إقليميات

قرار نتنياهو باحتلال غزَّة لتحقيق حلم “إسرائيل الكبرى”

بقلم توفيق المديني

ويواجه القادة الإسرائيليون إدانات عالمية وتهديدات بفرض حظر جزئي على الأسلحة المصدرة إلى الكيان الصهيوني. وبموجب الخطة التي أُعلن عنها يوم الجمعة الماضي، عقب إعلان المجلس الوزاري الإسرائيلي المصغر “الكابينيت” عن هذا التصعيد عندما وافق على خطة للاحتلال الكامل لقطاع غزة ومهاجمة التجمعات السكانية، بدءاً من مدينة غزة نفسها، ووفقاً لمسؤولين صهاينة حاليين وسابقين ومستشارين حكوميين، فإنَّ جيش الاحتلال الصهيوني، الذي يسيطر حالياً على ثلاثة أرباع غزَّة، سيغزو آخر مركز حضري لا يخضع للسيطرة الإسرائيلية بهدف الاستيلاء على 10% إضافية من أراضي القطاع. وهو ما سيدفع بسكان غزة البالغ عددهم نحو مليوني نسمة للاكتظاظ بالكامل ضمن الـ 15% المتبقية من الأرض.

وتتضمن خطة احتلال غزَّة المتفق عليها بين نتنياهو ورئيس أركان جيش الاحتلال الصهيوني إيال زامير وغيره من كبار الضباط، تطويق مدينة غزَّة وشن ضربات من محيطها، فإنها ستتوقف عند احتلال غزَّة بأكملها، وهو الخيار الذي يفضله نتنياهو وحلفاؤه السياسيون من اليمين الصهيوني المتطرف داخل الائتلاف الحكومي. وبعد عملية طوفان الأقصى في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، كرَّر نتنياهو والقادة الصهاينة من سياسيين وعسكريين مراراً وتكراراً أنهم سيدمرون غزة ويحرقونها ويسوونها بالأرض، وفي الواقع دمَّر جيش الاحتلال الصهيوني فعلياً 90% من قطاع غزة، وحوله إلى أرض قاحلة، وحشر السكان في 15% من الأراضي، ما أدى إلى وضعهم في ظروف إنسانية مزرية لا تصلح للبقاء على قيد الحياة. من خلال حصار وقصف الأراضي، لم تترك “إسرائيل” أي مكان آمن للمدنيين ولا أي مخرج من غزة أو دير البلح أو المواصي.

الاحتلال الصهيوني لغزَّة لن يكون احتلالاً “مؤقتاً” كما يدعي الكيان الصهيوني، بل سيكون مثل الاحتلالات السابقة التي حصلت في حرب حزيران عام 1967، حيث بدأت “إسرائيل” “احتلالاً مؤقتاً” للأراضي الفلسطينية والسورية، ومن ثم أصبح احتلالاً دائماً.

وفي هذا السياق، كانت محكمة العدل الدولية أعلنت في تموز/ يوليو 2024، أنَّ احتلال “إسرائيل” للضفة الغربية وغزَّة غير قانوني وينتهك القواعد الأساسية والجوهرية في القانون الدولي، بما في ذلك حظر الاستيلاء على الأراضي بالقوة، وحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، وحظر التمييز العنصري.

إدارة ترامب وموافقتها على احتلال إسرائيل لقطاع غزَّة

في معرض رده على سؤال، طرح على الرئيس الأمريكي الأسبوع الماضي، عما إذا كان يعتزم دعم احتلال “إسرائيل” قطاع غزة، قال الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إنَّ “هذا يعود لإسرائيل أن تقرر بشأنه”، وفي اليوم التالي ذهب وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو إلى أبعد من ذلك. ففي رده على السؤال نفسه خلال مقابلة مع شبكة “فوكس نيوز”، كرَّر ما قاله ترامب، مضيفاً ما مفاده أنَّ “إسرائيل” هي الأدرى بما “تحتاجه لأمنها”.

الرئيس الأمريكي ووزير خارجيته يجيزان احتلال “إسرائيل” لقطاع غزَّة ما دام يخدم ذلك مصلحتها الأمنية، وكأنهما يُشَرْعِنَانِ قاعدة استثنائية في القانون الدولي تُجِيز لـ “إسرائيل” احتلال الأرض المجاورة لها إذا ارتأت أنَّ “حاجتها الأمنية” تستدعي ذلك. لكنَّ الموافقة على الاحتلال الصهيوني لقطاع غزَّة حصلت خلال زيارة المبعوث الأمريكي ستيف ويتكوف الأسبوع الماضي إلى “إسرائيل” وغزَّة وبعد دفن مشروع وقف إطلاق النار. فالتحالف القائم بين الصهيونية المسيحية (إدارة ترامب) والصهيونية اليهودية (حكومة نتنياهو الفاشية) والصهيونية العربية (الأنظمة الخليجية والمصرية والأردنية والمغربية)، يرى أنَّ التلويح باحتلال القطاع محاولة ضغط على حركة حماس لحملها على الاستسلام، ونزع سلاحها، باعتبار المقاومة المسلحة في فلسطين، ولبنان، وسوريا، والعراق، واليمن، أصبحت تمثل العدو الرئيسي لهذا التحالف.

بصرف النظر عن دوافع نتنياهو لاحتلال غزَّة، سواء بلجوئه إلى هذا الخيار سبيلاً لمواصلة الحرب استرضاءً للجناح اليميني المتطرف في حكومته وبما يضمن عدم سقوطها، وبالتالي بقاءه في منصبه، فإنَّ المغزى الحقيقي لاحتلال غزَّة هو استرضاء حاميه دونالد ترامب حيث اقترح في بداية رئاسته الثانية، في 25 يناير/ كانون الثاني تهجير الفلسطينيين من غزة، وصرّح أكثر من مرة عن رغبته في “امتلاك غزة” وتحويلها إلى “ريفييرا الشرق الأوسط”، وذلك تحت مزاعم إعادة إعمارها.

إدارة ترامب لا تعارض هذا التوجه من حيث المبدأ، لكنها تخشى متاعب وأكلاف “اليوم التالي”، وهذا ما يفسر كلامها عن ترك القرار لإسرائيل في الموضوع. فقد ذكرت معلومات، ومنها إسرائيلية، أن كلفة الاحتلال تقدّر “بعشرة مليارات دولار بالإضافة إلى تجديد البنية التحتية”. للخلاص من هذه الأعباء ومتاعبها، عاد تسليط الأضواء على معزوفة “التهجير”، تارة بالترغيب في “حياة مريحة وآمنة”، وتارة بوعد أهل القطاع “بالرحيل الطوعي”، كما بدأ يتردد في الأيام الأخيرة.

حماس تحذر من خطر احتلال غزَّة وارتباطه

أدانت حركة المقاومة الإسلامية (حماس) بشدة تصريحات رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، التي أكد فيها ارتباطه بما سماه “رؤية إسرائيل الكبرى” متضمنة السيطرة على أراضٍ مصرية وأردنية وسورية وأراضٍ عربية أخرى. وأكدت الحركة، في بيان صحافي، مساء اليوم الأربعاء13آب/أغسطس 2025، أن هذه التصريحات تكشف بوضوح خطورة الكيان الإسرائيلي ومخططاته التوسعية التي لا تستثني أي دولة عربية، مشيرة إلى أن وصف نتنياهو نفسه بأنه في “مهمة تاريخية وروحية” لتحقيق هذه الرؤية يعكس حالة “الجنون والهذيان” التي تحكم سلوكه وسلوك حكومته المتطرفة، في ظل حرب الإبادة والتجويع التي يشنها ضد شعب غزة، ومساعيه لتوسيع العدوان ليشمل دولاً في المنطقة. ودعت حماس الدول العربية إلى اتخاذ مواقف واضحة تشمل دعم صمود الشعب الفلسطيني، وإسناد سكان قطاع غزة، وقطع العلاقات وسحب السفراء مع الاحتلال، ووقف خطوات التطبيع، والتوحّد خلف خيار مقاومة الاحتلال والتصدي لمخططاته. كما طالبت المجتمع الدولي بإدانة هذه التصريحات ووقف حرب الاحتلال ضد المدنيين في غزة، والتصدي لطموحات نتنياهو “المستندة إلى أوهام فاشية” تهدد الأمن الإقليمي والدولي.

نتنياهو وإعادة بناء “حلم إسرائيل الكبرى”

تُستخدم عبارة “إسرائيل الكبرى” منذ حرب عام 1967 لوصف إسرائيل والأراضي التي احتلتها آنذاك (القدس الشرقية، الضفة الغربية، غزة، سيناء المصرية، وهضبة الجولان السورية) ويُشار إلى أن بعض الصهاينة المبكرين، مثل زئيف جابوتنسكي، الذي يعدّ من الشخصيات الفكرية المؤثرة في حزب “الليكود”، وسّع نطاق هذه الفكرة لتشمل الأردن الحديثة. فكرة “إسرائيل الكبرى” تشكل إحدى الركائز الأساسية في التوجّه السياسي لحزب “الليكود”. وقد عارض نتنياهو مراراً إنشاء دولة فلسطينية، ويرى النقاد أن التوسع غير القانوني في المستوطنات هو تجسيد عملي لهذه الرؤية، عبر خلق “وقائع على الأرض” تعرقل إمكانية قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة.

خلال مقابلة مع قناة “i24” الإسرائيلية، قال نتنياهو إن حكومته تؤيد ما يصفه برؤية “إسرائيل الكبرى”، وهي فكرة صهيونية تاريخية تشمل الأراضي الفلسطينية المحتلة وأجزاء من الأردن ولبنان وسوريا ومصر، وأضاف نتنياهو: “أنا في مهمة تمتد عبر الأجيال، هناك أجيال من اليهود حلمت بالقدوم إلى هنا، وستأتي أجيال أخرى بعدنا”. ورداً على سؤال حول ما إذا كانت مهمته تمثل الشعب اليهودي، أجاب: “إذا كنت تسألني إن كنت أشعر بأنني في مهمة تاريخية وروحية، فالجواب هو نعم”. ويُستخدم مصطلح “إسرائيل الكبرى” تاريخياً للإشارة إلى إسرائيل والمناطق التي احتلتها خلال حرب حزيران/يونيو 1967، إضافة إلى أراضٍ أخرى وردت في تصورات بعض التيارات الصهيونية المبكرة. تصريحات نتنياهو تأتي في وقت تتصاعد فيه التوترات الإقليمية، وتثير تساؤلات حول توجهات الحكومة الإسرائيلية الحالية، لا سيما في ظل استمرار الاحتلال وتوسع الاستيطان في الأراضي الفلسطينية. ويشار إلى أن رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، حرص على نشر كامل المقابلة على حسابه في منصة “إكس”. وأتت تلك التصريحات بعد تصريحات أطلقها وزراء في حكومة الاحتلال، عبروا فيها عن طمعهم في السيطرة على أراضي في الأردن ومصر ضمن مشروع “إسرائيل الكبرى”.

ولتبرير موقفها هذا، تَلجأ العصبيّةُ الصهيونية بقيادة نتنياهو، الذي لا يستطيع العيش والبقاء في السلطة إلاَّ بواسطة خوض الحروب، بوصفها خياراً يمينياً صهيونياً متطرفاً، استطاع نتنياهو من خلاله نقل الكيان الصهيوني وقياداته ومؤسساته لحالة جديدة من العصبية الصهيونية، المتسلحة بروح ترامب الفاشية الإمبريالية، إذْ يسعى أنْ يكون زعيماً صهيونياً متطرفاً أعلى وحاكماً قوياً، في خدمة أهداف واستراتيجية الإمبريالية الأمريكية، التي لم تتوان عن القفز خطوات أمام نتنياهو من أجل إعطائه الضوء الأخضر للقيام بالمجازر ضد الشعب الفلسطيني واقتلاعه من أرضه، وإخلاء غزّة من الفلسطينيين، وهذا ما تلتقي عنده الفاشية الأمريكية بقيادة ترامب، والعصبية الصهيونية بقيادة نتنياهو. وتلك هي المهمة التنفيذية التي يقوم بها نتنياهو باعتباره وكيل الإمبريالية الأمريكية، وخادمها كَعَبْدٍ في إقليم الشرق الأوسط.

كل تقارير كبار المحللين في العالم الغربي تؤكد أنَّ حكومة نتنياهو المستقوية بالإمبريالية الأمريكية جادةٌ هذه المرة لخوض حرب إقليمية جديدة في الشرق الأوسط، لاستعادة هيبة الجيش الصهيوني، وقدرة الردع الصهيونية، وضم أراضي عربية جديدة بدءاً من الضفة الغربية وقطاع غزَّة، مروراً بجنوب سوريا، وصولاً إلى شمال العراق. فـ “إسرائيل” قامت على أساس أنها قاعدة استراتيجية متقدمة في المنطقة تنفذ أهداف المخطط الإمبريالي عامة، والأهداف الصهيونية خصوصاً. ومنذ قيامها، تحت قيادة أول رئيس للحكومة (ديفيد بن غوريون)، نمت “إسرائيل” وتربت على الاعتقاد أنها قادرة على السيطرة على الشرق الأوسط بكامله بالقوة العسكرية.

استسلام الأنظمة العربية وكذلك الشعوب

في الوقت الحاضر، لا يوجد ما يحول دون استمرار التوسع الصهيوني في الأراضي العربية المحتلة في ظل غياب أية مقاومة عربية أو دولية جدية، ولاسيما بعد نجاح الإمبريالية الأمريكية ومعها الكيان الصهيوني في تدمير الدول الوطنية العربية تباعاً، مصر والعراق، وسوريا، وليبيا. وعلينا أن نرى بوضوح أنَّ خطورة الاتجاه نحو بناء “حلم إسرائيل الكبرى” تتمثل أساساً في المسائل التالية:

الأولى: غياب وانتفاء المعالم الأساسية والبرامج السياسية للتحرير الكامل من جانب الأنظمة العربية، منذ هزيمة حزيران 1967، وتمييع الأهداف الأساسية والاستراتيجية للمقاومة الفلسطينية، ليحل محلها الركض وراء سراب مشاريع التسوية، التي اتخذت تعبيرات متعددة، وأشكالاً مختلفة، لتقود في النهاية إلى تصفية القضية الفلسطينية، كما يجري الآن.

الثانية: تحويل طبيعة الصراع العربي – الصهيوني من كونه صراعاً عدائياً تناحرياً مع الإمبريالية الأمريكية والكيان الصهيوني إلى مجرد “نزاع” يجري حله سلمياً” وفق شروط التسوية الأمريكية – الصهيونية: السلام مقابل الاستسلام، الذي قبلت به معظم الأنظمة العربية. ‏

الثالثة: إنَّ الحكومات العربية التي انبثقت من مرحلة الحقبة الاستعمارية، سواء التقليدية السياسية والسوسيولوجية المتينة والراسخة، منها، أو القومية “البعثية والناصرية” التي جاءت بها إيديولوجياتٍ راديكالية وانقلابات عسكرية وحركات انتفاض وتغيير، أقامت معظمها أنظمة استبدادية انفردت بالسلطة، وانفردت بالمجتمع، وتماهت معه، واستغلت السلطة لتمارس عمليات الفساد والإفساد والنهب، وأجهضت التعبيرات الحقيقية لمظاهر التعددية السياسية، وأحدثت فراغاً فكرياً وثقافياً وسياسياً من ناحية، وتصلّبت من ناحية أخرى، بحيث لم يبق أمامها، عندما تشتد بها الأزمة وتنتفي أمامها سبل البقاء، سوى الزوال نتيجة انفجار داخلي يصيبها، أو أن يدركها عدوان خارجي لأنها أضحت عبئاً على نِصَابٍ استراتيجي ودولي بعينه ما عاد يتسع لها.

وهذا الوضع جعل السلطات العربية مكروهة من شعوبها، وفي الوقت عينه أصبحت متحالفة مع الكيان الصهيوني والإمبريالية الأمريكية، بدوافع عدة، منها: عداؤها لحركات المقاومة الفلسطينية واللبنانية التي تقاتل العدو الصهيوني، والمحافظة على سلطاتها داخلياً، خصوصاً في كل من دول الخليج، ومصر والأردن.

هذا الوضع العربي الاستسلامي (حكومات وشعوب) هو الذي مكن نتنياهو من ممارسة حرب الإبادة الجماعية واحتلاله قطاع غزة، وترسيخ نظام الفصل العنصري ضد الشعب الفلسطيني، بتواطؤ من الدول الغربية التي أسهمت بدعمها للكيان الصهيوني من ارتكاب الفظائع خلال العامين الماضيين، بمنح “إسرائيل” حصانة من المساءلة وتسليح هذه الدولة المارقة. وما التصريحات الأخيرة حول الاعتراف بدولة فلسطينية سوى حيلة دعائية وتضليل يخفي هذه الحصانة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *