هامش ثقافي

 الخطاب الأدبي والخطاب الروائي..

بقلم غسان عبد الله

ولذا فالوسائل الكفيلة بتشريح الخطاب تتمثل في جميع الإجراءات المعرفية التي تساعدنا في استقراء النص وتتبّع جزئياته ونستعين في هذا بكل المعدات المعرفية التي أنتجتها العلوم الحديثة إضافة إلى معرفتنا الأخرى من نحوٍ وصرفٍ وبلاغةٍ ولسانيات ومعرفةِ الأصوات إضافة إلى الإجراءات النقدية الأخرى وما أفرزته الأسلوبية وعلوم اللسان.

فالخطاب الأدبي هو جسدٌ حيٌّ، لا بد أن نرهف السمع وندقِّق النظر في شكله ومظهره وأعماقه ونتحسس قلبه النابض ونفسر إشاراته ورموزه، فنقابل بين دلالاته ونستقرئ نسيجه النصي ونتتبع الحركة والصوت والإيقاع واللفظ والمفردة وقوة المدّ والدفع، وصعود النص وهبوطه المفاجئ ثم البحث عن قلب النص الجاذب للدلالات ثم البحث عن استحضار الأزمنة وتشابك الأحداث، ثم نقسّم النص إلى مقاطع تبعاً للنواة الدلالية الجاذبة للكل، ونتتبع المحاور ثم نمعن النظر في النسيج البنائي، والامتداد والتلاحم والانفتاح والانغلاق، والبحث عن الدلالة الاحتمالية الهاربة.

وبهذه الطريقة نتمكّن من معرفة أنظمة النص وولادته الفنّية، ولحظة الإصابة المباغتة للجرعة الفنية المثيرة التي يتقبّلها المتلقّي ويتفاعل معها ويتأثر ويؤثر ومن هنا نلمس القراءة المغذيّة المنتجة التي تعبّر عن تلاقح النصوص وهجرتها وتقاطعها وبعثها من جديد وهكذا هي العملية الإبداعية.

فالخطاب الأدبي هو أشبه بجسد عضوي له طابعه وشكله ووظيفته وقوته ومكامن الضعف فيه كما له مناعة خاصة يستجيب للعلاج بأدوية لا تصلح مع جسد آخر، فكلُّ خطاب يمتلك مفاتيح لا نجدها في غيرها من الخطابات الأخرى نظراً للتحولات التي تطرأ على النص في أبعاده الزمانية والمكانية والمادية والمعنوية حيث تتحوّل المقاطع البنائية إلى مؤّشرات رمزية تومئ بالدلالة وتطرح له رؤية وحلا.

هنا يتحول المتلقي إلى صانع للإشارة وقارئ لها ومشارك في معناها بعد أن بحث عن ما وراء هذه الكلمة خلف الستائر الضبابية.

أما الخطاب السردي فطريقة تحليله تنبع من مكوناته وخصائصه للوقوف على ثلاثة مقاييس: الزمن والرؤية والطريقة”. وإذا بحثنا عن الأنماط السردية في تراثنا العربي نجد النموذج الحكائي المعروف في ألف ليلة وليله أو النمط القصصي في القرآن الكريم، أو ما كتبه الجاحظ في كتابه البخلاء أو مقامات بديع الزمان الهمذاني.. “حدثنا فلان قال:…..”.

لكن هذه الأعمال يغلب عليها الطابع الحكائي الذي يسير في خط تتابعي مستقيم أساسه التدرج الزمني، أما الرواية أو القصة بمفهومها الحديث فلم يألفها الأدب العربي إلاّ في العصر الحديث إثر احتكاك الشرق بالغرب.

فالرواية عادة تبدأ من حيث تنتهي الحكاية وإجراءاتها النقدية في التحليل مستمدّة من بنيتها وتكوينها. فالأنماط الزمنية للسرد في الرواية متعددة الأشكال والألوان فنجد السرد اللاحق والسرد السابق والسرد المتزامن مثلما نجد السرد المتداخل، كما يلجأ الكاتب إلى تسريع زمن السرد بالاعتماد على الإيجاز والحذف والخلاصة وأحياناً يجد نفسه في حاجة إلى تبطيء زمنِ السَّرد بالوصف والحوار، ولكلِّ كاتبٍ روائي تقنياتُه الخاصة في استخدام هذه التقنيات المتعارف عليها في الخطاب الروائي، أما التحليل فلا يخرج عن هذه المناهج النقدية الحديثة المتمثلة في البنيوية والتفكيكية والسميائية، ولكلِّ كاتب روائي آلياته الخاصة في بناء الخطاب الروائي سواء من حيث تواتر الشخصيات ومراتبها السردية في النص أو في بنائها الداخلي ووظائفها السردية أو من حيث علاقة السارد بشخصياته أو في اعتماده على الأشكال السردية المتَّبعة حيث نجد السَّرد بضمير الغائب أو السَّرد بضمير المتكلم أو ضمير المخاطَب وكذلك في طريقة التعامل مع الضمائر كما يبقى المكانُ الشغلَ الشاغل للرواية المعاصرة التي نقلتِ المكان من مجرّد حيّزٍ جامدٍ إلى المكان الذي يسكن الإنسان ويمتزج بالأفكار ويترك حفرياته على الشخصية في سلوكها وثقافتها.

ويبقى الخطاب الروائي المعاصر مركز استقطاب الجميع نظراً لشموليته وقدرته على الكشف والاستكشاف في معرفة الذات والآخر ومحاورتها كما يعتبر الخطاب الروائي مرتعاً خصباً لتلاقح الذوات وحوار الحضارات وتفاعل الخطابات. كما ويبقى الخطاب الروائي الشغل الشاغل للكثير من الأدباء والنقاد والكتاب تبعاً لتنوّع المقاربات المتأثرة بمقولات المناهج الجديدة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *