
الفلسفةُ جوابٌ مفتوحٌ على سؤالٍ متجدّدٍ..
بقلم غسان عبد الله
من غريب الصدف أن تتحول الفلسفة عند البعض من نطاقِ المعرفة إلى الفنِّ وفنِّ العيشِ بالتحديد!.. هذا الانتقال الذي يؤسس له البعض، وهذا الدور الترياق الذي يُرادُ للتفلسف أن يلعبه هو قشيب مأخوذ من حقولٍ بعيدةٍ عن جوهرِ التَّفلسف، فمتى خرجتِ الفلسفةُ عن السُّؤال كانت مجرّد نسيج منثور يتوسّل المجازَ والشعريةَ عوناً على تقمُّص هذا الدور.
قد لا يعيبُ المتفلسف أن يكون شاعراً أو حكّاءً وهي من سماتِ بعضِ الفلاسفة على الأقل، لكن من غير المألوفِ أن تطغى الأدبيةُ فتتّجه الفلسفةُ إلى نكرانِ تعلُّقها بالواقع والمنطقية العقلية وتتلمس الخلاص من الأدبية.
قد يتساءل البعض عن الحدود الفاصلة بين الأدب والتفلسف!.. الأدبيةُ هي نسجُ الكلامِ جمالياً، والتّفلسُف هو نسجُ الكلامِ برهانياً، والحكم الجمالي ذاتيٌّ أو يغلِبُ عليه الحسُّ المشترك، لذلك لا يطالُهُ البرهانُ ولا نتساءلُ عن مدى صدقيةِ الحكايةِ أو القصيدةِ، بقدر ما تشدُّنا إليهما تلك اللمساتُ الفنيةُ التي صيغ فيها الكلام ليأخذ بعداً جمالياً.
لكنَّ التّفلسُفَ ينطلقُ من السؤالِ وبه يبحثُ عن صدقيةِ الأجوبةِ المتاحةِ وعن سلامةِ الاستدلالاتِ التي تقدِّمُ الجوابَ كتحصيلِ حاصل. فمتى كانت الاستدلالاتُ متينةً والجوابُ لا يرقى إلى الصدقيةِ، تُوضع المنطلقاتُ موضعَ السؤالِ كما في البرهانِ بالخلفِ، لكنَّ الفيلسوفَ لا يكتفي بالهدمِ وهذا يستوجبُ عليهِ إعطاءَ الجوابِ، وكلُّ جوابٍ هو في المحصّلة تابعٌ للبداية. وقابلٌ للتكذيب. وهكذا يسيرُ التّفلسُفُ باحثاً عن الحقيقة التي وإن صَعُبَ القبضُ عليها فهي قيدُ الإمكانِ وإلا اضطررنا اضطراراً إلى التخلُّص من الوعي كفاعلٍ وشَطْبِ اللغةِ كعالم مفارق.
تستند ثقافةُ الاستسلامِ إلى غيابِ المعنى أو كما يحبُ البعضُ أن يسمّيه بالمأساةِ أو الخيبةِ، وتكون الفلسفةُ هنا هي مجرّدَ وسيلةٍ لتقبُّلِ الواقعِ المتوَّهَم بأنه واقعُ خيبةٍ وواقعٌ شريرٍ أي أنّ الإيجابيةَ كلَّ الإيجابيةِ هي في تقبُّلِ هذا الهوانِ واللاجدوى، وتأتي هذه المقاربةُ ضدّاً على التوجُّهات الخلاصية التي تأسّست عليها فلسفةُ عددٌ من الفلاسفة الغربيين. وحتى هذه النزعة الفنية في الفلسفة، قد تكون الحتميةُ المتطرفةُ أنتجت من المآسي ما به يتذمّر العقلُ الغربيُّ من المقاربات الخلاصية ونزع إلى العدميةِ الصارخةِ ومن خلالها يتمُّ تبريرُ الفشلِ بل ما يَصطلح عليه البعضُ بتزويق الفشل. لأن الانهزام في اللعبة خفيفُ الوقعِ وتكرارُ المحاولةِ فيه بعضُ استمتاعٍ باللعب، قد تكون اللعبةُ متاحةً في الأدبيةِ حيث تكتسبُ اللعبةُ قيمةً جماليةً، لكنّ أصالةَ القيمةِ مرتبطةٌ أكثر بالمعنى الواقعي.
هذا الانحدارُ بالفلسفةِ إلى مجرّدِ رؤيةٍ أسطوريةٍ فيه قلبٌ للحقائقِ وفيه نزوعٌ إلى مسرحةِ الحياة وهو استسلامٌ فاضح للإنسان.
لم تكن المعرفةُ يوماً استسلاماً بل كانت على الدوام تحكُّماً في الوضعِ بل أكثر من ذلك هي انفتاحٌ على الأفقِ الجديدِ، فالفلسفةُ جوابٌ مفتوحٌ على سؤالٍ متجدّدٍ تجدُّدَ الإجابات، وبُعدُها المعرفيُّ لا مَحيدَ عنه حتى ولو تناولتِ السياسةَ والأخلاقَ والفنونَ فهي تتناولها معرفياً. فالفلسفةُ مرتبطةٌ بالوعي وليست بديلاً عن العملِ والإنجازِ وفنِّ العيش.
قد تكون مآسي العصر كما معارِفُهُ تصدِّع الكثيرَ من الرؤوس وباتت شبهَ عاجزةٍ على تفسيرِ تنامي المعارفِ وتناسلِ المآسي، وهما خطان شبهُ متلازمَيْن في عصرٍ كالذي نعيشُهُ، فكما يزدادُ الغنى يزدادُ الفقرُ وكما يزدادُ منسوبُ الأملِ في الاختراعاتِ تزدادُ الرهبةُ منها ومن التوظيفِ التّدميريّ لها، وكلما أصبحتِ الحياةُ سهلةً تعقدت أكثر وهي متناقضاتٌ تشيرُ إلى صعوبةِ التَّحكُّمِ في هذا المحصولِ، فهذا لا يبرِّرُ أن تكونَ الحياةُ مأساةً ويكون الاستسلامُ حلاً.
ليستِ الحياةُ مأساةً وليست جنةً بل هي تأرجحٌ بين الطرفين دون أن تصل إلى أي منهما، والفلسفة مبتدأها ومنتهاها هو معرفةُ هذا العالم أي تنميةُ الوعيِ بهذا العالمِ ومن خلال فَهْمِ العالمِ يمكن التفاعلُ معه وفقَ رؤيةٍ جادةٍ فاعلةٍ وليس رؤيةً انهزاميةً مستسلمةً، فالفلسفة تؤسس للفعلِ الواعي وليست عزائيةَ المقصد.
حاولت العلوم الإنسانية التقليدية إعادة مأسسة ماهية الإنسان على العلمية وهرب بعضُ الفلاسفة من هذه الخطة هروبه من الإنسان إلى الوجود الراسخ والمستمر والمتجدد، فهذه خاصيّة وجود الإنسان عن بقية الموجودات، – بشكل مبسط هو الوجود هنا وفقط – ، وهو وجود من أجل الموت. هذا الهروب من الحياة إلى العدم وهذا الهروب من العلمية أفرغ الإنسان من عدّة مقومات كانت ولا تزال أسساً فعليةً للوعي البشري، طبعاً ما أن تهرب من العلم واللغة والعقل فبالضرورة ستفقد السيطرة وتنتظر الموت وتكون الأدبيةً كلعبةٍ بديلاً عن التفلسف!.