فرنسا تنسحب من السنغال.. انحسار النفوذ الفرنسي يتواصل في القارة الافريقية
بقلم ابتسام الشامي
بخروج قواتها من آخر قاعدتين عسكريتين لها في السنغال، تكون فرنسا قد طوت وجودها العسكري من إحدى أهم مستعمراتها في القارة الافريقية، وعلى الرغم مما رافق الانسحاب من مظاهر احتفالية..
إلا أن الخطوة تعكس تراجع النفوذ الفرنسي في القارة السمراء بعدما اضطرت باريس إلى إنهاء وجودها في عدد من دول الساحل الافريقي بقوة دافعة من تيار استقلالي يتمدد في عموم القارة.
النفوذ الغربي في افريقيا إلى انحسار
يواصل النفوذ الفرنسي في القارة الأفريقية تسجيل تراجعه وانحساره، بعد عقود طويلة من الزمن، سطا خلالها المستعمر التقليدي على قرار دولها وثروات شعوبها. وإذا كانت حماوة الصراعات العسكرية في غرب آسيا وقلب أوروبا، مضافاً إليها الحروب التجارية الأمريكية، قد خطفت الاضواء والاهتمام العالمي، فإن ما يجري في افريقيا لا يقل أهمية عن تلك الاحداث بالنظر إلى ما تنطوي عليه من تحولات عميقة في ميزان القوى العالمي، في ظل محاولة الاستعمار “القديم” ممثلا بالدول الغربية وفي مقدمها فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية، تثبيت حضوره والحفاظ على “امتيازاته” التقليدية، في مواجهة “مد استقلالي” شعبي عبر عن نفسه بأشكال مختلفة من الحكم وطرق الوصول إلى السلطة في بلاده، سواء بالانقلابات العسكرية ضد الانظمة الحاكمة، أو عبر صناديق الاقتراع. على أن تعدد الوسائل هنا، لم يغير في جوهر الهدف وهو إزاحة الاستعمار، واستعادة الدول سيادتها وقرارها السياسي. وهو ما ترجمته عملياً كل من مالي وبوركينا فاسو والنيجر، قبل أن تنضم السنغال إلى ركب طرد الاستعمار من أراضيها. وإذا كانت عملية الطرد قد جرت صاخبة في الدول الثلاث الأولى المذكورة، إلا أنها بدت مع الأخيرة أكثر هدوءاً، كونها جاءت عبر صناديق الاقتراع التي أوصلت الرئيس الحالي باسيرو ديومايي فايي في تشرين الثاني 2024 حاملاً وعداً لناخبيه بإنهاء الوجود العسكري الفرنسي والأجنبي على الأراضي الوطنية بحلول العام 2025.
احتواء صورة التراجع
إنهاء الوجود العسكري الفرنسي في دولة السنغال، التي تسمى أيضاً في غرب أفريقيا “باريس الصغيرة”، لا يمكن فصله عن سياق اضطرار فرنسا للانسحاب من أكثر من 70٪ من الدول الافريقية التي تواجد بقواها العسكرية فيها خلال عقود طويلة من الزمن، لكن باريس حرصت على تظهير الانسحاب بطريقة مختلفة عن باقي الدول عبر اتفاق مع داكار قضى بوضع برمجة زمنية للانسحاب، في محاولة لاحتواء صورة انحسار النفوذ الفرنسي في القارة السمراء. وفي بيان مشترك أصدره وزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو ونظيرته السنغالية ياسينة فال في شهر شباط الماضي، أعلن اتخاذ قرار بإنشاء لجنة مشتركة لتنظيم شروط انسحاب القوات العسكرية الفرنسية من السنغال واستكمال نقل المنشآت العسكرية الفرنسية من البلاد بحلول نهاية عام 2025. وتضمن البيان الاشارة إلى أن البلدين “يخططان للعمل على تعاون جديد في مجال الدفاع والأمن يأخذ في الاعتبار الأولويات الإستراتيجية لجميع الأطراف”.
محاولة احتواء صورة التراجع، حضرت بقوة أيضاً في إخلاء آخر قاعدتين عسكريتين في البلاد، وخلال مراسم وصفها الإعلام بالتاريخية، سلم الجيش الفرنسي معسكر جيلي، وهو أكبر قواعده في السنغال، إلى جانب منشأة جوية مجاورة، إلى الحكومة السنغالية خلال مراسم أقيمت في العاصمة داكار. ووضع قائد القوات الفرنسية في أفريقيا الجنرال باسكال ياني، عملية التسليم تلك في إطار “تشكل مرحلة جديدة في العلاقات العسكرية بين الجانبين”. وقال خلال مراسم التسليم إن “هذه الخطوة تندرج ضمن قرار فرنسا بإنهاء وجود قواعد عسكرية دائمة لها في غرب ووسط أفريقيا، وتلبية لرغبة السلطات السنغالية في عدم إبقاء قوات أجنبية دائمة على أراضيها”.
بدوره رئيس أركان الجيش السنغالي، الجنرال مباي سيسيه، اعتبر أن الانسحاب يدعم استراتيجية الدفاع الجديدة للبلاد. مشيرا إلى أن “الهدف الأساسي من الاستراتيجية هو ترسيخ استقلالية القوات المسلحة السنغالية، مع الإسهام في تعزيز السلام على مستوى الإقليم، وأفريقيا، والعالم”.
نهاية الوجود العسكري في السنغال
وبمعزل عن الصورة التي إرادتها فرنسا لانسحاب نحو 350 جنديا فرنسيا من السنغال الواقعة غرب أفريقيا، إلا أنه يطوي صفحة جديدة من الوجود الفرنسي في القارة الإفريقية، حيث احتفظت باريس بوجود عسكري في مستعمرتها السابقة منذ حصولها على الاستقلال عنها عام 1960، وذلك بموجب اتفاقيات التعاون العسكري الموقعة بين الجانبين. لكن التحولات التي تشهدها القارة الافريقية لاسيما النزعة الاستقلالية لدى شعوبها مضافاً إليها توسع الحضور الصيني الروسي في عدد من دولها، فرضت على فرنسا جدول انسحاب متسارع الخطى منذ 2022، حيث أنهى الجيش الفرنسي وجوده الدائم في مالي وبوركينا فاسو والنيجر وتشاد والغابون. ومع الانسحاب من السنغال تصبح جيبوتي، الدولة الصغيرة الواقعة في القرن الإفريقي، الدولة الأفريقية الوحيدة التي تستضيف قاعدة عسكرية فرنسية دائمة، تضم حوالي 1500 جندي.
خاتمة
في ما تنخرط فرنسا ومعها دول حلف شمال الاطلسي في المواجهة مع روسيا على تخوم أمنها القومي، يواجه نفوذها التقليدي في القارة الافريقية تحدّياً وجودياً، لا تقل تداعياته الثقيلة عن تلك الناتجة عن الحرب في أوكرانيا، وفي الحالتين تبدو باريس مضطرة إلى التأقلم مع الخسائر والتعايش مع نتائجها وتأثيراتها في مكانتها الدولية.
