فضاءات فكرية

العَربُ وقضيةُ الصّراع مع إسرائيل الاستبدادُ كمانع للتّغيير والحَسم التّاريخي

بقلم: نبيل علي صالح / كاتب وباحث سوري

أقول: هذا الأمر حقيقةً يعطينا فكرة حقيقية وواقعية عن أن طبيعة الصراع بين العرب والمسلمين من جهة ودولة العصابات الصهيونية من جهة أخرى، ليس مجرد صراع على أرض وجغرافية فقط، بل هو صراع وجودي مستمر ومتمظهر بأشكال ومظاهر شتى، ثقافية وحضارية وإنسانية، قد تخْفتْ فيه أصوات البندقية والمدفع والصاروخ حيناً لتشتعل وتتفجر أحايين أخرى؛ ولن تنتهي مفاعيله ما لم تعالج المشكلة في أصلها وجذورها وبنيتها المتمثلة بالاحتلال والإرهاب والعنصرية الصهيونية التي تشكل خطراً على الوجود الإنساني كله لا على العرب فقط، وهم أصحاب الحق في أساس تاريخي ينطلق من قتل واقتلاع ونفي هويّة، واغتصاب أرض وطرد شعب وتثبيت حكاية خرافية عن شعب تائه في التاريخ، عاد ليجد أرضه الموعودة بفضل نبيّ استعماري بريطاني (ولاحقاً غربي أمريكي)، وبدعم عدد من أنبياء الغرب “النبيل”، الذي قادته “أخلاقياته” الإنسانية الجديدة.

وللأسف، العالم كله في المعسكر الغربي وعلى رأسه أمريكا، ليس في وارد الحل والمعالجة إطلاقاً، لأنه هو القيّم والراعي والحامي لهذا الكيان العبري اقتصاداً وعسكرةً، وهو الداعم والمؤيد والمخطط له في كافة المجالات والأصعدة العلمية والسياسية، في ظل عدالة أمميّة، كانت عوراء فصارت عمياء، وهي تساق لإعادة التأكيد على جملة من الثوابت منها: إن الحقّ كان وما زال للقوة العمياء، ومنها إن الأمم الضعيفة تظل مادة معروضة في سوق البيع والشراء، ومنها إن التاريخ الشعبي لكل أمّة حيّة، لا يُقفل بابه على إذلال تاريخي نهائي يتكئ على صراعات وحروب تُبنى على الأكاذيب، حيث النخب السياسية والإعلامية لا تهتم بمصير الشعوب قدر اهتمامها بالهيمنة والنفوذ واستمرارية عقلية النهب.

وعلى المقلب الآخر، طالما أن هذا الغرب – وعلى رأسه أمريكا – يقف صلباً وعنيداً وراء مصالحه في ترسيخ قوة هذا الكيان العنصري ودعم مخططاته في إبقائه سيداً متسيّداً على هذه المنطقة التي حباها الله تعالى بالموارد والثروات والموقع الفريد والاستثنائي، فأين هي أنظمة العرب وحكوماتهم من معادلة هذا الصراع الوجودي؟! وعلى أي موقف وموقع تقف وتتحرك؟! هل لديهم نية للمواجهة أم أنهم استسلموا بالكامل للغرب الأمريكي، خاضعين، خانعين، بلا خطة ولا قرار ولا قدرة حتى على مستوى رفض سياسات الغرب الإسرائيلية؟! أين هي أسلحتهم التي يشترونها بمئات مليارات الدولارات من أمريكا والغرب؟!.. وبالأساس: لماذا لا يملك العرب قرارهم وسيادتهم على ثرواتهم ومصالحهم خاصة في ظل الرغبة العارمة بالتغيير لدى جماهير العرب، ومعاداتهم الضمنية لكل ما يتعلق بالهيمنة والسيطرة الغربية والأمريكية تحديداً على موارد بلدانهم وقرارها السيادي؟!..

في الواقع إن الإجابة التي تختصر لنا كل ما تقدم، تكمن في مرض الاستبداد الذي تتقوم به الدولة العربية، سواء كانت ملكية أم جمهورية أم أميرية، أم غير ذلك..!!.. الاستبداد المانع لتقرير مصير الشعوب وحقها في الإمساك بقرارها وسيادتها..

وقد أدى هذا المرض إلى جعل واقعنا العربي واقعاً مشبعاً بثقافة الهزيمة والانكسار الحضاري، مع استمرارية إغراقه بكم هائل من زخارف الحياة الدنيا واستهلاكياتها الفارغة التي دفعت الناس لترتمي في حضن التكاسل والدعة والتثاقل والتبرير والدفاع عن شهواتها وغرائزها وكأن الغاية تكمن فيها..

إن نقد الواقع العربي لا يمكن أن يكون صحياً وصحيحاً وعقلانياً ومنتجاً ونافعاً، خاصة عندما نتوخى استنهاضه، من دون نقد بنيته العميقة القائمة على القمع والاستبداد وتعميق ثقافة الاستهلاك، كفكر وسياسة حاضرة معيقة، كانت لبعض جوانب الثقافة العربية الإسلامية، الملامح والتأثيرات الأشد في بناء هيكل الاستبداد العربي على وجه العموم. وهذا لا يعني أن نلقي على ثقافتنا كلها مسؤولية استمرار الاستبداد، فهناك دوافع أسباب أخرى سياسية واجتماعية تتمثل أساساً في بنية نظام رسمي عربي يحتكر مواقع النفوذ ويستحوذ على مواقع القوة والدعم والإسناد الخارجي.. وهذا ما أسس لكثير من الصراعات والحروب، كما أسس قبلها وبعدها لكثير من الاتفاقات والإطارات والمعاهدات والتشابكات الأمنية والعسكرية والاقتصادية التي أعاقت التنمية، ومنعت الازدهار الاقتصادي الحقيقي، وأسقطت حسابات التطور السياسي المدني الحقوقي.

هنا يكمن بالذات سبب تقاعس نظم العرب وانعدام فاعليتهم عن المواجهة والتأثير في كل ما يحاك ويرسم من مخططات لمنطقتهم، ومعاملتهم كهامش طرفي لا قيمة له رغم ما لديه من موارد وثروات.

واليوم ما نراه أمامنا من تعقيدات مشهد هذا العدوان الصارخ على دولة إقليمية كبرى مستقلة وذات سيادة، ولها علاقات مع كافة دول المنطقة ما عدا إسرائيل، لهو دليل بارز على خفة وزن العرب واستقالتهم من التأثير في معادلات المنطقة، فهم يريدون أن يظلوا مطمئنين على عروشهم المحمية، وحداثتهم القشرية المزيفة التي أدخلوا شعوبهم من خلالها في أنفاق الغرائزية الشهوية والغضبية المانعة لأي تفكير استنهاضي حضاري.

والمشكلة أن كثيراً من هؤلاء الحكام، لا يعون أن تداعيات ونتائج ما يجري اليوم في منطقتهم، لن يقتصر على دولة بذاتها، بل سيأتي بآثاره السلبية عليهم لاحقاً، والتي لن تتوقف عند حدود إيران فقط.. حيث أنه مع محاولات إلحاق هزيمة كبيرة بهذا البلد الكبير والجارية على قدم وساق من قبل إسرائيل والغرب الأمريكي، لن تتوقف التداعيات السلبية عنده، وستصبح إسرائيل سيدة الشرق الأوسط كله لا يدانيها في هذا المقام أحد، فهي التي تعين الأمراء والوزراء وتخلعهم، وقد تقرر من يذهب إلى الحج، ومن يشتري النفط، وأين تودع أمواله.. يعني أن الدور سيأتي على الجميع في تركيا وباكستان وحتى روسيا التي أشعلوا لها حرباً في أوكرانيا.. ولن تنجو الصين أيضاً التي لن تجرؤ على استرجاع تايوان بالقوة، أو بالدبلوماسية، وسيتم إنهاء طريق الحرير الذي تعمل عليه منذ سنوات.

إن ما خُطّط ويخطط للمنطقة كبير وخطير جداً، في ظل عقلية خلاصية عقدية تهيمن على رئيس أكبر دولة في العالم، مسكون بقناعة عميقة مفادها أنه مبعوث العناية الربانية لإنقاذ أمريكا، “لقد أنقذني الربُّ (من محاولة اغتيال) لأجعل أمريكا عظيمةً مرَّة أخرى“، لكن عبر البلطجة والتنمّر والإجرام المحلّي والعالمي وإشعال الحروب والفتن وبث الأكاذيب.. وهو بهذه العقلية يدعم دولة مسخ لا خلفية حضارية قيمية لها، تقوم على الأكاذيب والقتل والعنصرية واستباحة الحرمات والتنكيل بشعوب المنطقة، يترأسها شخص كذاب متغطرس ومجرم حرب.!!. وهو انكشفَ أمام الجميع، خاصة أمام شعبه الذي نتوقع أنه سيسقطه ويدفع به إلى محكمة لسجنه، لأنه دمّرهم من حيث أنه أراد أن يحميهم من دمار الغير.

إن دولة تقوم على القسر والظلم لن تستمر.. ما يستمر فقط هو منطق الحق والعدل.. وهذا ما أكدته سنن التاريخ الحاكمة، فالعدل إذا دام عَمَّر، والظلم إذا دام دَمَّر.. والعدالة هي سر بقاء الحضارات واستمرارية العطاء الإنساني وعياً وقيماً وحقوقاً وازدهاراً، وهي القوة التي تحفظ المجتمعات من الانهيار..

فالعدل ليس مجرد كلمة تُقال أو شعار يُرفع، بل هو روحٌ تسري في عروق الأمم الحية، تحفظ كرامتها وتصون عزتها.. وحين يكون العدل ثابتًا، يعمُّ الخير، وتنمو الأوطان، ويستقر السلام.. ونحن ما زلنا بعيدين عنه في منطقتنا التي يسودها الظلم (استبداداً وفساداً).. وهو ظلم، ما زال يسري كالنار، تأكل كل ما في طريقها، لا تُبقي ولا تذر، وينخر في جسد الأمة كالسوس، حتى تصل إلى مرحلة ستتهاوى أركانها، وتنهار أسسها وتتحطم معالمها.. ومع استمرارية الظلم، فلا ريب أنه ستستمر الفوضى والعبث، وسيفضي الأمر إلى الخراب، لأنَّ الظلم يولِّد الحقد، ويزرع بذور الفتن، ويُثير الغضب في القلوب والنفوس، ويدفع للتغيير الإيجابي الحتمي..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *