فضاءات فكرية

تعزيزُ النّقدِ في واقعِ الثّقافة وسياسات المجتمع رؤيةٌ في التّاريخ والمقاربة العَصرية

بقلم: نبيل علي صالح / كاتب وباحث سوري

والنقد هنا يعني المحاسبة والمساءلة الذاتية والموضوعية في كل موقع من مواقع المجتمع.. يقول الإمام موسى الكاظم(ع): “ليسَ منّا من لم يحاسبْ نفسه في كلّ يوم، فإنْ عملَ حسناً استزاد الله، وإنْ عمل سيئاً استغفرَ اللهَ وتاب منها“.

طبعاً، قد يظن البعض أن هذا الحديث لا علاقة له بمعنى النقد (بما هو مساءلة ومكاشفة وتعرية بهدف الإصلاح والبناء)، بل هو حديث ديني مختص أو متعلق فقط بالجانب العاطفي الوجداني (النفسي) من حياة الإنسان، لأنه يحضه ويحثه على ضرورة التزام النقد والمحاسبة على صعيده الذاتي الشخصي فقط، ولكن المراد العميق منه – على الرغم من اعتقادنا بالصحة النسبية لهذا الرأي الذي يتم تداوله في بعض الأوساط التي تعتبر أن الدين هو مجرد علاقة روحية بين العبد وخالقه، ولا علاقة له بالحياة والواقع – هو أيضا ًممارسة الإعداد الروحي والبناء الأخلاقي المتين، وتوعية الإنسان (المسلم بالذات) على قيم النقد، كجزء أساسي من مسيرته التكاملية، نحو تمثل معالم الإسلام العادل وتحقيق تشريعاته ومبادئه في الحياة كلها، في السياسة والاجتماع والاقتصاد ووإلخ.. فبناء النفس وتنمية الروح (والأخلاق المعنوية الذاتية) هو أساس بناء وتنمية الواقع الخارجي، ليكون بالتالي تغيير ما بالنفس هو الأساس لتغيير ما بالواقع.. من هنا جاء تركيز الإسلام على تعميق منهج وخط الإعداد الروحي عند الإنسان المسلم (الجهاد الأكبر) ليكون ذلك مقدمة لازمة حيوية لتغيير الحياة والواقع في الاتجاه الذي يحقق كرامة الإنسان وعدالة الحياة.

إنَّ دراسة هذا النص تفيدنا في تحديد رؤية الإسلام نفسه، لمسألة النقد، وذلك من خلال التأكيد على ضرورة تعميق الروح النقدية على المستويين الذاتي الداخلي، والموضوعي الخارجي، في مفاصل حياتنا واجتماعنا السياسي العام أيضاً، في ضرورة إعلاء كلمة العقل النقدي، وترسيخ مبدأ العقلانية الواقعية، والعمل على إيجاد تربته المناسبة.. وذلك من أجل الكشف عن حقيقة أزمات الواقع المعاصر الذي نحياه ونعايشه بإيجابياته وسلبياته، وتحليل ظروفه وأحواله المختلفة، وأخذ العبر والدروس منه، بحيث يقودنا ذلك إلى ضرورة تجديد الروح وبناء نهضة العقل، والانفتاح على العالم والحياة، واعتماد مبدأ الاجتهاد والتجديد، والروح العلمية المجردة، والرؤية الموضوعية للذات والإنسان وللعالم بشكل دائم.

ولذلك عندما يصبح حق التدخل، والنقد والمحاسبة، والأمر بالمعروف، ومعارضة السلطة الظالمة، ومواجهة السلطان الجائر والفاسد، من الواجبات الأساسية التي يجب العمل على تركيزها في واقع المجتمعات، فلا يمكن الحديث بعد ذلك عن مشروع الدولة الشمولية وسلطتها المستقلة والمنفصلة عن المجتمع والأمة؛ أي التي تقوم على نفي أي دور لأفراد المجتمع في تداول السلطة، وعدم اعتبار الأمة مصدراً للحكم والسلطة، مما يفقد هذه السلطة شرعية الوجود في الوجدان المجتمعي الشعبي.

إن نقد السياسة القائمة يعني نقد من يمثلها في فعالياته ونتائج أعماله، إذ لا تصبح السلطة – أية سلطة تدير دفة المجتمع – شرعية في وجودها وعملها (وتحظى برضا الأمة والشعب) إلا عندما تقوم على احترام حق المجتمع في معارضة توجهاتها المختلفة، ونقد سياساتها العملية، بحيث يكون هذا الحق سلطة قانونية موازية لسلطة الدولة نفسها.

من هنا نجد أنه من الضروري جداً العمل – على هذا المستوى – باتجاهين اثنين، يكمل أحدهما الآخر، ويلازمه:

 الأول: اتجاه التأويل، أي تأويل النصوص لمصلحة تعزيز سلطة المجتمع وحرية الفرد والجماعة، وتثبيت حق النقض والاعتراض والتصويت والتصحيح. وحتى الثورة على الحاكم الجائر وتغييره، وإلى غير ما هنالك من حقوق هائلة على نحو لا يخرج هذه النصوص عن دلالاتها الحية الصريحة.

الثاني: تنظيم واجب التبليغ والدعوة في المجال الإجرائي والعملي، من خلال إعادة النظر في مهمة المبلغ نفسها، وذلك بالعودة إلى الينابيع والأصول التي أعطى لهذه المهمة الرسالية صفة السلطة الموازية، وإقامتها على قاعدة الحرية والمسؤولية، وعلى مبدأ (كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته)، بحيث يكون لكل فرد من أفراد المجتمع والأمة – ما دام يمتلك حق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر – سلطة عامة هي سلطة النقد غير المحصورة سوى بضوابط القانون، والتي تطال كل الدوائر في المجتمع وفي الدولة. وبهذا المعنى فكل فرد – سواء لوحده أو من خلال عضويته في منظمة مدنية – هو عضو فعال في السلطة ككل، ومسؤول أمام الله والمجتمع، عليه القيام بواجب ومسؤولية ممارسة أشكال النقد والمعارضة المختلفة في كل حقول التوجيه الروحي والمادي إعلاءً لقيم الأمة وأهدافها الرسالية العليا.

من هنا نجد أهمية الربط بين الممارسات النقدية المسؤولة التي يقوم بها الدعاة والمبلغون وبين المؤسسات الأهلية القائمة في المجتمع، وما يرتبط فيها من هيئات وقوى وتيارات تناهض (وتجاهد) من أجل تحديث المجتمع السياسي، وتعميم الحريات السياسية للفرد والمجتمع التي تدعو إلى تمثل مبادئ وقيم حكم المواطنة وعلى رأسها مبدأ التعددية وتداول السلطة وإصلاحها واسترداد شرعيتها إلى حضن المجتمع والأمة.. لأنَّ في هذا الربط بين مهمة المبلغ وبين المهمات الاجتماعية والسياسية الحيوية تجديداً لدور المبلغ في مجال ترسيخ الحس النقدي لدى أبناء المجتمع، وممارسة حق المعارضة، واستنقاذاً لهذا الدور من هامشيته التاريخية، ووضعاً له في موضعه الطبيعي من حياة الناس وهمومهم الجدية والمصيرية.

من هنا، يجب على العاملين السائرين في هذا الطريق الصعب والطويل (طريق النقد)، أن يشعروا جدياً بأن العمل في سبيل البناء والنهضة وتمثل قيم الحق والعلم، سيكلف صاحبه الكثير من التعب والمعاناة والمجاهدة الشخصية، وهو بالتالي ليس نزهة يرفه فيها عن نفسه هنا وهناك.. وبهذا المعنى لا يعود العمل النقدي – خصوصاً على صعيدنا الإسلامي – مجرد صرخةً في فضاء المساجد، أو دعوة (دينية) ساذجة خالية من أي عقل يفكر، أو إحساس يعي، أو معنى يتحرك، ولكنه – كما هو في مفهومه الحقيقي الأصيل – أن تقف في ساحة الحياة لتنظر في مواقعها وأوضاعها الظاهرة والمخفية، ولتدرس كل انحرافاتها، وتعمل على التخلص منها بوعي وثقة وثبات.. ثم تنطلق بعملية المواجهة الصادقة ضد كل أنواع الظلم ومختلف نماذجه وأساليبه سواء على المستوى الفردي في علاقتك مع نفسك وعلاقات الأفراد بعضهم البعض، أو على المستوى الاجتماعي في علاقة الجماعات مع بعضها، وفي أوضاع الحكم والحاكمين، وعلاقة الحكم القائم بالشعب، وعلاقات الدول بعضها.

إن الإنسان الرسالي الذي يريد أن يصل إلى هذه المرحلة المتقدمة من الوعي النقدي الفاعل والهادف لا بدَّ أن يؤسسَ بنيانه وكيانه النفسي والعملي على تقوى الله، لكي يكونَ بمقدوره تحمّل كل الضغوط والمشاكل بصلابة وعزيمة، فلا ينحني أمامها بضعف واهتزاز، بل يحاول أن يقتحمها بقوة وتصميم على النصر والفوز الأكيد.

إذاً، إن المطلوب من الإنسان الرسالي النظر لفاعليته النقدية في مجتمعه هو:

أ- أن يقف مع الإنسان المستضعف والأمة المستضعفة قلباً وقالباً ووعياً وسلوكاً وحركة، فيتحسس آلام الناس المستضعفين، ويلامس معاناتهم، ويعايش قضاياهم الخاصة والعامة، ويتحمل في سبيلهم كل أنواع التحديات والمشاكل النفسية والعملية.

ب- أن يربي الأمة ويصوغها رسالياً وعقائدياً بالمستوى الذي تستطيع فيه أن تملك قوة الموقف النقدي الصارم، وصلابة المبدأ والإرادة لتزيل الحاكم إذا طغى وتجبّر وظلم.. وتزيله من مواقعه التي يريد الوصول من خلالها إلى مصالحه الخاصة.

ج- أنْ يمتلك ثقافة الحياة وحس العصر الذي يعيش فيه، ليكون قادراً على امتلاك أسس التعامل معها، بتنوعاته وأحواله المختلفة، من أجل فهم ودراسة شروط ومناخات إدخال قيم الإسلام إلى ذهنية العالم المعاصر بالطريقة التي تحقق له الكثير من النتائج الإيجابية على المستوى الروحي والمفاهيمي.

ولكن لا شك بوجود كثير من الصعوبات القائمة على الطريق، حيث تشكل مسألة هيمنة وسيطرة العقلية القبلية على قطاعات واسعة من أجهزة الحكم السياسي العربي والإسلامي بكل أجوائه وامتداداته، إحدى أهم المسببات الرئيسية لاستمرار أزمات واقعنا المتلاحقة التي تكبله وتمنعه من الانطلاق نحو مواقع العمل والإنتاج والفاعلية الحضارية، حيث ترهن وجوده لصالح نزعات طغيانية ذاتية ليس لأصحابها من هم سوى تكريس مصالحهم وأهوائهم، على حساب مصالح الدولة ومجتمعاتنا ككل. وقد أدى هذا كله إلى بناء حداثة غربية مشوهة وغير نظيفة في تلك المجتمعات. لذلك ليس هناك من أمل للخروج من هذه الأزمة العميقة (وحداثتها المزيفة الكسيحة) إلا بالاستمرار في توجيه سهام النقد الموضوعي إلى الجذور النفسية والفكرية التي أنتجت وولدت هذه الحداثة، وتهيئة شروط جديدة لتجاوزها، والخروج من أخطارها العقيمة.

ومن الطبيعي أن يكون هذا الواجب أساسياً وليس ثانوياً خصوصاً مع توافر كمٍّ هائل من النصوص الإسلامية التي تفيض بمعاني وتعابير المعارضة والنقض والمساءلة، الأمر الذي يفتح المجال الواسع أمام نظرية الاجتماعي والسياسي للإسلام لكي تتأسس على قيم النقد والمحاسبة والمعارضة البناءة لأي حكم يقوم على الاستبداد والإقصاء ونفي الآخر.

وللأسف كانت هذا الاستبداد والقمع هو سلوك وديدن الدولة التحديثية العربية منذ نشأتها بعد مرحلة الاستقلال عن الاستعمار، حيث أنها ورغم محافظتها (مؤقتاً) وبالقوة على وحدة كيانات بلدانها الجغرافية، ووفرت لها هامشاً مهماً من الاستقرار النسبي بوسائل وأدوات الضبط والردع المعروفة، ولكنها فشلت فشلاً ذريعاً في تحديث مجتمعاتها وتطويرها وتنميتها بما يحقق سعادة ورفاه شعوبها، والحد من خسائرها وانهياراتها الاقتصادية المتتالية، وجَعْلها في منأى عن أخطار العنف والحروب والصراعات والاتقسامات المجتمعية اللاحقة.. بما يعني أن القوة والردع تفيد وتنجح في المديات القصيرة لا الطويلة.. وبما يفيد أيضاً أنه ما لم تتم التسوية العقلانية التاريخية لقضايا ومشكلات وأمراض وأزمات وصراعات مجتمعاتنا ومكوناتها التاريخية الإثنية والعرقية والدينية، لن ننجح (نحن العرب) أبداً في تأسيس صروح الدولة المدنية الحديثة، دول القانون والمؤسسات والعمران؛ عمراناً بشرياً ومادياً..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *