إقليميات

نصرٌ بلا هزيمةٍ وهزيمةٌ بلا نصرٍ في العدوان الأمريكي على إيران

بقلم توفيق المديني

من وجهة نظر كبار المسؤولين الأمريكيين في إدارة ترامب، حقَّق العدوان الأمريكي على المنشآت النووية الإيرانية نجاحاً باهراً، إِذْ تمَّ تدمير بشكل تام وكامل ثلاث منشآت نووية في إيران، فيما خلص تقرير استخباري أولي أمريكي سري إلى أن الضربات الأمريكية على إيران أعادت برنامج طهران النووي بضعة أشهر فقط إلى الوراء، ولم تدمره كما قال الرئيس دونالد ترامب، الذي سارع كما كان متوقعاً، إلى إعلان النصر في أعقاب العدوان الأمريكي على المنشآت النووية الإيرانية، معلناً “تدميرها بالكامل”. وسارع نتنياهو في الكيان الصهيوني والمتملقون في الداخل إلى الإشادة بقراره “الشجاع” و”العبقري”.

ماذا حققت عملية “مطرقة منتصف الليل” لقصف المنشآت النووية؟

من أجل تنفيذ هذا العدوان الأمريكي لتحطيم المنشآت النووية الإيرانية، انطلقت في ظلام الليل الدامس، تسعٌ من أغلى الطائرات وأكثرها تطوراً في العالم، وهي قاذفة الشبح بي-2، المُخيفة، من فوق قاعدة وايتمان الجوية بعد منتصف ليل السبت21 يونيو الجاري، في رحلة جوية استغرقت 18 ساعة عبر نصف الكرة الأرضية، مع توقفات عدة لتزويدها بالوقود جواً، حسب ما أعلنه مسؤولون أمريكيون.

إِذْ خُطط لهذا العدوان وتدرب عليه الطيارون الأمريكيون قبل سنوات، لتنفيذ مهمة ستُخلّد في سجلات الطيران العسكري، كان هدفه المعلن إعادة تشكيل الشرق الأوسط، وإنهاء الحلم النووي لطهران بعد عشرات السنوات من المواجهة مع الغرب. وتحت جناحي كل طائرة من2B-، كانت هناك قنبلتان من أكبر القنابل التقليدية التي أُنتجت على الإطلاق، وهما (57GBU-)، أو قنبلة اختراق الذخائر الضخمة (MOP).

وفي الطريق إلى تدمير الحلم النووي لطهران، اعتمدت المهمة على عمليات خداعية عدة كان الهدف منها إبقاء العالم في حيرةٍ بشأن نوايا دونالد ترامب، وذلك عندما انفصلت طائرتان من طراز 2B- عن بقية المقاتلات، واتجهتا غرباً نحو المحيط الهادئ. ولم تكن وجهتهما إيران، بل غوام، وهي جزيرة أمريكية تقع في ميكرونيزيا الهادئ، وتضم قاعدة أندرسن الجوية، على بُعد 4000 ميل من إيران.

وأفاد بيان صادر عن المسؤولين الأمريكيين بأنَّ العدوان استخدم فيه 14 قنبلة خارقة للتحصينات، تزن كل واحدة منها 13.6 طن، وأنَّ العملية أُنجزت في ظرف 25 دقيقة. ويُعَدُّ مفاعل فوردو، ثاني موقع تخصيب نووي في إيران، ومصمم لإنتاج يورانيوم مخصب بنسبة نقاء 20%، إلا أنَّ مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية عثروا على عينات من اليورانيوم المخصب بنسبة نقاء 83.7% في المنشأة في 2023. وكان الموقع، قاعدة صواريخ إيرانية سابقة، وتقع على بُعد نحو 160 كيلومتراً جنوب طهران، إلا أنَّها محفورة في سفح جبل على عمق مئات الأقدام تحت الأرض. وعلى الرغم من أنَّها تضم أجهزة طرد مركزي أقل من نطنز، إلا أن تصميمها الجوفي يجعلها أقل عرضة للضربات الجوية.

وأوردت وسائل إعلام أمريكية الثلاثاء 24 يونيو2025، نقلاً عن أشخاص مطلعين على تقرير وكالة استخبارات الدفاع قولهم إنَّ الضربات التي نفذت الأحد 22 يونيو الجاري، لم تدمر بالكامل أجهزة الطرد أو مخزون اليورانيوم المخصب. ووفق التقرير فقد أغلقت الضربات مداخل بعض من المنشآت من دون تدمير المباني المقامة تحت الأرض. لكنَّ المتحدثة باسم البيت الأبيض كارولاين ليفيت شدَّدت على أنَّ هذا التقييم “خاطئ تماماً وكان مصنفاً سرياً للغاية وعلى الرغم من ذلك تم تسريبه”. وجاء في منشور لليفيت على منصة إكس أنَّ “تسريب هذا التقييم المزعوم هو محاولة واضحة للنيل من الرئيس ترامب وتشويه سمعة طياري المقاتلات الشجعان الذين نفذوا بشكل مثالي مهمة لتدمير برنامج إيران النووي”.

وقالت ثلاثة مصادر مطلعة لرويترز إنَّ تقييماً أولياً للمخابرات الأمريكية خلص إلى أنَّ الهجمات الأمريكية التي استهدفت المنشآت النووية الإيرانية في مطلع الأسبوع أخَرَّتْ برنامج طهران النووي بضعة أشهر فقط. وذكر اثنان من المصادر، وطلبا عدم الكشف عن هويتهما لتتسنى لهما مناقشة أمورٍ سرِّيةٍ، أنَّ التقرير الأولي أعدَّتْه وكالة مخابرات الدفاع، ذراع المخابرات الرئيسية لوزارة الدفاع (البنتاغون) وواحدة من 18 وكالة مخابرات أمريكية.

ويتعارض التقييم السرِّي مع تصريحات الرئيس دونالد ترامب ومسؤولين أمريكيين كبار، منهم وزير الدفاع بيت هيجسيث، إذ قالوا إنَّ هجمات مطلع الأسبوع، التي استخدمت مزيجاً من القنابل الخارقة للتحصينات والأسلحة التقليدية، قضت على أساس البرنامج النووي الإيراني. وقال ترامب إنَّ الهجمات كانت ضرورية لمنع إيران من تطوير سلاح نووي. وذكر هيغسيث يوم الأحد أنَّ الهجمات “محت” طموحات إيران النووية، بينما قال ترامب إنَّ المواقع النووية الإيرانية المهمة “قُضي عليها تماما وبصورة كاملة”.

ومن المتوقع أن يكون تقييم الأضرار التي لحقت بالمواقع النووية في فوردو وأصفهان ونطنز مهمة صعبة، ووكالة المخابرات الدفاعية ليست الوكالة الوحيدة المكلفة بهذه المهمة. وقال مسؤول أمريكي، تحدث شريطة عدم الكشف عن هويته، إنَّ الولايات المتحدة لا تعرف مدى الضرر حتى الآن. ومع ذلك، أشار التقييم الأولي إلى أنَّ الهجمات ربما لم تكن ناجحةً بالقدر الذي تتحدث عنه إدارة ترامب. وقال أحد المصادر إنه لم يتم القضاء على مخزونات اليورانيوم المخصب في إيران، وفي الواقع ربما يكون البرنامج النووي الإيراني قد تراجع شهراً أو شهرين فحسب.

إيران دخلت الحرب من دون حلفاء دوليين أو إقليميين

حقَّق الكيان الصهيوني هدفه بتدخل الولايات المتحدة الأمريكية إلى جانبه، في الحرب العدوانية الدائرة مع إيران، حيث رأت تل أبيب أنَّ واشنطن فقط من يمكنها تدمير البرنامج النووي الإيراني، من خلال قنابلها الخارقة للتحصينات وقاذفاتها الاستراتيجية التي لا يملكها الكيان الصهيوني. أهم المواقع النووية الإيرانية، هي منشأة فوردو لتخصيب اليورانيوم، إذ إنها تقع في الأعماق ووحدها أمريكا من تستطيع تدميرها وبالفعل تم استهدافها بعدة قنابل الأحد الماضي. وقد أظهرت صور الأقمار الصناعية أثار القصف الأمريكي عليها، لكنَّ الأضرار التي لحقت بها قيد التحقيق ولم يتم الجزم بها حتى اللحظة، إلا أنَّ معظم التقارير تشير إلى دمار هائل لحق بها.

أما إيران فقد واجهت هذه الحرب العدوانية بشجاعة، ولكنَّها وحيدة ومن دون تدخل القوى العظمى الأخرى روسيا والصين، وكذلك القوى الإقليمية مثل باكستان وكوريا الشمالية، على الرغم من ما يجمع كل هذه القوى من كراهية للنظام العالمي الليبرالي الذي تقوده الولايات المتحدة بصورة أحادية منذ نهاية الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفياتي مع بداية عقد التسعينيات من القرن الماضي.

على الرغم من الحرب العدوانية التي قادتها الولايات المتحدة ضد إيران، إلى جانب العدوان الصهيوني المتواصل على طهران، وتصريحات ترامب العلنية حول تغيير النظام، كلها عوامل وضعت الزعيم الروسي فلاديمير بوتين في موقفٍ صعبٍ. فقد اضطر إلى إدانة الغارات الأمريكية، فيما كانت قواته تمطر أهدافاً مدنية في أوكرانيا بالقنابل. العلاقة بين طهران وموسكو يمكن وصفها، في أفضل الأحوال، بأنَّها غير متكافئة، وهي لا ترتقي إلى مستوى التحالف الاستراتيجي.

صحيح أنَّ بوتين ندَّد علناً بالعدوان الأمريكي – الصهيوني على إيران، وكذلك الأمر بالنسبة للصين، بيد أنَّ روسيا والصين يدركان أنَّ التصريحات اللفظية وحدها المندّدة بالعدوان لا تجدي نفعاً. فقد دخلت إيران الحرب وحيدة من دون دعم ومساندة من جانب حلفاء دوليين وإقليميين في مواجهة الإمبريالية الأمريكية والعالم الغربي المؤيدين بقوة للكيان الصهيوني. وقد بان بالمكشوف أن مستوى العلاقات بين إيران وكل من روسيا والصين لا يرتقي إلى مستوى التحالف الاستراتيجي الذي تؤطره معاهدات دفاع مشترك في حال تعرضها للعدوان.

في السابق طرحت روسيا على إيران معاهدة حماية نووية كما قامت بها روسيا بالنسبة لجارتها بيلاروسيا، لكن طهران رفضت تلك الحماية، لأنَّها تتناقض مع مبدأ السيادة. أما العلاقات الإيرانية – الصينية فهي لم تتعد مستوى الشركة الاقتصادية المؤطرة بمعاهدة استراتيجية لمدة 25 سنة للاستثمار في مجال النفط والغاز، لكنها تقف عند هذه الحدود، فالصين ترفض الدخول في حروب مع الولايات المتحدة، وهي مندمجة كلياً اقتصادياً في النظام العالمي الرأسمالي الليبرالي، وهي تريد المحافظة على خطوط التوريد الصينية ومشروع الطريق والحرير، لكنَّها سياسياً تحافظ على الدولة الوطنية شديدة المركزية التي يحكمها الحزب الشيوعي الصيني، وتطال ضمن رؤيتها الجيو استراتيجية للتحول من الأحادية القطبية الدولية الأمريكية إلى التعددية  القطبية الدولية التي تنتهي فيها الهيمنة الأمريكية على العالم.

ومما يجب ملاحظته التطور المهم الذي حدث في السياسة الخارجية الباكستانية، من ناحية أن باكستان أدركت بأنها تتعرض لتهديدات كبيرة من دولتين حليفتين للولايات الأمريكية المتحدة، هما الهند التي تجرّأت على انتهاك الأجواء الباكستانية وقصف مواقع في داخلها وقتل عدد من السكان، والكيان الصهيوني الذي صرح زعيمه المجرم نتنياهو بأنه بعد إنهاء الدور الإيراني سيتجهون إلى إنهاء دور باكستان وتدمير سلاحها النووي. 

لقد أدى هذا الإدراك الباكستاني إلى تعميق تقاربها التقليدي مع الصين في مواجهة الخصم الهندي القديم المشترك، والاعتماد على السلاح الصيني ضد السلاح الأمريكي الأوربي الذي تملكه الهند، وذلك على الرغم من علاقاتها الوطيدة مع الولايات الأمريكية المتحدة. وضمن هذه التحالفات الجديدة ضد الهيمنة الأمريكية أظهرت باكستان علانية تأييدها لإيران وباتت الأخبار التي تفيد بوجود عمليات توريد السلاح والمعدات الحربية من الصين وروسيا عن طريق باكستان غير خافية عن المتابعين، وذلك لا شك سيعين إيران على صمودها في مواجهة الجبهة الداخلية الإسرائيلية المتداعية.

خسائر الكيان الصهيوني

أكد الإسعاف الإسرائيلي أنَّ الحرب مع إيران خلّفت أكثر من 150 قتيلاً، وأكثر من 1300 مصاب، الأمر الذي أثار تساؤلات بشأن قدرة الدفاع الجوي في الكيان الصهيوني على توفير حماية كاملة من الهجمات الصاروخية. وشهدت الحرب استهداف الداخل الإسرائيلي بضربات صاروخية تعتبر من الأشد في تاريخه، ما تسبب في دمار في عدد من المدن وخسائر اقتصادية، تقدر بنحو 4 مليارات من الدولارات. وبحسب التقارير، فقد كلفت الحرب “إسرائيل” مئات الملايين من الدولارات يومياً، إذ تعتبر كلفة الصواريخ الاعتراضية التي تتصدى للصواريخ والمسيرات الإيرانية كبيرة جداً، وتصل كلفتها إلى 200 مليون دولار يومياً، وفق تقديرات خبراء. ويقدر خبراء كلفة إصلاح المباني المتضررة في إسرائيل لاسيما تل أبيب وحيفا وبئر السبع بأكثر من 400 مليون دولار.

خسائر إيران

كشفت كل من إسرائيل وإيران، الثلاثاء، عن خسائرهما في حرب الـ 12 يوماً، التي انتهت بعد إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب موافقة الطرفين على وقف تدريجي لإطلاق النار يبدأ قرابة الساعة الرابعة فجر الثلاثاء. وأسفرت أعنف مواجهة عسكرية بين إيران وإسرائيل بدأت في 13 يونيو/ حزيران الجاري، عن مقتل العشرات من القيادات العسكرية والنووية لطهران، الذين جرى استهدافهم واحداً تلو الآخر في الحرب.

بلغ عدد ضحايا الهجمات الإسرائيلية بين المدنيين الإيرانيين 627 أشخاص، فيما أصيب 4870 جريحاً، بحسب حصيلة جديدة أصدرتها وزارة الصحة الإيرانية. ومن بين القتلى 13 طفلاً، أصغرهم رضيع يبلغ شهرين، بحسب وزارة الصحة، بالإضافة إلى 5 أطباء أو مسعفين قتلوا في الغارات الإسرائيلية. كما أفادت وزارة الصحة الإيرانية بتضرر سبعة مستشفيات، وتسع سيارات إسعاف جراء الضربات الإسرائيلية.

اغتيال قيادات عسكرية

على الصعيد العسكري، قتل أغلب القادة العسكريين من الصف الأول خاصة في اليوم الأول للعدوان الصهيوني، على رأسهم رئيس الأركان محمد حسين باقري، وقائد الحرس الثوري حسين سلامي، فضلاً عن قائد مقر “خاتم الأنبياء” علي شادماني بعد أيام قليلة على تعيينه، وغيرهم العشرات. وذكرت مصادر إسرائيلية أنه تم اغتيال 30 قائداً عسكرياً إيرانياً رفيعاً، كما قتل أكثر من 17 عالماً نووياً خلال الهجمات على إيران.

خاتمة: فبعد 12 يوماً على الحرب بين الكيان الصهيوني وإيران، وبعد العدوان الأمريكي على المنشآت النووية الإيرانية، بدأت القيادات العسكرية في “إسرائيل” تكتشف أن “النصر الخاطف” الذي تباهت به في الساعات الأولى انقلب إلى هزيمة استراتيجية. فما دامت إيران لم تخرج مهزومة من هذه الحرب غير المتكافئة، فهي تعَدُّ منتصرة.

وفقاً للرؤية الأمريكية والصهيونية، لا تزال إيران متمسكة بالمشروع النووي الذي يهدف في المقام الأول إلى ضمان بقاء النظام، وبناء قوة إقليمية إيرانية حديثة في إقليم الشرق الأوسط، من خلال توافر خياراتها: السيطرة على الجناح الجنوبي الغربي المحيط بالخليج العربي، بما في ذلك مضيق هرمز الاستراتيجي، والسيطرة بذلك على أحد أكبر مصادر إنتاج وتصدير النفط في العالم. ولذلك، تسعى إيران لتحقيق طموحاتها، إلى توسيع نفوذها ليشمل البحر الأحمر ومضيق باب المندب واليمن من خلال دعم الحوثيين.

في ضوء هذه الحرب بين إيران وإسرائيل وأمريكا، ومع دخول الدول العربية في تحالفات ضمنية أو علنية مع الكيان الصهيوني، حيث باتت  الشعوب العربية تتهم الأنظمة العربية في إقليم الشرق الأوسط بالخيانة القومية، بسبب ارتمائها في أحضان الإمبريالية الأمريكية، والاستمرار في علاقات التبعية معها، ومنحها إقامة القواعد العسكرية على أراضيها، إذ يوجد الآن حوالي 50000 جندي أمريكي في هذه القواعد، وهو ما يتناقض  مع مبدأ السيادة السياسية والمصالح القومية، لا سيما في ظل الدعم الأمريكي المطلق للكيان الصهيوني، والتغيرات الجارية في الرأي العام العربي والدولي، وتزايد الضغوط الشعبية المناهضة للكيان الصهيوني بسبب جرائمه الوحشية الموثقة في غزة، في ضوء كل ذلك، تصبح إيران في نظر العرب والمسلمين القوة الإقليمية الصاعدة التي استطاعت أن تواجه بمفردها الإمبريالية الأمريكية و”إسرائيل” ، حيث يجب مساندتها، والوقوف إلى جانبها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *