أول الكلام

ألفباءُ البوح – إلى مولاي سماحة السيد حسن نصر الله (قده)

بقلم غسان عبد الله

أنا يا ظلَّ السيد الذي يولدُ في لذيذِ العمرِ أنا.. كما ظلُّ الشجرِ الباسقِ يعرفني‏.. لا أحمل فكراً قسرياً لقصائدِ نهري‏ بل لا أحمل غلاً يتستّر بالوردِ‏ ويلقي للريح شذاه.‏

كم كتبَ الليلُ دفاترَهُ في بيضاءِ جبيني‏ أو في مسحةِ كفِّي!!..‏ كم كتبَ الشجرُ الغاربُ في صفْرتهِ‏ من سِفْرِ سَفَرجلهِ‏ أو من غصَّاتِ تأمُّلهِ!!‏ في هذا الزمن العاري‏.. كم كتبَ الشجرُ الباري‏ من أشعارٍ‏ فوق يدي‏ وتشردَقَ بالدمعِ وبالصمغِ‏ وفتْفتَ من سكبِ الدمعةِ‏ أسفاري!!‏.

آهٍ.. يا سيدي‏ هل خالطَ عشقُكَ موّالي؟‏ أم سقسقَ ماؤكَ أحوالي‏ فتناهضَ في ترفِ الإلفةِ‏ وامتشقَ البسمةَ‏ من ظُرْفٍ وظلالِ؟‏ دمعُ النَّرجسِ هذا‏.. أم زخّةُ موسيقى‏.. أم رندحةٌ من نشوةِ ريحٍ‏ تطرقُ بابي‏ في غربةِ أسرابٍ‏ وسحابِ؟‏ هل يمطرُ ـ مولى الروحِ ـ هذا الغيمُ‏ ويكتبني فوقَ سطوعِ الماءِ‏ عناقيدَ حَبَبْ؟!‏ أم يرسلني في داليةٍ‏ ويكدِّسني خمراً وجراراً وعنَبْ؟!‏.

آهٍ.. لو يدري‏ قفصُ الليلْ‏ كم ذابَ القلبُ الشفقيُّ الغاسقُ‏ من عشقْ!!‏ لو يدري بابُكَ كم صافحتُكَ حينَ أَجيئُكَ في وقتٍ مسموحٍ لي (في الحلم) في حضرةِ عينيك!‏.. كم أومأتُ لكَ.. لو أدركتَ يدي‏ تركتْ بعضَ رسائِلها في راحةِ كفِّكَ!..‏ كم تركتْ من عبقِ الشوقِ‏ رسائلَ من شفقٍ، أو من غسقٍ‏ أو من قلقٍ!‏ آهٍ.. لو يدري قلقي‏ ما سوف يعلمُ علمُكَ بحالي كعاشقٍ شفّهُ الأرقُ في ليل الوحشةِ‏.. لو يدري بحري حين يضجّ الماءُ على شفةِ الغيمِ‏ لو يدري..

مولاي.. هل ثارتْ أمواجُكَ بعدي‏ أو حين أغضُّ الطرفَ على طرْفي؟!‏ وأعضُّ.. أعدُّ على نزفي..‏ يتهامسُ قلبي‏ في جريانِ النبضِ‏ بأوردتي‏ أخشى عينيكَ تلُوحان إليَّ‏ وتوحي في أعماقهما لي‏ ما قلقي يوحي‏.. فتبوحانِ ببعضهما‏.. هل قلبي عازفُ العشقِ في دنيا الخلودِ مفطورٌ على ذكركَ كلَّ حينْ.. هل أنا لمحةُ عطفٍ من إحدى عينيكَ وتصيرُ‏ تثيرُ النرجسَ في قلبي‏ وأُثيرُ بنفسجةَ الحلمِ لديكَ.. هل – يا مولايَ – أخطُّ إليكَ خطوطَ الحلمِ (أن ألثمَ كفَّك)..‏ وهل أرسم أفياءَ الريحِ‏.. وهل أسكبُ في فلواتِ الروعةِ من كفَّينا‏ ما بسطَ القلبُ الشاعرُ من تسبيحْ؟!‏.

لأكاد أحسُّ يديكَ لديكَ‏ بروقَ الوردِ تدقّ على محرابِ الوعدِ‏ وتمطرُ أقواسٌ‏ وتهلّ ثرياتُ الوجدْ‏.. هل من رؤيا الوعدِ‏ تجدَّد هذا الورقُ الغافي في ظلِّ سكونٍ‏ وتلبَّس بالأغصانِ‏ وأوهمَ حرَّاسَ الغابةِ أنْ ما في العشِّ سوى عابرِ أفقٍ‏ يتعوشق بالعطرِ وبالظلِّ وبالنغم المتناثرِ‏ فوق غصونِ الريحْ؟!‏ هلْ من وعدِ الرؤيا‏ تُمْطِرُ ذاكرةُ الحسْنِ قصائدَ عرسِ؟!‏ أم من عطرِ الذاكرةِ الولهى‏ يتقمَّص هذا الرّحالُ نشيدَ الوقتِ‏ ويعبر في مَلكوتِ البوحِ‏ كرمحٍ منغمِسٍ في خاطرةِ الشمسِ..‏ ومنطَمسٍ‏ في خاصرةِ الهمسِ‏.. أكاد أُزاولُ من نفسي‏ أرقاً يتْلفني..‏ أحياناً أبداً‏.. فأحسّ الأبدَ الصاعدَ في أعمدتي‏ ينبوعَ صراخْ‏ أو يبرودَ مناخْ‏..

لو تسعفني قصيدةُ العشقِ‏.. أكدّسُ من أطباقِ بنفسجِها‏ ما لا يسطيعُ ربيعُ الفتنةِ‏ أن يكْدسَهُ أو يرسمَهُ‏ في فصلٍ واحدْ‏.. لو تسعِفُني خابيةُ الفكرِ‏ لأُجَرْجِرَ من جرّتِها أو سترتِها‏ حبالَ السّرِّ‏ للعشقِ الإلهي.. ومطلولَ الشاي‏ لأسقسقَ من أَنهار تفتُّحِها‏ ما لا تسطيع جرارُ العسلِ الأنقى أن تخرجَهُ‏ في نصٍّ واحدْ..‏ لو يفهمني الظلُّ ويكشفني للعالمِ لكشفتُ غطاءَ الأفقِ‏ وماجتْ من فرحتِها‏ هذي، أو تلك، السفنُ الغرقى‏ في البرقِ!!‏.

آهٍ.. يا شوقي‏.. ويا وعدي..‏ يا وجداً يتفتَّح في ماء عيوني‏.. هل سافرتَ إليَّ دوني‏ وركبتَ حصانَ الريحِ‏.. سكبتَ إليَّ كأسَ العشقِ‏ وماءَ شجوني؟‏ يا مولاي‏ يا مَنْ مجَّ جنوني‏.. ورماني من ظلِّ فتوني‏ ودعاني‏ كي أدعوَ من جفْوِ جفُوني في واحةِ‏ أسرارِ البهجةِ في حالةِ‏ صبٍّ تشهق، أو تشهدُ صبحَ تشوُّقِه!‏..

آهٍ.. من صلواتِ الوترِ‏ إذا انتهرَ الصبحُ بوجهِ الليلِ‏ وكفّنَ بالأضواءِ ملامحَهُ‏ آهٍ.. لو يسعفني الحظُّ لدلفتُ إليكَ.. بكَ أعيشُ حياةَ الظلِّ.. فأكون أنا حين أكتبُ العشقَ إليك.. وأكون القصيدةَ حين يرتِّبُني شوقي إليك.. فأنا العابرُ، وأنا الشاعرُ‏ وأنا الخاطرُ، وأنا الهاجرُ‏ من هزْعِ الليل وجذْعِ الويلِ‏ ونسْغِ الظلِّ‏ وماءِ الكحلِ‏ من جبروتِ الليلِ، ومن فلوات اليقظة‏ من خطواتِ الظلِ، ومن نفحاتِ الخصب‏ ومن وكناتِ العتمةْ‏ من صلواتِ الظلمةْ‏ من هفواتِ الكلمةْ‏.. هذا القادمُ من مطرٍ‏ أو هذا الراحلُ من سَفَرٍ…‏ ياهْ..‏ كم يمضي العمر!‏ وأنا – يا سيِّد العشقِ – أشعرُ أن الشوقَ بدايتُهُ‏ أن أكتبَ شعراً بالأفياءِ‏ وأكتبَ فيئاً بالأضواءِ‏ وأنسجَ ضوءاً بالعتماتِ‏ وأفتح في الفسحاتِ طريقاً حلواً‏ يمتدّ إليكَ جميلاً‏ من خاصرةِ الوجدِ‏ إلى خارطةِ الحبِّ‏.. ومن صهواتِ الريحِ‏ إلى هفواتِ الصبحِ‏ إلى رغباتِ البوحِ..‏ إلى بوحٍ لا يعرف كيف يبوحُ‏.. وكيف يبوحُ، وكيف يبوحْ؟!!‏.

هل خيلٌ جاءَتْكَ تُيمِّمُ نافذةَ الوردِ لديكَ.. تُحمحم في شوقٍ كي تخبرَكَ البوحَ الآتي من مربضِ أفكاري؟!‏.. هل ألقتْ شعراً عني؟!‏ قل لي، هل تُسعِفُ خيلٌ‏ فتجيد الإلقاءْ؟!‏ أم أنَّ الخيلَ مجرّدُ خيطِ خيَالْ‏ ومجرّدُ برقٍ في البالْ؟!‏ أم أن الشاعرَ يرسلُ في الليلِ خيولَ الفكرِ‏ وتصدحُ تحت حوافرِها‏ كلُّ قوافي الشعرِ؟!‏.. أم أنَّ الشاعرَ، خيّالٌ، صورةُ إحساسٍ‏ ترتدّ ظلالاً بيضاً في البئرِ؟!..‏ وأنا – والشوق يحاصرني من جنباتِ الوقت – أحسُّ لذيذَ الحلمِ يداعبُ‏ أرغفةَ الوردِ على ثغرِ النورِ‏ ويوقظ فيَّ ثغاءَ الفجرِ..‏ تهمس قافيةٌ في الركن هنا‏.. وتغصّ بقامتها قافيةٌ في الظلِّ هناكْ‏.. وأنا في البوحِ هنا‏ وعيونُكَ تغمرني، وتهزّ بُحوري‏ فأجذِّفُ في مائي‏ وأغيبْ‏ بأَلِفْبائي.‏

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *