هامش ثقافي

الفلسفة الذرائعية…!!!

بقلم غسان عبد الله

هذه الحكمة التي أنتجتها شعوب الأرض ودلّلت على مصداقيتها أجيال من الباحثين والمفكرين من مختلف أصقاع الأرض وعبر مختلف المراحل التاريخية. وقد دخلت هذه الحكمة في المنظومات الفكرية للفلسفات والعلوم الاجتماعية كما في الأديان العالمية والمحلية، ونشأ – من ثمّ – إجماع على احترامها والحذر من اختراقها. فمن شرائع حمورابي إلى دساتير الدول الحديثة والمعاصرة، مروراً بكل أنماط التشريع المدني والسياسي والديني، كانت القولة مجلجلة: “بشِّر القاتل بالقتل!”.

وقد وسّع بعض المفكرين والفلاسفة والباحثين تلك المقولة، إذ سحبوها على نظم سياسية واجتماعية وأخلاقية ذات طابع استبدادي قسري، فأعلنوا أنها وإن طال الأمد بها، فإنها – لا محالة – آيلةٌ إلى التّصدع والخراب، وأن قادتها وطُغَمَها قد تقفُ يوماً أمام مساءلةِ العدالة. وذهب بعضُ أولئك إلى أن حضاراتٍ برمّتها تجدُ نفسها أمام ذلك المصير، حين تكون قد استنْفَدَت أغراضَها، وتحوّلت إلى عقبةٍ كأْدَاء أمامَ تطوّر المجتمعات اقتصاداً وسياسةً وتعليماً وقضاءً وقيماً أخلاقية، وهذا يضعها أمام استحقاق “طلقة الرحمة”.

فقد رأى أحد هؤلاء المفكرين (ألماني) – وهو الذي تحدّر من القرن التاسع عشر – أن “الغرب” حقّق أغراضَهُ، وأنه مُهيأ – على هذا الأساس – للخروج من التاريخ. فكتب كتابه الشهير “أفول الغرب” ليكون بمثابة وثيقة “وفاة – أفول” الغرب إياه. وإذا كان التحليل “الحضاري” لهذه الوثيقة أمراً مهماً في إطار الكشف عن مصائر “الغرب” وغيره، إلا أنه غير كافٍ. فهنالك التحليل “التاريخي والاجتماعي”، الذي يفتح أمامنا نوافذَ للتمييزِ بين أنساقٍ مختلفةٍ في الغربِ نفسه أولاً، ولوضع اليد – من ثم – على الأنساق الأكثر تآكلاً وقابلية للتّصدع، ثانياً؛ ما يُحيلنا إلى النسق “الأمريكي العولمي” المتحالف مصيرياً مع المشروع الصهيوني الإسرائيلي. فها هنا نواجه المفارقةَ الخطيرةَ القائمةَ على التشابك بين قوّةٍ ماديةٍ هائلةٍ صمَّاء طائشة ومنظومات اجتماعية ثقافية وأخلاقية قائمة على الاستعلاء والعنصرية وإقصاء “الآخر الضعيف أو الأضعف”.

ومن أجل مزيد من التدقيق والتوضيح، نسوق نصاً لأحِد الكتاب الأمريكيين نشره مؤخراً في أحد المواقع. فقد جاء في هذا النص ما يلي: “لقد ساعدْتَ في قتل فلسطيني اليوم! إذا دفعتَ الضرائب إلى الإدارة الأمريكية، فإنك تقتل فلسطينياً”.

يُظهر تقريرٌ آخر.. أنه في السنة التي تلت اتفاقية شرم الشيخ في أيلول عام 1999، ضخّت الولايات المتحدة الأمريكية 3.6 مليار دولار لصالح التّسلح في إسرائيل.. دُفِعَ ثمنُها من أموالِ الضرائبِ الأمريكيةِ التي تُستَخْدَم لسحقِ الشّعبِ الفلسطينيّ. وهذا يعني أن الهجومَ الإسرائيليَّ على المدنِ الفلسطينية ليس حرباً على الإرهاب، ولكنه جزءٌ من حربٍ طويلة ووحشيةٍ ضدّ الشعبِ الفلسطينيِّ من أجلِ السيطرةِ على الأرضِ والثرواتِ.. الحقيقةُ الثانيةُ هي أن حربَ إسرائيل ضدّ الفلسطينيين لن تكون ممكنةً دون الجيشِ الأمريكيِّ والدّعم الاقتصادي (3 مليارات دولار سنوياً في مساعدة مباشرة)”.

إن ذلك النص فائق الأهمية على صعيِد ما نحن الآن بصدده. فكاتبه، هذا الرجل الشجاع، يخاطب الشعب الأمريكي وشعوبَ العالمِ بأنكم جميعاً مسؤولون عن مصائره، بما يعني ذلك من سِلْمٍ وعدلٍ وحريةٍ ورفاهٍ وكرامة؛ ذلك لأنكم تعيشون في عصر تقوده قوى سياسية وعسكرية لا تقبل من الشعوب بأقل من سحقها. وهي – في هذا – تُمعن في إفقار شعبها وإذلاله، وفي وضعه على حدّ السيف. ومن شأن ذلك أن يُفضي إلى القاعدة التأسيسية للنظام الدولي: إن نظاماً سياسياً ما لا يحترم حقوق الشعوب، لا يمكن أن يحترم شعبه؛ وإنّ نظاماً سياسياً ما لا يحترمُ حقوقَ شعبِهِ، لا يَسَعُهُ أن يحترمَ شعوبَ العالم!.

والمُلفت، بالاعتبارَيْن المعرفيّ والسياسي، أن الإدارةَ الأمريكيةَ في ذلك تجعل من “الفلسفة الذرائعية” منهجاً ناظماً لها. وحيث يكون الأمر على هذا النحو وعبرَ القيامِ بتفكيكٍ علميٍّ للنّص، فإننا نضعُ يَدَنا على نقطةٍ خطيرةٍ تغيّبها تلك الإدارةُ ومؤسساتُها الأيديولوجيةُ والسياسية. أما هذه النقطةُ فتقومُ على أن الإدارةَ المذكورةَ لم تعُدْ قادرةً على دغدغةِ عواطفِ شعبِها عبرَ الزّعمِ بأنّها إنما تبني سياساتِها الخارجيةَ، في وجهها الاقتصادي تحديداً، على رفع “مستواه الاقتصادي”، وإنْ عَبْرَ نهْبِ الشعوب. لقد فكّك هذا الكاتب الأمريكي تلك السياسات المراوغة، حين أعلن أن الشعب الأمريكي هو الذي يُنْهَب من قِبَلِها لصالحِ كيانٍ إسرائيليٍّ عنصريّ، وفي سبيلِ تدميرِ الشعبِ الفلسطينيِّ بكلّ الوسائلِ والطرائق.

في هذه المواقفِ الفاصلة، يُطرح السؤال التالي نفسه بإلحاح وراهنية: مَنْ مِن الطرفين سيُخرج من التاريخ، الإدارة التي تكرّس شعبها وشعوبَ العالمِ لمصالحها، أم ذاك الشعب وهذه الشعوب؟.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *