معاييرُ الصّراع مع الكيان العبري مقاربة في التّوصيف وسدّ الفجوة العلمية
بقلم: نبيل علي صالح / كاتب وباحث سوري
تَحْكمُ طبيعة الصراع العربي الصهيوني الممتد على مدى ثمانية عقود عدة معايير أو ضوابط أو معالم أساسية، هي:
أولاً- المعيار الاستراتيجي العملي:
يقوم على قاعدة أنّ الغرب كله (وعلى رأسه وفي مقدمته الولايات المتحدة الأمريكية) هو الأم الحنون والأب الرؤوف للكيان العبري، منذ لحظة نشأته وولادته إلى يومنا هذا، وهو الراعي والحامي له والضامن لبقائه وتفوقه على العرب مجتمعين، وهذا يستلزم من الغرب وعلى رأسه أمريكا، استمرار الإسناد والدعم السياسي والعسكري والاقتصادي له، حتى لو جاء هذا الدعم على حساب مصالح الغرب نفسه..
وكمثال بسيط، نجد أن الدعم الأمريكي الغربي لإسرائيل متنوع ومتعدد المستويات والأشكال، فعلى الصعيد السياسي، اعترفت الولايات المتحدة بإسرائيل، بحكم الأمر الواقع فور الإعلان عن قيام دولة إسرائيل، وبعد ذلك اعترفت بها قانونياً بعد إجراء أول انتخابات إسرائيلية في كانون الثاني من عام 1949م.. كما دعمت أمريكا إسرائيل في مجلس الأمن؛ إذ استخدمت حق النقض (الفيتو) المقرر للدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن منذ تأسيسه 88 مرة، كانت 43 مرة في وجه قرارات قُدمت ضد إسرائيل وممارساتها العدوانية في فلسطين المحتلة.. إضافة إلى أنّ الولايات المتحدة كانت وما زالت تمنح وتقدم دعماً مالياً وعسكرياً كبيرين لدولة إسرائيل؛ إذ بلغ الحجم الإجمالي لهذا الدعم المالي – منذ تأسيس دولة إسرائيل حتى عام 2023م – حوالي 158,6 مليار دولار، والجزء الأكبر منه تم صرفه على الدعم العسكري بما يضمن التفوق العسكري (خاصة الجوي منه) في المنطقة (بل على كل دول المنطقة مجتمعة)؛ كما يتم تزويد إسرائيل بأسلحة حديثة ومتطورة لا تُمنح لغيرها من دول المنطقة كقنابل الأعماق وطائرات الجيل الخامس (F35) والصواريخ المضادة للصواريخ (منظومة ثاد وغيرها)، إضافة إلى أن هناك دعماً اقتصادياً كبيراً وهائلاً يصل إلى حوالي 34,2 مليار دولار – على مدار التاريخ الأمريكي – لإسرائيل. وخلال خوضها الحروب تسدد كل فواتير المساعدات العسكرية مجاناً ليس فقط من أمريكا بل حتى من ألمانيا وفرنسا وبريطانيا..
وقد لاحظنا مثلاً أنه ومنذ عملية 7 تشرين أول عام 2023م، جرى تخصيص ما يزيد على 14 مليار دولار مساعدات عسكرية مجانية لإسرائيل، كما تم تحريك مجموعتين كاملتين من حاملات الطائرات مُزوّدتين بـ 150 طائرة حربية، إضافة إلى تحريك غواصة نووية، وتقديم دعم سياسي كبير؛ وصل حد إعلان وزير الخارجية الأمريكي عن نفسه أنه يتحدث مع الإسرائيليين كيهودي، وليس كوزير خارجية، كما وصل الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن إلى هناك، وأعلن عن نفسه كصهيوني أيضاً..!!. وخلال العدوان الصهيوني الأخير على إيران فتحتْ أمريكا مخازنَ أسلحتها الصاروخية وغير الصاروخية لدعم إسرائيل وحمايتها، بل وشاركت هي وبريطانيا وحلف الناتو في محاولات صد الصواريخ الإيرانية التي كانت تنهمر على دولة الكيان العبري..
إن هذا الدعم الغربي الهائل واللا محدود للدولة العبرية على كل المستويات والأصعدة، يأتي لأن إسرائيل هي نفسها دولة هذا الغرب وابنته وربيبته، وهي مثال ونموذج فاقع على إعادة الغزو الاستعماري للمنطقة والتحكم بها وبكل مواقعها ومواردها وطرقها وسياساتها ومصائرها.. إنها قاعدة غربية متقدمة تحمي مصالح الغرب بكلفة أقل مادياً وبشرياً..!!. إضافة إلى أنها بوجودها ككيان غريب يفصل أفريقيا عن غرب آسيا؛ يحولُ دائماً دون أي تكتل لتحالف فيدرالي أو كونفدرالي، أو دولة عربية قوية متصلة تشكل مشروعاً عربياً ينافس المشروع الغربي في المنطقة.
ثانياً- المعيار القانوني الدولي:
حيث توجد هناك مجموعة من القرارات الأممية كالقرار 242 لعام 1976، والقرار 338 لعام 1973م، وهما قراران أمميان يدعوان إلى انسحاب إسرائيل من الأراضي المحتلة وحل الصراع عبر المفاوضات والتسويات السياسية. كما كانت الأمم المتحدة قد أصدرت القرار 194 لعام 1948م والقاضي بضمان حق عودة اللاجئين الفلسطينيين أو تعويضهم (طبعاً غير مُنفَّذ حتى يومنا هذا).
– كما عقد العرب مع إسرائيل جولات مفاوضات عديدة منذ عدة عقود أفضت إلى ما يسمى باتفاقيات سلام، هي: (اتفاقية كامب ديفيد في العام 1978م، بين مصر وإسرائيل، واتفاقية وادي عربة لعام 1994م بين الأردن وإسرائيل، والتي حددت حدوداً ومعايير التطبيع، واتفاقية غزة وأريحا المعروفة رسمياً باسم اتفاقية القاهرة 1994م بين الفلسطينيين والإسرائيليين).
– كما برزت مبادرات عديدة لما يسمى بالسلام كمبادرة عام 2002م تقدمت بها السعودية واشترطت انسحاباً إسرائيلياً كاملاً من الأراضي المحتلة منذ عام 1967م، وإيجاد حل عادل لقضية اللاجئين، وإقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس، ولكن كل تلك المفاوضات والقرارات والتسويات ظلت حبراً على ورق..
– وظهرت منذ عدة سنوات مبادرة جديدة سموها اتفاقيات أبراهام للتطبيع (القسري الإجباري تحت سيف التهديد بالحروب والعزل والضغط الاقتصادي) بين إسرائيل وبعض الدول العربية (الإمارات، البحرين، المغرب، السودان، وأخيراً سوريا بعد سقوط نظام الأسد) دون شروط مسبقة، مما أثار جدلاً حول “تجاوز القضية الفلسطينية”.
ثالثاً- المعيار الحضاري الديني والهوياتي المقدّس:
إنّ القضية الفلسطينية ليست مجرد نزاع سياسي أو حدودي أو مكاني، بل هي قضية حضارية وجودية تتصل في العمق بمضامين وأبعاد دينية تاريخية ورحية هوياتية متجذرة في الأعماق النفسية للمسلم، تجعلها قضية مركزية في الوعي العربي والإسلامي.
إنَّ فلسطين جزء جوهري لا يتجزأ من العالم العربي والإسلامي، وتنتمي حضارياً إلى الثقافة العربية والإسلامية المنفتحة والمتنوعة، وهويتها عربية إسلامية خالصة.. ولا يوجد فلسطيني وعربي واحد إلا ويعتبر أن هذه القضية قضيته الوجودية لأسباب تاريخية وحضارية دينية.
- فعلى الصعيد الديني:
يوجد في فلسطين المحتلة المسجد الأقصى وهو أولى القبلتين وثالث الحرمين، وله مكانة وموقعاً متفرداً روحياً ومعنوياً لدى كل العرب والمسلمين.. ولا يمكن تغيير هذا البعد الهوياتي في نفسية وروحية أي عربي مسلم.. يقول تعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ﴾] الإسراء: 1[. وقوله تعالى: ﴿وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ﴾] الأنبياء: 71[، وقوله تعالى: ﴿يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ﴾] المائدة: 21[.. وهي هنا أرض فلسطين. وفي مقابل هذا الوعي العقائدي والروحي الإسلامي، حاولت الصهيونية العالمية نفسها ومنذ بدايات تأسيس مشروعها الاستيطاني إعطاء أبعاد دينية له، حيث تتحدث عن “أرض الميعاد”، وعن ضرورة تهويد القدس وهدم المسجد الأقصى، وهذا كله يجعل ويدفع الصراع ليكون صراعاً تاريخياً عقائدياً بغطاءات سياسية.
- وعلى الصعيد الحضاري والتاريخي:
تعد فلسطين مهد الرسالات والأديان ومقر وممر كثير من الأقوام والحضارات، وقد شهدت هذه الأرض تعاقب أقوام وأمم كثيرة كالكنعانيين، والفراعنة، والرومان، والصليبيين، والعثمانيين.. وعلى الرغم من ذلك بقيت القدس واحدة من أقدم المدن في التاريخ، ومن أهم مراكز التراث الإنساني الحضاري والديني.. ولهذا تجمع القضية الفلسطينية بين القداسة الرسالية الدينية والأهمية الحضارية والتاريخية، الأمر الذي جعلها لتكون قضية وجودية مصيرية لا تقبل الجدل والمساومة والتسويات المزيفة، وأي معالجة سياسية لهذه القضية التي باتت قضية العالم كله، لا تأخذ بعين الاعتبار هذا البعد بالذات، على مستوى حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني في بناء دولته الخاصة به، ستبقيها مشتعلة وقابلة للتفجر في أي وقت مثلما هي حالياً وسابقاً ولاحقاً..
ثالثاً- المعيار العلمي والفجوة التقنية الواسعة مع إسرائيل:
هذا المعيار يقوم على رؤية موضوعية تقول بأن الصراع مع العدو ليس فقط حول طاولات السياسة وميادين العسكرة، بل هو قائم على قاعدة ما نمتلكه من قوة علمية وتقنية ومعارف ومعلومات وخبرات بحثية علمية..
وبدايةً يجب الإقرار أن إسرائيل تتفوق علينا نحن العرب علمياً وتكنولوجياً ومعرفياً وبحثياً، أي أن هناك في الواقع فجوة عميقة وواسعة، معرفية وعلمية تقنية كبيرة وعميقة، مكّنتْ هذا الكيان من التفوق علينا، وامتلاك أسس القوة العسكرية ومواقعها، حتى باتت دولة صناعة عسكرية بامتياز في منطقتنا، وفرضت من خلال قوتها تلك الكثير من معادلات السياسة ومتغيراتها على بعض حكومات المنطقة.. وكان الكاتب الراحل عبّاس محمود العقاد، قد وصف تلك الحالة في كتابه “الصهيونية العالمية”، بقوله: “إن تعجيز العرب أجمعين عن مجاراة إسرائيل وحدها في ميدان الصناعة والتقدّم أفدح خطوب الاستعمار منذ وُجد الاستعمار”..!!.
وهذا التفوق والنجاح في المجال العلمي العسكري، له أسبابه وخلفياته بطبيعة الحال.. حيث يمكن لأي باحث أن يجد أن القوة البحثية الإسرائيلية هي التي وقفت وراء النهضة العلمية والتقدم التقني لدولة الكيان التي اعتمدت على تأمين الموارد البشرية من خلال موجات الهجرة، وضخ رؤوس الأموال من الخارج، وتمكين السياسة العلمية، وارتباط عملية التطور الشامل بصورة وثيقة بالتطور العلمي الذي أدى إلى تطور مجالات الحياة الأخرى.
لقد لعبَ البحث العلمي دوراً فاعلاً في نجاح النموذج العصري للتجربة الإسرائيلية، ولولاه لما استطاعت إسرائيل في هذه السنين القليلة من عمر الشعوب أن تصل ما وصلت إليه، ولذلك فإن تتبع السيرة العلمية لها، أمر جدير بالدراسة، وفيه كثير من الدروس المستفادة.
وتخصصُ إسرائيل سنوياً ميزانيات ضخمة فقط لتأمين سير البحث العلمي بكافة أشكاله وروافده.. فقد بلغ إنفاقها على البحث والتطوير 119,3 مليار شيكل (حوالي 33 مليار دولار)، أي ما يعادل 6.3% من ناتجها المحلي الإجمالي، متقدّمةً بفارق واضح عن المعدّلات العالمية.
ولتوضيح حجم هذا الفارق، يكفي أن نعرف أنّ المعدل العالمي للإنفاق على البحث والتطوير لم يتجاوز 2.62% من الناتج المحلي الإجمالي في 2021. في المقابل، سجلت إسرائيل وحدها نسبة 5.6%، وفقاً لبيانات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)، ما جعلها تحتل المركز الأوّل بين دول المنظمة. كما جاءت إسرائيل في المركز الخامس عالمياً من حيث الإنفاق على التعليم بالنسبة للناتج المحلي الإجمالي بإنفاق يبلغ 8.3% من ناتجها المحلي..
ويترجم الإنفاق الإسرائيلي السخي على البحث العلمي، بشكل واضح، على أرض الذكاء الاصطناعي، إذ شيّدت إسرائيل استثمارات ضخمة لتطوير خوارزميات التعلم الآلي، وأنظمة تحليل البيانات الضخمة التي تستفيد منها ألفا شركة ناشئة، تمكنت عام 2024 وحده من جلب 3,1 مليارات دولار. وأعلنت الحكومة أيضاً “خطّة وطنية” تتجاوز قيمتها مليار شيكل (273 مليون دولار)، خُصِّص منها نحو 600 مليون شيكل (164 مليون دولار) لتطوير البنية التحتية للذكاء الاصطناعي. وهو ما وضع إسرائيل ثالثة ثلاث دول تتصدّر المشهد العالمي، من حيث عدد الشركات الناشئة العاملة في المجال بعد الولايات المتحدة والصين. (أنظر: الدبلوماسية التكنولوجية، للباحث مصطفى البقالي، العربي الجديد، 26 أذار 2025م).
إن بقاء العرب متطفلين على ساحات وميادين العلم والمعرفة العالمية، دونما بناء مواقع قوية لتوطين المعرفة والعلم بطريقة يتحولون معها إلى منتجين للعلوم والبحوث والمعرفة العلمية الحقيقية، لن يساعدهم أبداً في معالجة أي قضية من قضاياهم السياسية وغير السياسية، فالنفط والغاز وبقية الثروات والخيرات التي أنعم الله عليهم بها، ستزول ولن تبقى خصوصاً وأنهم لا يستغلونها بكفاءة وفعالية عالية للتمكين المعرفي العلمي، بل تراهم يبيعونها كمواد خام لشراء استهلاكيات الحضارة العالمية ومنتجاتها الخارجية، وتحديث بلدانهم ظاهرياً فقط.. والأمر الوحيد الذي سيجعلهم أقوياء ومتمكنين هو الدخول العميق والجذري في علوم العصر وصنائعه بمستوياته كافة.
إنّ سدَّ الفجوة العلمية والمعرفية القائمة اليوم، ليس فقط مع إسرائيل، بل مع العالم المتقدم، في غربه وشرقه على السواء، يتطلب من العرب، تأسيس المراكز العلمية البحثية، والإنفاق الواسع على مقتضياته، والتعاون الوثيق بين تلك المراكز والجامعات، والتوسع البنيوي في مشاريع التعليم المهني، والاهتمام ببناء أجيال تتقوم بالعلم والمهارات، مع ضرورة دعم الابتكار، ومنع هجرة العقول وتوطينها.. وووإلخ.. وهذا كله يحتاج حقيقة لإرادة سياسية جامعة، وتخطيط طويل الأمد.. ولا شك بأن كثيراً من بلداننا العربية تمتلك الإمكانات والقدرات الطبيعية والبشرية والمحافظ المالية، لكنها بحاجة ماسة لتنسيق الجهود الإقليمية وبناء استراتيجيات واضحة وشفافة وقوية لتحقيق الحضور والمنافسة.. وهذا طريق طويل.
