فضاءات فكرية

التّطرفُ الدّيني في البِنْية والدّافعِ وَسُبُل العِلاْج

بقلم: نبيل علي صالح / كاتب وباحث سوري

ويأتي موضوع التطرف وبالذات منه التطرف الديني، ليكون أحد أهم تلك النوافذ والعناوين التي أطل من خلالها الآخر (خصوصاً الغربي الأمريكاني) ليتحكّم ويستحكم ويهيمن، فيتلاعب ويستبيح ويقرر ويدير أزمات المنطقة وجروحاتها النازفة..

لقد عاد موضوع التطرف الديني (الإسلامي!) ليكون حديثَ الساعة والشغلَ الشاغل لكل المواقع والفواعل السياسية والاجتماعية، خاصة خلال العقدين الأخيرين؛ وتكاد لا تخلو ندوةٌ فكرية أو جلسةٌ سياسية أو منتدى أو ملتقى، إلا ويحظى هذا الموضوع بالحيز الرئيسي فيها في المستوى السياسي والإعلامي، لتجد الكل يقاربه من زاوية، ويهجس به، ويحلل عنه، ويخلص إلى رؤى واستنتاجات حوله.. ولعل التغيير السياسي الذي حدث في سوريا منذ نهاية العام الماضي 2024م، قد أسهم بقوة في هذه العودة، مع إعادة النظر وتسليط الضوء على موضوعة التطرف الديني.

إن الحديث عن أي موضوع يتصل بحركة المجتمع وما يعانيه من مشكلات تقف حجر عثرة أمام تطوره ونهضة أفراده، يلزمنا بضرورة النفاذ البنيوي الموضوع للبحث عن أسباب حدوث تلك المشكلات وعلى رأسها مشكلة التطرف الذي لم يتفجر هكذا لوحده من دون مقدمات ثقافية ومجتمعية وتاريخية وحتى سياسية أسهمت في تفجره وتحوله فعلياً لمشكلة حقيقية عانت منها كثير من بلداننا العربية والإسلامية، وما زال بعضها مرتهناً لتلك المشكلة – الأزمة.

فقد كان لطبيعة الظروف الاجتماعية والاقتصادية الصعبة والمعقدة التي عاشتها وتعيشها مجتمعاتنا وشعوبنا العربية (من فشل تنموي، وعقم سياسي ناتج عن هيمنة نظم سلطوية ديكتاتورية شمولية) الدور الأكبر على المستوى الداخلي في نشأة واندفاع هذه الظاهرة التي يمكن عدها – على الرغم من طول إقامتها نسبياً عندنا – حالة شبه طارئة، مرهونة بشروطها وظروفها الخاصة، التي ما إن ترتفع، ستبدأ بالانحلال والذوبان والتلاشي، لتعود الأمور إلى طبيعتها البشرية على مستوى الحوار والتعارف والتفاعل الخلاق والمبدع بين البشر: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾ ]الحجرات: 13[.

وبطبيعة الحال ليس للتطرف طابعه النمطي الهيكلي الخاص، بدين أو طائفة أو مذهب، بل هو (لدى أتباعه والقائلين به) حالة رفض للآخر، المختلف فكراً وانتماءً وقناعات سلوكية.. رفضٌ يصل حد استعمال القوة والعنف بهدف التأثير والتحوير والنقل الإجباري للآخر من حال مكروهة إلى أخرى مقبولة لدى أتباع الفكر المتطرف.

والتطرف ليس له أيضاً طابعه الديني البحت، وهو لا يضرب الأيديولوجيا أو الفكر الديني كفكر خاص بعينه، بل يمكن أن يضرب أي فكر بشري حتى لو كان فكراً علمانياً وضعياً.. فكثير من الحركات اليسارية القومية والماركسية العربية وغير العربية سبق لها أن آمنت بالفكر “الانقلابي” و”المشروعية الثورية” الدموية، ورسخت مبدأ استعمال أدوات العنف بغرض الوصول إلى نعيم السلطة والبقاء فيها، والدفاع عنها بلا هوادة، بل وما يزال بعضها على قناعاته (الانقلابية الثورجية) السابقة حتى الآن، بالرغم من النتائج الكارثية والمآسي الطويلة وتدمير المجتمعات، وقتل الحجر والشجر والبشر بهدف تأبيد الملك والسلطان والصولجان.

لقد أدت هيمنة ظروف التخلف الفكري، وطول مراحل عصور الانحطاط الاجتماعي التي مرت علينا في تاريخ هذه الأمة، بعدما دمرت بغداد كحاضرة للعلم والثقافة الإسلامية سابقاً، وتفرق المسلمون، وتكرست تقاليد الاتباع والتقليد الأعمى، وأُلغي دور العقل كأحد أهم منافذ وممكنات الفعل والبناء والتطوير، وبالتالي أُقفلت أبواب الاجتهاد وسبل التجديد، كلها أدت إلى تكديس ومراكمة طبقات التخلف تاريخياً طبقة فوق أخرى حتى وصلنا إلى حالة فقدان الوزن التاريخي، واختلال حركة الفرد في مجتمعه، ليعيش (هذا الفرد) حالة التناقض بين ثقافة دينية (مؤمن بها، ومهيمنة عليه، وثابتة لم تتغير ولا يخالطها أي تعديل) وبين واقع خارجي هو في حالةٍ مستمرة من السيرورة، يتطور ويتبدل (له أسئلته وإشكالاته الدائمة) رغماً عن قناعات واعتقادات (هذا الفرد) من دون الحصول على إجابات دينية واضحة وحاسمة على تلك الأسئلة – الإشكالية، وبما لا يلبي – في حال توفر بعض الإجابات –  بالحاجات الجوهرية والأساسية لمعتنقي الدين، لتكون النتيجة: فقدان القدرة لدى هذا الفرد المسلم على العمل والفعل والتأثير، وبلوغ حالة الشلل والعجز عن الحضور والإنتاج والابتكار في زمانه ومكانه، والبقاء (الغريزي) ضمن قوقعته الهوياتية وعالمه الذاتي الخاص الذي يخاف أن تنتهك حرماته (المقدسة) بالتغييرات الخارجية الهائلة الحجم والتأثير والاندفاع.

وهكذا تشكلت ثقافات دينية تقليدية موازية (للثقافة الدينية الرسمية المرضي عنها من قبل السلطات وحكام الزمان).. ثقافة ثابتة متراصة، رافضة للواقع الخارجي المتبدل، تكرسه في طروحاتها كعدو تكفيري، فكراً أم شخصاً.

ووصلت الأمور إلى ذروتها – على هذا الصعيد (التكفيري التطرفي) – من خلال الضغط غير المحتمل الذي اتبعت (سبلَه القمعية والدموية الواسعة) السلطاتُ الرسمية العربية والإسلامية، الأمر الذي دفع بالمتطرفين من مختلف الانتماءات التكفيرية المذهبية، إلى مزيد من التشدد والرفض، والتمسك بالمنهج المتطرف المغالي، والانغلاق على أفكارهم الخاصة التي لا شكّ بانحرافها وغلوّها الاجتماعي والحياتي، أو سعيهم للهروب إلى المنافي أو العمل تحت الأرض بعيداً عن العلنية والكشف والإظهار.. والناس عندنا تحب وتعشق الفكر الشهيد والعقائد الشهيدة خاصة منها الاصطفائية الخلاصية الناظرة إلى عوالم أبدية مما لا يخطر على بال بشر.

وللأسف لم يعتمد أسلوب الحوار ﴿وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾]العنكبوت: 24[ بين كل الأفرقاء (شخوصاً وجماعات)، فلا السلطات (التي استأثرت بالسلطة والقرار والمصير وتوسلت بأدوات القوة والعنف) اعترفت بالإسلاميين (من حملة فكر ونهج الإسلام السياسي) وقبلت محاورتهم، ولا المؤسسات الدينية الرسمية مضت في مراجعاتها العقلانية النقدية للتراث النقلي والفقهي والكلامي، بل جلّ ما كان يهمها هو استمرار مصالحها، وتجذير علاقاتها مع السلطات الرسمية الحاكمة.

وعندما نتحدث عن العنف الرسمي العربي، ونعطي رموزه (الرسميين) السهم الأكبر في رصيد المسؤوليات، فهذا لا يعني أننا نبرر للإسلاميين تطرفهم وعنفهم المرفوض والمدان بطبيعة الحال، ولكننا نحاول شرح ومقاربة الظاهرة بكل ملابساتها وتعقيداتها، خصوصاً الجانب المتصل بمسؤولية الطغيان والاستبداد عن نمو ظاهرة التطرف، وتوسيع منافذها من قبل نخب ورموز الحكم العربي المستبد، واستثمارها لمصالحهم السياسية في البقاء والاستئثار.. وتكريس هذا الزمن السياسي الاستبدادي العربي المزمن (المدعوم من القوى الدولية الكبرى منذ عقود زمنية طويلة)..

بل وأكثر من ذلك، حيث أن العنف المرتكب تاريخياً من قبل مؤسسات الدولة التحديثية العربية (دولة القبيلة والغنيمة)، بمختلف أجهزتها الإكراهية المعروفة، بحق ناسها ومجتمعاتها وأبنائها، كان كافياً لتعقيم كل بذور الخير والمحبة والأمان والفعل والإنتاج لدى إنساننا العربي المسلم، وأنا أقول بأنه عنف جعل من هذا الإنسان العربي مجرد “رجع الصدى” لأصوات غيره، بل جعله “مشروع تطرف” دائم بحق نفسه ومجتمعه ودولته ومؤسسات بلده.

إن الظروف الخارجية الصعبة قد تدفع المرء في كثير من الأحيان – نتيجة شعوره بالظلم والتمييز والحرمان – إلى اللجوء لأساليب ومناهج عمل متطرفة وعنيفة قد تكون خياره الأخير نتيجة حشره في الزاوية.. ولكن بالإطار العام تربتنا الفكرية والتاريخية ومجالنا الحضاري الثقافي بمجمله كان مناخاً ملائماً وداعماً لنمو بذور العنف، ولهيمنة العنف والتطرف والتعصب الديني القائم على احتكار الحقيقة والنظر بقداسة مطلقة لفكره واجتهاده ومنع الآخر من انتقاده، بل وإرغامه على الاقتناع به وإلا فالسيف البتار.

وأما اليوم لا حل مطلقاً لأزمتنا الراهنة (أزمة التطرف الديني كوجه آخر لأزمة الاستبداد السياسي) والتي يستحضر فيها عنصر التطرف بقوة بعيداً عن أحد أهم مسبباتها وهو الجانب السياسي.. أقول: لا حلّ من دون النظر والعمل على مسلكين اثنين:

الأول: علاج أزمة الدولة العربية المستعصية على الحل، وهي أزمة الحكم السياسي، والمواطنة المغيّبة.. وذلك من خلال العمل على إقامة الدولة المدنية العربية، دولة المواطنة والحكم الصالح، دولة القانون والعدل والمساواة.

الثاني: الاستمرار في إعمال حركة النقد في مختلف قضايا التجديد الديني.. ومساءلة التراث عقلياً، بهدف ربط الدين بالواقع، ربطاً واقعياً، لا ينزل فيه الدين إلى مستنقعات السياسة، ولا يرتفع إلى فضائه الغيبي بلا هدف ولا معنى، بما يتناسب مع “مقاصد” النص الديني وغاياته ذاتها والمتمثلة في حماية النفس والذات وتركيز أسس الحياة العاقلة الفاعلة، على مستوى الغايات والقيم والمبادئ، بحيث تكون عملية التجديد هي عبارة عن “جدلية مستمرة بين النص والواقع، صعوداً من الواقع إلى النص، ونزولاً من النص للواقع.

ونحن – من موقعنا كمثقفين مشتغلين على قضايا النقد والتجديد الديني – سنبقى ندعو ونكرر الدعوة إلى عقلنة التفكير الديني، وتطوير الخطاب الثقافي التاريخي الإسلامي بما يتناسب والتطورات والمستجدات والتحولات الزّمكانية (الزمان والمكان)، وهذا أمرٌ – في نظري – مقدورٌ عليه عقلاً وعلماً وتفكيراً موضوعياً، طالما أن العقل موجود، والمقدمات والبديهيات العقلية قائمة ولا شك لدى الكثيرين، والمصلحة الإنسانية هي الأَوْلى بالاتّباع دائماً وأبداً.

إن التطرف الإسلامي الحالي يبدو لي أشد تأثيراً وخطراً من أي فكر حاد ومتعصب آخر قائم أو مرّ في تاريخ هذه الأمة، لأنه يخلع على نفسه عبادة الدين والتعالي الإلهي.. ولكي ننزع عنه هذا القناع الرهيب الذي يخدع الجماهير بالملايين، يلزمنا نحن المثقفين العرب، بذل جهود جبارة على مستوى تركيز الحركة النقدية المعرفية لأفكارنا وتراثنا، وتنقيته من مجمل طروحات وأفكار التعب والتطرف والتفكير الحاد الذي لا يقبل حتى بأخيه في الدين.. ولمن هذا العمل النقدي لا يكفي، إذ لا بدّ أنْ يتكاملَ مع عملٍ واشتغالٍ سياسي مجتمعي آخر، وهو بناء الدولة المدنية المؤسسية القوية والعادلة القائمة على الحقوق والتداولية والتشاركية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *