي وعلم النفس الاجتماعي وثورات المعرفة الإنسانية..
أما الإصلاح السياسي المطلوب فلابد أن يقوم على تعزيز مناخ الحريات العامة، ومفاهيم ومبادئ حقوق الإنسان، وضمان حق المشاركة السياسية للجميع تحت سقف الوطن والحكم الصالح.
والدين، كحالة حضارية في الفكر والإحساس والممارسة، لا يقف على طرفي نقيض من هذين الإصلاحين، بل هو مع أي فكرة تحقق تواجداً منتجاً للإنسان في الحياة، حيث أنه يدعو ويحض على تمثل كل تلك القيم التي تؤدي لتعزيز وجود الإنسان الحي المبدع والمتفاعل في الحياة، وضمان تحقيق وجوده بالطريقة الأفضل والأمثل والأرقى فكراً وعملاً..
إن المشكلة الأساسية والعطالة الحقيقية قائمة في بنية النظام السياسي الرسمي العربي القائم، ولا تكمن في الدين ولا حتى في طبيعة الوعي التقليدي القديم والجديد للإسلام والإسلاميين ككل، مع اعترافنا بماضوية وقصور كثير من آليات ومفاهيم الخطاب الفكري الإسلامي ذاته.
إن علة المرض والسبب وراء ذلك كله هو استمرار هيمنة هذه البنية السياسية والاجتماعية، بنية السلطات العصابية الرسمية العربية المتوحشة والمتغولة كما ذكرنا، كما وأكدت تلك الأحداث أن الدين لا يمانع الحداثة والتطور السياسي المدني، ولا يمكن أن يقف حائلاً دون تقبل ومن ثم تثبيت وإحلال الفكر الديمقراطي والتداول على السلطة ومشاركة الناس سعياً لإقامة مجتمعات ديمقراطية محكومة بقوانين عصرية مؤسساتية مدنية.. أي إقامة دول القانون والمؤسسات، دول يحترم فيها الإنسان وتعطى له فيها كل حقوقه الأساسية، ويقام فيها حكم المواطنة الصالحة، وتنطلق فيها مفاعيل التنمية المتوازنة، وتؤسس مناخات صحية لتوزيع الثروة بصورة عادلة بين أبناء وأفراد تلك المجتمعات.
أخيراً ننوه ونعاود التذكير بأنه إذا ما أردنا أن يكون لنا –كعرب أصحاب حضارة ورسالة إنسانية- موقع ودور مهمّين ومساهمة حضارية فاعلة ومنتجة ومساهمة مع الآخرين في بناء الحياة من موقع الأخوة والعدل والتسامح والمشاركة الواعية الفاعلة، وأن نستفيد كثيراً من طاقاتنا وثرواتنا الهائلة التي حبانا بها الله تعالى، ليس لنا من بديل إلا التحرك على هذا المسار والسبيل الصحيح الصعب والشائك، ولكن الممتلئ بالنتائج الإيجابية الباهرة على صعيد الفرد والمجتمع والدولة ككل.. إنه مسار التغيير السياسي والاقتصادي المؤدي لإعطاء الناس حقوقهم وتأمين متطلبات وجودهم الحي الخلاق والمبدع، وقبل ذلك إقرار وتثبيت ثقافة الحرية الفردية.. فالإنسان هو –أولاً وأخيراً- سيد الوجود، الخليفة المؤتمن على قيم الحق والعدل والحرية إلى حين..