فضاءات فكرية

الإعلامُ العربيّ المُعاصر في معالمه وتحدياته بينَ التّطور التّقني والسّقوط المِهني

بقلم: نبيل علي صالح / كاتب وباحث سوري

ويلعبُ الإعلام حالياً دوراً مهماً في تشكيل الرأي العام، وصناعة الوعي، وتفتيح المدارك من خلال ما يقدمه من رؤى وتحليلات تفكك الأحداث، وتسهم في طرح الأفكار والمعارف المتعددة والمختلفة.. هذا بشكل عام، وأما على صعيدنا الإعلامي العربي، فقد شهدَ العالم العربي خلال العقود الثلاثة الأخيرة تطورات كبيرة في المجال الإعلامي، استفادت من الطفرة التقنية العلمية التي اجتاجت العالم بعيد انتشار الفضائيات ومنصات التفاعل الرقمية، وما رافقها من اختراعات خاصة بتجهيزات التقنيات البث الفضائي.. وقد أدى هذا التطور المذهل إلى قيام الدول العربية بالتعاقد مع شركات غربية مختصة بالأقمار الصناعية لتصنيع وإرسال أقمار صناعية إلى الفضاء تقوم ببث قنوات فضائية لها، وعلى إثر ذلك أنشأت تلك الدول لنفسها الكثير من المحطات الفضائية الإخبارية والتعليمية والرياضية والفنية والمنوعة، كما قام رجال أعمال لعرب بإنشاء فضائيات خاصة بهم تعبر عن توجهاتهم واختصاصاتهم وأعمالهم ومشاريعهم..

إذاً انقسمَ الإعلام العربي ظاهرياً إلى إعلام رسمي حكومي تسيطر عليه أجهزة الدولة وتوجّهه بحسب مصالحها ومعاييرها، وبما يخدم توجهاتها، وإعلام خاص (غير رسمي) يرتبط برؤوس الأموال المقيمة والمهاجرة، إضافة إلى وجود الإعلام الإلكتروني الحرّ نسبياً الذي وفرته مواقع التواصل الاجتماعي، ومكنت أصحابه من التمتع بحرية واستقلالية نسبية بعيداً عن أعين الرقابات الرسمية المتعددة، وجعلته يعتمد على المبادرات الفردية.

طبعاً يجب التنويه هنا إلى أن هذا التنوع الكبير في وسائل الإعلام العربية الرسمية والخاصة، والانتشار الواسع لحسابات مواقع التواصل الرقمية الخاصة، لا يعني بالضرورة وجود التعددية الحقيقية في الرأي، إذ غالباً ما يكون الإعلام في عالمنا العربي – بكافة مستوياته – أداة لترويج خطابات معينة، سواء كانت سياسية أم دينية أم ثقافية، مما يؤثر على موضوعيته واستقلاليته وحيادية أصحابه.

نعم، دخل العرب (أو أُدخِلوا) في مجال الإعلام الفضائي والرقمي الحديث من أوسع أبوابه وعن طريق استيراد التقنية والتكنولوجيا – بكل تقنياتها وتجهيزاتها الأرضية والفضائية – من الدول الصانعة، دون المشاركة في إنتاجها وإبداعها، مكتفين فقط بشراء منتجاتها وواستهلاك سلعها العلمية وغير العلمية التي اخترعها غيرهم..

وربما أمكننا القول هنا إن شيوع تلك الفضائيات والاستخدام العام والخاص الواسع للتقنيات الفضائية واستغلالها، جاءت من أجل ألا يصبح الفرد العربي هدفاً للمحطات الأخرى المنتشرة في هذا الفضاء الشاسع، وأنْ تبقيه دوائر أجهزته الرسمية في بؤرة الولاء الأعمى والخضوع الكامل لبيت الطاعة الداخلي، مما يوحي بأنّ كل ما فعلته أنظمة العرب في مجال الاتصالات والإعلام الحديث لا يخلو – في حقيقته – من الأبعاد السياسية المرتبطة مباشرة بفكرة سيطرة النخب السياسية الحاكمة على عقل المشاهد العربي ووعيه وإرادته، ومنعه من التحليق إلى عوالم أخرى قد يجد فيها – كما قد يخيل له – مرتعاً خصباً لنمو أحلامه، وأفكاره، وتصوراته في العيش الحر الكريم بعيداً عن التطبيل والتزمير والتضليل.

مع أنه كان من المنتظر أو المتخيل أن يكون لظهور التكنولوجيا الرقمية وانتشار الفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعي بمختلف منصاتها الرقمية، والانتهاء من الإعلام التقليدي المتمثل في الصحف المطبوعة والإذاعة والتلفزيون، أن نشهد انعكاسات جدية تتعلق بالمصداقية، والاستقلالية، والتأثير السياسي والاجتماعي، إلى جانب فرص كبيرة لتعزيز حرية التعبير ووصول المعلومة في مختلف مواقع العالم العربي.. ولكن ما جرى للأسف هو عكس هذا، حيث تم تحديث الشكل فقط وبقاء المضمون كما هو.. وهذا يعود إلى طبيعة السياسات الإعلامية المطبقة في وزارات الإعلام الرسمية التي لا تخاطب العقول الواعية، والقلوب المنفتحة، ولكنها تظهر في الواقع وكأنها تخاطب كائنات جامدة، وكتل بشرية خالية من المشاعر والأحاسيس، وكأن الناس مجرد آلات ميكانيكية تتحرك “بالريموت كونترول”.. مع عدم وجود مساحة واسعة من الحرية السياسية والفكرية في التعبير عن الرأي، وحرية ممارسة النقد والمحاسبة، وعرض مختلف الآراء والطروحات. أي أن الإعلام العربي عموماً (بنوعيه العام وحتى الخاص) لا تتعامل بحرية كبيرة جداً مع قضايا الاختلاف، ووجهات النظر المتعددة (وهي كثيرة في مجتمعاتنا العربية والإسلامية).. وهو ما زال يعاني من مرض خطير مزمن، لم يستطع أن يبرأ منه حتى الآن، وهو مرض “الحساسية المفرطة” (الخوف والرعب الشديدين) تجاه الوافد الجديد، أياً كان هذا الجديد، وذلك بالرغم من كل الادعاءات والمزاعم التي يطلقها المسؤولون عن هذا الإعلام بأن إعلامنا منفتح، وحضاري، وواسع الانتشار،ووإلخ.. لكن الواضح أن كل تلك الأقاويل هي مجرد أوهام، وأكاذيب لا أساس لها من الصحة في الواقع العملي.

طبعاً من الواضح أن غالبية العرب استنكفوا – بدرجة كبيرة جداً – عن التعامل مع إعلامهم الرسمي خصوصاً في المجال السياسي والثقافي، بسبب شعورهم بأن هذا الإعلام لا يمثلهم، ولا يعبر عن مشاكلهم واهتماماتهم وطموحاتهم، الأمر الذي دفعهم للارتماء في أحضان الإعلام الآخر، الذي بدأت قنواته الفضائية – المنتشرة بكثرة هنا وهناك – تملأ الفراغ الكبير الذي أحدثه الإعلام الحكومي.

والذي يظهر أمامنا الآن أن هذا الإعلام الرسمي (وما يوازيه من الإعلام الخاص) لا يزال مصراً – على الرغم من تحول الأرض كلها إلى قرية اتصالية وشبكة معلومات عنكبوتية واحدة – على اتباع سياسة المنع، والحجب، والإخفاء والإقصاء.. ويبدو أن هذه السياسة الإعلامية التلفيقية المتبعة لا تزال تفعل فعلها في تزييف أفراد مجتمعاتنا وتحريف وعيهم وسلوكهم، خصوصاً عندما يتعمد مسؤولو الإعلام استخدام أساليب غير لائقة بالمعنى الحضاري والإنساني. وذلك عن طريق الادعاء بالحرص على الكرامة العامة، وأمن الأمة واستقلالها، ووحدة المجتمع، وضرورة تحصينه في مواجهة ما يسمى بالغزو الإعلامي والثقافي.. لكننا نجد – بالمحصلة العامة – أن هذه المعطيات (التي قد تبدو للوهلة الأولى وكأنها مهمات حضارية ورسالية خاصة بالإعلام الرسمي وحده) هي مجرد حجج واهية وذرائع مزيفة تلعب على وتر العاطفة عند المشاهد، وتدغدغ مشاعره النفسية، لكنها لا تعبر –في العمق- عن حقائق الأمور وثوابتها. فنحن بتنا نعيش – كما ذكرنا – في عصر الإعلام السريع، وثورة المعلومات والاتصالات الفائقة في تقنيتها وتطورها، ولذلك فإننا نجد أن ما يحافظ على وحدة المجتمع، وأمن البلدان، واستقرار الدول، ونهضة الأمة وتقدمها، يتمحور حول نقطة وحيدة أساسية وهي ضرورة فتح المجال الواسع أمام الشعب كله ليرى الأمور والوقائع كما هي، أي ليتنفس الهواء الطلق، ويرى أنوار الحقيقة، كما يرى الشمس الساطعة في كبد السماء. وإشعار المواطن بحقيقة (وأهمية) وجوده الحر الكريم، وضرورة احترام فكره، وحريته في ممارسة حقوقه المواطنية كاملة، والمشاركة في تصويب ونقد الواقع القائم، وبناء الدولة الحديثة العادلة والحكم الصالح.

وإذا كانت بعض (أو ربما كثير من) حكوماتنا العربية تضيق ذرعاً ببرنامج حواري قد يظهر على إحدى القنوات الفضائية العربية الخاصة، وتستنفر كل طاقاتها الإعلامية والسياسية لمواجهته بقوة. أي أنها تقوم قائمتها تجاه أي كلمة ناقدة وحرة تطلق من هنا وهناك بدعوى الحرص على الوطن والمواطن (الذي لا يتحمل – في نظرهم – أي “خضات” سياسية وإعلامية جديدة)، فكيف يمكن – والحال هذه – أن نتفاءل بمستقبل أمتنا العربية والإسلامية على طريق مواجهتها للتحديات المصيرية الهائلة (التي هي حقيقةً داخلية قبل أن تكون خارجية، لأن المرض والعلة فينا قبل أن يكون من غيرنا) التي تواجهها الآن وفي المستقبل؟!.

إن الإعلام العربي هو جزء من كل، ويتأثر بطبيعة الواقع الداخلي للبلدان العربية، في الاتجاهات السياسية للنظم الداخلية، وما تتقوم به وعليه من معايير وركائز سياسية واقتصادية وغيرها، وهي غالباً ما تتعلق فقط بالهاجس السلطوي لتلك النظم في البقاء الأعمى على رأس الحكم..

ولا شك أنه توجد كثير من التحديات التي ما زالت تقف في وجه هذا الإعلام العربي، ومة أبرزها: التملص من قيود الرقابة السياسية وغير السياسية، ومنع نشر الأخبار والروايات الكاذبة، وعدم التماهي الكامل مع الإعلام الغربي، والتدقيق في مصادر التمويل أي الاستقلالية المالية، مع ضرورة تطوير إمكاناته وقدراته للتنافس مع المحتوى الإعلامي الخارجي على مستوى الحيادية والموضوعية وعدم التبعية..

وهذا كله يفرض على إعلامنا العربي إعادة نظر في هياكله ومفاصله وتوجهاته الخاصة والعامة كلها، من أجل أن يمارس الرسالة الإعلامية الحضارية بمسؤولية وصدق وإنسانية، بحيث يقدم المعلومات الصحيحة للناس جميعاً (حتى لو تعارض ذلك مع ما نعتقد أو نؤمن.. لأننا معارفنا أو أفكارنا التي نختزنها ليست دائماً صحيحة، كما أنها قد لا تعبر عن الحقيقة والصدق والواقعية)، ويتسم خطابه بالشفافية، والحس الوطني والأخلاقي الملتزم بخيارات الأمة والجماهير الواسعة بعيداً عن المزاودة، والنفاق، والتضليل، والتدجيل، والتلفيق، والتزوير.

وكم تبدو الحاجة ماسة حالياً إلى ضرورة أن يقوم المسؤولون عن الملفات الإعلامية عندنا بإعادة دراسة، وتقييم، ونقد تجربة هذا الإعلام الأرضي والفضائي والرقمي، وتنقيته من المظاهر المرضية، والسلبيات الكثيرة التي علقت به، وأصبحت جزءاً لا يتجزأ منه، ولعل ظاهرة “المركزية” الإعلامية الفجة هي من أخطر هذه الظواهر، وأكثرها استفحالاً وتجذّراً في بيئتنا الإعلامية والسياسية.

لقد بات الإعلام قيمة كبيرة تنتمي إلى دائرة المخاطبة الإنسانية بالدرجة الأولى. أي أنها تخاطب العقل والنفس الإنسانية. وهذا – بحد ذاته – معيار أخلاقي عالي المستوى، يدخل دخولاً عضوياً في نظام القيم والمبادئ الحضارية العليا على المستوى الإنساني كله. وهو – بهذا المعنى – سلطة معرفية وأخلاقية كاملة، تدعو إنسان إلى شيء، وتمنعه عن ممارسة شيء آخر. ولكن السؤال المطروح – في هذا السياق – من يحدد أخلاقية الدعوة، وسلوكية المنع المفروضة؟!.

في الحقيقة يمكن بناء نظام إعلامي عربي حضاري في دعوته وقيمه، ولكن لا بد أن يرتبط بشكل مباشر مع ضرورة تشييد نظام قيم إنساني عالمي هادف، يقوم بطبيعته على توازن معين – في القيمة والممارسة – في مجالات السياسية، والأمن، والاقتصاد، والاجتماع الإنساني. أي توازن حركة الدول الكبرى من خلال نظام قيم راسخ يضبط مسارات قوى المجتمع الدولي، وأقطابه، وعوالمه المتعددة.

وقد يستغرب البعض سبب طرحي للسؤال السابق في إطار حديثي عن المشهد الإعلامي العربي في حالته الراهنة، وآفاقه المستقبلية.. ولكني أحببت أن أتحدث عن طبيعة التأثيرات الإعلامية الدولية، وأنظمتها القيمية والمعرفية التي تحاول -مواقع الإعلام القوية- فرضها على المجتمعات الأخرى التي تتميز بمبادئ وقيم أخلاقية، وأنماط وتقاليد سلوكية مختلفة عنها فكرياً وعملياً، خصوصاً وأننا نعيش حالياً تحت تأثير واقع إعلامي عربي جديد متعثر ومتخبط وفوضوي، يبدو فيه التسابق نحو تعميق معايير السيطرة – وأسس الهيمنة والتحكم والضبط – هو السمة الغالبة التي تطبعه، وتلونه بلونها الخاص.

وقد ساهمت الإشكالية الاعلامية في فقدان الإعلام العربي لتمايزه، وخصوصيته، وكثير من مفرداته المستمدة من واقعه الحيوي الروحي والمفاهيمي، وذلك كنتيجة طبيعية لمحاولات أصحاب العولمة الثقافية الإعلامية الضاغطة في سياق ما حدثَ من تطور وتفوق إعلامي هائل للدول المتقدمة في مجال تكنولوجيا الاتصال والمعلومات كما ذكرنا.. وقد قاد ذلك إعلامنا الحكومي إلى الوقوع في أحضان التبعية لمناهج المدرسة الغربية، وتحليلاتها، ودراساتها، ونظرياتها الإعلامية، الأمر الذي تسبب – في جانب كبير منه – في تعطيل المسيرة الإعلامية العربية في بدايات حركتها. والواضح أن هذه التبعية شبه الكاملة، والانسياق الأعمى وراء سلبيات الإعلام الغربي، وترك إيجابياته الكثيرة، حولت الإعلام العربي – كما يحدث حالياً – إلى مجرد تجارة سلعية رابحة، ليس لها من غاية سوى تحقيق المداخيل المادية السريعة والكبيرة للشركات الإعلامية العربية الخاصة والعامة التي تحتكر- بالتعاون والتنسيق مع الشركات الكبرى – الأسواق الإعلامية المحلية كلها، وتسيطر على ملفاتها، بقطع النظر عن الوسائل التي يتم اعتمادها من قبلهم في سبيل الوصول إلى الثروة والشهرة.

ونحن عندما  ندقق في حركة هذا الإعلام الرسمي الخاص نجده يتحرك على المسار السابق نفسه الذي يمكن وصفه بالقشرية والسطحية والابتذال إلى درجة فجة ومستفزة للمشاعر والقيم الإنسانية، بحيث أن معظم البرامج المستوردة – أو المصنوعة كلية على النمط الغربي – تعمل على تحطيم الوعي والذوق العام، من خلال تعميم ثقافة السلعة، وأجواء التهتك الاجتماعي والتفكك الأسري في داخل مجتمعاتنا التي يكفيها ما تعانيه من إعلامنا الرسمي المتردد والساكن القائم، الذي لا يستطيع أن يتحمل المسؤولية، ويفتقد الدقة، والموضوعية، وعنصر الشخصية المسؤولة والمتوازنة.

وهذا يفرض على الإعلام عندنا أن يوازن بين حرية التعبير والمسؤولية الاجتماعية، مع ضرورة تبني أدوات جديدة لمواكبة متطلبات التغيرات التكنولوجية.. وإذا ما استطاع هذا الإعلام تجاوز عقبات الرقابة والتمويل (وهي تحديات كبيرة ضاغطة على الإعلام الخاص)، ورفع مستوى مهنيته، فسيكون قادراً بلا شك على لعب دور حيوي في تشكيل المستقبل السياسي والثقافي للعالم العربي خاصة على مستوى الوعي والتنوير والنهضة العقلية والعلمية.

إنَّ للإعلام دوراً مهماً وحيوياً في التغيير والبناء للمجتمعات والدول، وعليه مسؤولية الإسهام النوعي الفاعل في تطويرها وازدهارها، بما يعني أنه ليس فقط مجموعة أدوات ووسائل لنقل الأخبار والحوادث من مكان إلى آخر، أو عرض وجهات النظر المتعددة والمختلفة.. إنه محورٌ أساسي لتعزيزِ القيم الإنسانية والحقوقية، وتشكيل وعي نقدي لدى المواطنين..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *