اللغة المُثْخنة..!
بقلم غسان عبد الله
تُعدّ اللغة العربية ركناً من أركان التنوع الثقافي للبشرية. وهي إحدى اللغات الأكثر انتشاراً واستخداماً في العالم، إذ يتكلمها يومياً ما يزيد على 400 مليون نسمة من سكان المعمورة. يحتفل العالمُ باليومِ العالميِّ للغةِ العربيةِ في الثامن عشر من كانون الأول من كل عام.. “
وقع الاختيار على هذا التاريخ بالتحديد للاحتفاء باللغة العربية لأنه اليوم الذي اتخذت فيه الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1973 قرارها التاريخي بأن تكون اللغة العربية لغة رسمية سادسة في المنظمة.
لكن ما هو واقع هذه اللغة؟.. هل الناطقون بها مساهمون في إحيائها على أرض واقعنا العربيِّ في هذا العصر؟..
قال العقَّادُ عن اللغةِ العربية: “لقد تعرَّضَتْ اللغةُ العربيةُ وحدَها من بينِ لغاتِ العالم لكلِّ ما ينصبُّ عليها من معاولِ الهدمِ، ويُحِيطُ بها من دسائسِ الراصدينَ لها.. لأنها قَوَامُ فكرةٍ وثقافةٍ وعلاقةٍ تاريخية“.
هل أُثخِنَتْ لغتُنا؟!. لا شكَّ!.. ولا تزالُ الحروبُ تتوالى بلا رحمةٍ أو هوادة. ونظرةٌ واحدةٌ لهذا الدمِ النازِفِ من جراحاتِ لغتِنا تؤكِّدُ ذلك، نزيفٌ في أسماءِ المحلاتِ الأجنبيةِ، نزيفٌ في العَرَقِ المتصبِّبِ من مثقفينا وهم يجاهدونَ الحديثَ بلغتِهِمُ الأم!! نزيفٌ في اغترابِ لغتِنا على ألسنةِ الصغار!! والنزيفُ الأخطرُ في النظرةِ الدونية لهذه اللغةِ الصابرةِ، وتفضيلِ لغاتِ الشرقِ والغربِ عليها عندَ الأجيال الصاعدة.
حربٌ مشتعلةٌ وما من مدافع.. لأن الأعداءَ خطَّطوا جيداً، ففي الوقتِ الذي يؤكدونَ لنا أن اللغةَ شيءٌ ثانويٌّ غيرُ مهمٍ، فإنهم يتمسكونَ بلغاتِهِم شديدَ التَّمَسُّكِ.. واثقينَ أن محاربةَ اللغاتِ القوميةِ هو المصدرُ الرئيسيُّ لزعزعةِ الثقةِ بالنفسِ وتمزيقِ الوحدةِ والشعورِ بالذاتِ، أو بعبارةٍ أخرى إن القضاءَ على اللغةِ القوميةِ هو القضاءُ على القوميةِ ذاتِها.
ويروي التاريخُ لنا أن الأممَ الحيةَ تنظُر إلى لغتها القومية نظرةَ إجلالٍ واحترامٍ، وتزدادُ هذه النظرةُ بوجهٍ خاصٍّ عند الشدائِدِ، فحينما احتلَّ الأعداءُ بولندا لم يستطِعْ البولنديون مقاومَتَهم عسكريّاً، وإنما كانتِ المقاومةُ تتمثَّلُ في أمرٍ وحيدٍ قد يبدو للبعضِ بسيطاً وهو: إحياءُ لغتِهم القوميةِ التي حارَبَها المستعمرِ، فصَمَدوا بأغانيهمُ الشعبيةِ ونثروا آدابَهُم ولغَتَهُم ونشروها أينما ذهبوا حتى أن البولنديَّ كان يتكلَّمُ بلغتِهِ لا لشيء إلا رغبةً في إشباعِ عاطفتِهِ القومية، على الرَّغمِ من أن كلمةً بولنديةً واحدةً يسمَعُها المستعمرُ قد تُلْقي بصاحِبِها إلى السجنِ.. ويؤكِّدُ “فوسلار” على هذا: “إذا حُرِمَ الإنسانُ من موطِنِهِ على الأرضِ فإنه يجدُ موطناً روحيّاً في لغته القومية”.
وبينما تعامَلَ الأوروبيون هكذا مع لغاتِهم، حاربوا لغاتِنا وقاتلوها.. فنابليون كان يُوَدِّع بعثاتِهِ الاستعماريةَ قائلاً: عَلِّموا اللغةَ الفرنسيةَ أينما ذهَبْتم فتعليمُها هو خدمةُ الوطنِ الحقيقية”، وهكذا كان قائِلُهُم يؤكدُ: إن الجزائِرَ لن تُصْبِحَ مملكةً فرنسيةً حقيقيةً إلا عندما تصبحُ لغتُنا هنا لغةً قوميةً.. وهذه الخطةُ الفرنسيةُ المحكمةُ نفَّذَها “كرومر” الإنجليزيُّ في مصر حين أَوْقَفَ تعيينَ كلِّ من لا يَعْرِفُ الإنجليزيةَ في المصالحِ الحكوميةِ المصرية.
نعْلم أنه لَمِنَ الهَذْرِ تضييعُ الوقتِ لإثباتِ فكرةِ الحربِ على اللغةِ العربية، لأنها أجلى من أن تُوضَحَ، ولكن ما حيلتُنا وقد أصبحنا في حاجةٍ مُلِحَّة إلى مراجعةِ كلِّ أبجدياتِ فَهْمِنا وثقافَتِنا تحت ضغطِ المشككين في الثوابت دوماً.
فقيمُ العولمةِ وقَبُولِ الآخرِ جَعَلَتْنا نقدِّمُ القرابينَ ساجدينَ تحت قدمِ “الآخر”… هذا الآخرُ الذي لا يعبأ أن يُنْشِبَ أظفَارَهُ فينا أو يَمْسَخَ هُوِّيتَنا أو حتى أن يغتالَ قدرتَنا على التواصلِ مع أهلينا!!. أفلا نَفْقَهُ إذن أن العربيةَ هي أحدُ قلاعنا الأخيرة؟!.
إننا في أمسِّ الحاجةِ اليوم وأكثر من أيِّ وقتٍ مضى إلى العودةِ إلى رُشدنا، أن نعلِّم لغتنا العربيةَ لكلِّ الشعوب التي نهاجرُ إليها بحثاً عن الرزق، نقول نهاجر إليها وليس نغزوها أو نستعمرها، أن نجعلَها حلاوةً على ألسننا لا عيباً نخجلُ من أن تعرِّيه لغاتٌ هجينةٌ.. أو أن نرسِّخَ في أذهان الأجيالِ التي ستكبر ذات يومٍ بها ومعها أنها اللغةُ الأم، من خلالِ السلامُ عليكم، عافاكم وليس برافو.. إلخ، ساعتئذٍ نُصبِحُ خيرَ أمَّةٍ أخرجت للناس، نأمرُ بالمعروف وننهى عن المنكر، نأمرُ باللغة التي لا تموتُ لأنها لغةُ القرآن وبالتالي هي المعروفُ بعينِهِ، ونَنْهَى عن اللغةِ التي لا أصلَ لها لأنها لغةٌ هجينة، مع التأكيد أن هذا النهي وذاك الأمر لا يعني تركَ معرفتِنا بلغةِ الآخرين وتعلُّمِها من أجلِ قراءَتهم بشكلٍ أفضل، ولا ضيرَ لو أننا أرحنا أنفسنا قليلاً من عقدةِ ذنبٍ راسخةٍ فينا بأننا بحاجةٍ إلى ترجمةِ أعمالِنا إلى اللغات الأخرى حتى يقرأها الآخرون في الوقت الذي نتعلم فيه لغةَ هؤلاء كي نقرأهم جيداً، فلماذا لا ندعهم يقومون بمهمة ترجمة لغتنا لأنهم سوف يحتاجون إلينا حتى نُفْهِمَهم بعضَ مفرداتها، وبالتالي وانطلاقاً من مفهوم العرض والطلب تُصبحُ لغتُنا أكثرَ من مرغوبةٍ من قِبَلِ الآخر.. يبحثُ عنها تَعَبَاً وكدَّاً.. وبالتالي لا نُقدِّمُ لهم خدمةً مجانيةً، في الاستبسال من أجلِ إفهامه.
يحضرني هنا موقفٌ مشرِّف لياسين بونو حارس مرمى المنتخب المغربي لكرة القدم يؤكِّد فيه على أن الجذور تقاوم معاول الهدم للغة العربية حيثُ رفض طلبَ الحديث بغيرِ اللغة العربية، والذي قدّمه منظِّم المؤتمرِ الصحفيِّ الخاص بمباراةِ منتخبِ بلادِهِ وجزرِ القمرِ في كأسِ أمم أفريقيا التي أقيمت بالكاميرون. وقال بونو الذي أصر على إكمال حديثه بالعربية في المؤتمر الصحفي مع مدرب المنتخب وحيد خليلوزيتش “هذه مشكلتهم وليست مشكلتي”.
هي حربُ حضارات والفوز لمن كان أجدرا.. فلنفكِّر قليلاً، ونسعى كثيراً في هذا الإطار، لأننا قد نصلُ ذاتَ يومٍ إلى ذوبان الأصيلِ في الغثِّ وهذا ما لا يقبَلُهُ منطقُ الذين يريدون الحياة.