هامش ثقافي

المثقفون والسياسة

بقلم غسان عبد الله

فرجل السياسة يصبح أبعد نظراً وأصوب رؤية وأقدر على التخطيط الإستراتيجي والإدراك العميق لجذور المواقف وأبعادها، ومن ثم اتخاذ القرارات الرشيدة فيها؛ كلما توافرت له قاعدة معرفية عريضة، تشمل محصّلة الوعي التاريخي بثقافته القومية، وما أفرزته من فنون وآداب، شكّلت مزاج بني وطنه، وحدّدت أفقَ طموحاتهم في المستقبل، عندئذ يصبح بوسعه أن يرسمَ معالمَ السياساتِ التي تحافظُ على كيانهم وتحقّق آمالهم وأهدافهم، ويُحسِنُ في الآن ذاته إقناعَ مخالفيه بوجهة نظره.

وكذلك رجلُ الثقافة المنتجُ لبعضِ أنواعها أو المشتغلُ بترويجها وإشاعاتها، كلما عرف كيف يسوسها ويصوغها ويسوقها ويوظّفها للانخراطِ في مشروعٍ نهضويٍّ مستقبليٍّ للمجتمعِ بأسره؛ كلما نجحَ في التعبيرِ عن أشواقِ قومهِ والمشاركةِ الفعالةِ في صناعة مستقبلها.

أما الساسةُ الذين يقلُّ حظُّهم من الثقافةِ العلميةِ والفكريةِ والفنيةِ فإنهم يصبحونَ مجردَ أدواتٍ تنفيذيةٍ تأتمِرُ بتعليماتِ من يملكُ الرؤيةَ والقدرةَ على اتخاذِ القرار، أو ألعوبةً في يدِ من يعبثُ بإرادتهم ويملي عليهم ما يتراءى له. وكذلك المثقفون الذين ينغمسون في إنتاج موادّهم دونَ مهارةٍ في تسويقها وتحريكِ المجتمعِ ليرتقي بذوقهِ ووعيهِ بحصيلتها؛ فإن أثَرَهم يظلُّ محدوداً، وجهدهم يصبح ضائعاً.

وأحسبُ أن رجل السياسةِ الناجحَ هو الذي يعرف كيف يستقطرُ من الثقافةِ عُصارتها ومن المثقفينَ خبرتهم لترشيدِ منظورِهِ وإثراءِ رؤيته.

من ناحية أخرى فإن الثقافةَ العلميةَ في التخطيطِ عرفتْ في العصرِ الحديث بديلاً للحكماءِ والعلماءِ والأدباءِ والفنانينَ الذين كان الحكام يعمِّرونَ بهم بلاطَهم ويسترشدونَ بهم في قراراتهم، فأصبحت مجالسُ الخبراءِ المتخصصينَ والمستشارينَ النوعيين وأهلُ المعرفة في كل الجوانب الحية؛ هي من يرسمُ المساراتِ ويجهزُ المشروعات، بعد أن تكون حلقاتُ العصفِ الذهني قد وضعتِ السيناريوهاتِ المتعددةَ للسياساتِ المختلفة، وكل ذلك يصب في تهيئة الخُلاصاتِ الثقافية للطبخة السياسية.

وكثيراً ما تقوم الأجهزةُ الإعلاميةُ بدورٍ مباشرٍ في العصرِ الحديثِ في عملية المزج بين السياسي والثقافي في معالجةِ القضايا المطروحةِ على الرأي العام، بأبعادها المتنوعة، فتقوم بطرحها على أصحابِ التخصصاتِ العلميةِ والإنسانية. وكلما كان مقدِّمُ البرنامجِ أو مديرُ الحوارِ مالكاً لقدراتٍ خاصةٍ في تحديدِ وبلورةِ وُجُهاتِ النظر، ورصدِ جوانبِ الاتفاق، وتحرير نقاط الاختلاف، دون غوغائية؛ أصبح بوسعه تشكيل رؤية ثاقبة للقضية، يتعين على صاحبِ الرأي في المجالسِ البرلمانيةِ أو مُتَّخِذِ القرارِ في السلطةِ التنفيذيةِ أن يأخذها في اعتباره. وكما كان يقول القدماء فإن آفةَ الرأي الهوى، فالضمانُ الوحيدُ لكي تكون الرؤيةُ العلميةُ أو المنظورُ الثقافيُّ المقدمُ لرجلِ السياسةِ مثمراً وصائباً أن يخلو من الهوى والمصلحةِ الخاصةِ أو النفاقِ وموالاةِ السلطةِ للتقرب منها. فالنزاهةُ والموضوعيةُ هما الشرطانِ اللازمانِ لسلامةِ التوجُّه وصحة الرأي.

إن مسؤوليةَ المثقف أن يعملَ على تبصيرِ السياسي بعواقبِ مواقفهِ على المدى البعيد؛ لأن السياسيَّ مضطرٌ للعجلةِ ومدفوعٌ للسرعة، وهو مظنةٌ للاندفاعِ في ردودِ فعل غير محسوبةِ العواقب، وعلى المثقفِ الجادِّ المخلصِ أن يوظفَ طاقتَهُ في الفكرِ وبصيرتَهُ في التنبؤ كي يكشفَ للسياسيِّ صورةَ المخاطرِ وشكلَ النتائجِ التي تترتب على مواقفه.

وأسوأ ما تصابُ به الشعوبُ وجودُ حواجز من انعدامِ الثقةِ بين المسؤولينَ السياسيينَ والمثقفين، فتنسدُّ شرايينُ التواصلِ الخلاقِ بينهما، ويسوءُ ظنُّ كلِّ طرفٍ بالآخر، فلا تفيدُ السياسةُ من رؤية الأبعادِ المعرفيةِ للقضايا، ولا يصبحُ بوسعها تصورُ المستقبلِ بمتغيراته الحتمية، ولا تقوى حينئذٍ على مواجهته؛ ولا يجدُ المثقفونَ مجالاً لتحقيقِ طموحاتهم الذاتية والجماعية. وهذا للأسف ما نشهدُهُ في كثير من أوطاننا العربية، ما يعوق نموها الحضاري ويٌخرجها من سباق الدول المتقدمة.

والمشكلةٌ عندنا تكمنٌ في أن الحكامً لا يقبلونً من المثقفينً سوى الولاءِ المطلقِ والتبعيةِ المعلنة، وهذا ينتقصُ من مصداقيّتهم عند الجمهور، ولا يرضونَ بالاستقلالِ النسبيِّ عنهم والاحتفاظِ بحقِّ المعارضةِ المحسوبةِ التي تصونُ ماءَ وجهِ المثقفِ وتبرّر وجوده. الأمرُ الذي يدفعُ المثقفينَ إلى اتخاذِ أحدِ وضعين جادَّيْن: إما الانخراطُ في التبعيةِ والتدجينِ وجني الأرباحِ الماديةِ الناجمةِ عن ذلك، وإما العزوفُ التامُّ عن السلطةِ والوقوعُ في التهميش، لأن وسائلَ الإعلام تتبعها. والأمرُ يحتاجُ إلى شيء من الذّكاءِ في إدارةِ المواقفِ، لأن المثقفَ مثلُ العصفورِ إن ضيّقت عليه الخناقَ اختنقَ منك، وعليكَ أن تترك له مساحةً حيويةً يباشر فيها حريّتَهُ الرشيقةَ واستقلالَهُ الجميل وطيرانه المحسوب بعيداً عنك ليعودَ إليك بإرادته التامة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *