اللقاء السوري الإسرائيلي في باريس خطوة نحو التطبيع
بقلم توفيق المديني
أجرى وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني مباحثات، يوم الثلاثاء 20آب/أغسطس2025، في باريس مع وزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي رون ديرمير، وبحسب وكالة الأنباء الرسمية السورية “سانا”..
تناول اللقاء مناقشة عدد من الملفات المرتبطة بتعزيز الاستقرار في المنطقة وجنوب سوريا، إِذْ أنَّ “النقاشات تركّزت حول خفض التصعيد وعدم التدخل بالشأن السوري الداخلي، والتوصل لتفاهمات تدعم الاستقرار في المنطقة، ومراقبة وقف إطلاق النار في محافظة السويداء، وإعادة تفعيل اتفاق 1974” لفضّ الاشتباك بين سوريا وإسرائيل لناحية وقف الأعمال القتالية وإشراف قوة من الأمم المتحدة على المنطقة المنزوعة السلاح الفاصلة بين الطرفين.
وأشارت سانا: إنَّ الجانبين أكَّدا “على التمسك بوحدة الأراضي السورية ورفض أي مشاريع تستهدف تقسيمها وأن السويداء جزء لا يتجزأ من سوريا وأن المواطنين الدروز جزء أصيل من النسيج الوطني”. وناقش الطرفان كذلك “الأوضاع الإنسانية في الجنوب واتفق الطرفان على ضرورة تكثيف المساعدات الموجهة لأبناء السويداء والبدو للتخفيف من وطأة الظروف المعيشية الصعبة”. وتجدر الإشارة أنّ النقاشات السورية – الاسرائيلية تجري “بوساطة أمريكية، في إطار الجهود الدبلوماسية الرامية إلى تعزيز الأمن والاستقرار في سوريا والحفاظ على وحدة وسلامة أراضيها”.
واستضافت باريس أواخر تمّوز اجتماعاً مماثلاً بين الشيباني ووزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيل، رون ديرمير، بينما عُقدت لقاءات سورية إسرائيلية أخرى مباشرة في باكو، بحسب ما أفاد مصدر دبلوماسي وكالة “فرانس برس” في وقت سابق.
وقبل هذا اللقاء المباشر بين سوريا وإسرائيل، حصلت مفاوضات غير مباشرة بين مسؤولين من النظام السوري الجديد في دمشق مع مسؤولين من إسرائيل، وكان هدفها احتواء التصعيد، بعدما شنّ الكيان الصهيوني مئات الغارات على الترسانة العسكرية السورية وتوغلت قواتها في جنوب البلاد عقب إطاحة فصائل معارِضة ببشار الأسد من الرئاسة.
التطبيع التدريجي بين إسرائيل وسوريا في عهد النظام الجديد
يكاد لا يمر يومٌ واحدٌ إلا وتتحدث التقارير الغربية والعربية عن موضوع التطبيع بين سوريا والكيان الصهيوني، فها هو الرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع يقول في تصريحاتٍ لافتةٍ: نحن و”إسرائيل” لدينا أعداء مشتركون.. وترامب رجل سلام. ولم يعدْ خافياً على أحدٍ عن وجود اتصالاتٍ ومحادثاتٍ بين السلطات السورية الجديدة و”إسرائيل”، مما أثار تساؤلاتٍ عميقةٍ حول التحولات الممكنة في السياسة السورية الخارجية.
فها هي قناة “آي 24” الإسرائيلية، تنقل خلال الشهرين الماضيين، عن مصدرٍ سوريٍّ أنَّ الكيان الصهيوني وسوريا سيوقعان “اتفاقية سلام” قبل نهاية عام 2025، زاعماً أنَّ مرتفعات الجولان ستتحول بموجب الاتفاقية إلى “حديقة سلام”. وأضاف المصدر، الذي لم تكشف القناة عن هويته، أنَّ من شأن هذه الاتفاقية تطبيع العلاقات بين البلدين بشكلٍ كاملٍ، موضحاً أنَّه “بموجب الاتفاقية المذكورة، ستنسحب “إسرائيل” تدريجياً من جميع الأراضي السورية التي احتلتها بعد غزو المنطقة العازلة في 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024، بما في ذلك قمة جبل الشيخ”.
وعقب ذلك، قال وزير الخارجية الصهيوني، جدعون ساعر، في مقابلة تلفزيونية يوم السبت 28 يونيو 2025، إنَّ بقاء “إسرائيل” في مرتفعات الجولان شرط أساسي لأي اتفاقية تطبيع محتمل مع سوريا، مؤكداً أنَّ اعتراف دمشق بـ “سيادة إسرائيل” على الجولان يُعَدُّ خطوةً ضروريةً لإبرام اتفاقية مع الرئيس السوري أحمد الشرع.
أمَّا صحيفة نيويورك تايمز فقد نشرت تقريراً بتاريخ 2 تموز/يوليو 2025، كتبه مدير مكتب صحيفة نيويورك تايمز في بيروت بن هابرد، بالاشتراك مع مراسلة الصحيفة في الشرق الأوسط إيريكا سولومون، وجاء فيه: إنَّ إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب رفعت معظم العقوبات عن سوريا في بادرة حسن نية تجاه الحكومة الجديدة بقيادة أحمد الشرع، لا سيما أنَّ قرار رفع العقوبات كان موضع ترحيب شعبي في سوريا، حيث يعيش أكثر من 90% من السكان تحت خط الفقر، إلا أنَّ العقوبات التي رفعها ترامب لا تشمل الإجراءات كافة، لأنَّ بعضها يحتاج إلى موافقةٍ من الكونغرس. ولكنَّ هذا التقارب الدبلوماسي ليس مجانياً بل مشروطاً بتوقعاتٍ أمريكيةٍ محدَّدةٍ، ألا وهو التطبيع مع الكيان الصهيوني.
لا شكَّ أنَّ رفع العقوبات الأمريكية عن سوريا، ليس حباً من إدارة الرئيس ترامب لسوريا وشعبها وقيادتها الجديدة، بل هو يأتي في سياق هندسة جديدة وشاملة لمنطقة الشرق الأوسط، التي شهدت منذ عملية طوفان الأقصى في 7أكتوبر 2023، تداعياتٍ خطيرةٍ، لعل أهمها: سقوط النظام السوري الذي كان يمثل أحد الركائز الأساسية لمحور الممانعة، وخراب اقتصادي واجتماعي وتهتك سياسي، حَلاَّ في كل الدول العربية التي كان يمكن أن تكون قوى إقليمية وازنة منها، كمصر والعراق وسوريا، تلعب دوراً ما في مواجهة حرب الإبادة الأمريكية – الصهيونية ضد الفلسطينيين في قطاع غزَّة، واندلاع العدوان الصهيوني – الأمريكي على إيران بهدف تصفية برنامجها النووي، وانكشاف موقف الرئيس التركي أردوغان، الذي ظل متفرجاً على زلازل المنطقة، ومكتفياً بإطلاق القنابل الصوتية ضد “إسرائيل”، وازدياد عدوانية وجرائم الكيان الصهيوني نظراً لما يمتلكه من فائض القوة العسكرية في منطقة الشرق الأوسط من جرَّاء دعم الإمبريالية الأمريكية له، وتعاظم مشاريعه التوسعية المنبثقة من العصبية الصهيونية ووعود دينية عمرها آلاف السنين، من أجل تصفية القضية الفلسطينية، وبناء “دولة إسرائيل الكبرى” التي تمتد من النيل إلى الفرات.
وبما أنَّ موازين القوى مختلة إلى حدٍّ بعيدٍ لمصلحة الكيان الصهيوني بعد 23 شهراً من الحروب التي خاضها، في غزَّة، ولبنان، وسوريا، وأخيراً ضدَّ إيران، الأمر الذي مكَّنه من السيطرة المطلقة على أجواء الشرق الأوسط، فإنَّ أيَّ اتفاقٍ للسلامٍ مع سوريا سيأتي ليعكس هذا التفوق. ومن هذا القبيل، يُشَدِّدُ المسؤولون الإسرائيليون على أنَّ أيَّ اتفاقٍ مع سوريا، لن يتناول هضبة الجولان المحتلة.
على الرغم من عدم توفّر رغبة ذاتية لدى القيادة السورية للانفتاح على الجانب الصهيوني وتطبيع العلاقات معه، وذلك بتأثير توجهاتها الإيديولوجية السابقة وضغط الموقف الشعبي القومي المؤيد للقضية الفلسطينية والرافض للتطبيع مع الكيان الصهيوني، فإنّ هناك مؤشرات قوية تؤكد على انخراط القيادة السورية الجديدة في التطبيع مع الكيان الصهيوني، ومن أبرزها:
أولاً: اللقاء الذي حصل بين عضو مجلس الكونجرس الأمريكي كوري ميلز والرئيس السوري في دمشق في 18نيسان/أبريل 2025، حيث قال ميلز إنّ أحمد الشرع أبدى انفتاحاً على تحسين العلاقات مع “إسرائيل”، وبأن سوريا مهتمة بالانضمام إلى “اتفاقيات أبراهام” حين تتوفر الظروف المناسبة لذلك. كما التقى عضو مجلس الكونجرس مارلين ستوتزمان الرئيس الشرع في 21 نيسان 2025، وتحدث ستوتزمان عن رغبة الشرع بتطبيع العلاقات مع “إسرائيل” وبأن ذلك مرهون بشروط أبرزها ضمان سيادة سوريا ووحدة أراضيها. ونقلت شبكة الجزيرة عن مصدر سوري قوله إن لقاء الشرع مع ميلز تطرق لمواضيع عديدة منها “اتفاقيات أبراهام”، مضيفاً أنّ الشرع أكّد على ضرورة توقّف “إسرائيل” عن قصف سوريا والانسحاب من الجولان قبل الحديث عن أي اتفاقيات.
ثانياً: المحادثات المباشرة التي جرت في أذربيجان بين الجانب الإسرائيلي والنظام السوري الجديد شارك فيها رئيس هيئة العمليات في الجيش الإسرائيلي عوديد بسيوق وممثلون عن الحكومة السورية، بحضور مسؤولين أتراك، نقلاً عن شبكة سي أن أن الإخبارية بتاريخ 16آيار/مايو2025.
ثالثاً: عقب لقائه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في باريس في 7 أيار/مايو 2025، أكّد الرئيس السوري أن بلاده تُجري مفاوضات غير مباشرة مع “إسرائيل”، عبر وسطاء، لتهدئة الأوضاع ومحاولة امتصاص الوضع كي لا تصل الأمور إلى حدٍّ يفقد الطرفان السيطرة عليه. كما قالت وكالة رويترز بتاريخ 7 أيار 2025، إنّ الإمارات أنشأت قناة اتصال خلفية للمحادثات بين “إسرائيل” وسورية، وإنّ المحادثات غير المباشرة تركّز على القضايا الأمنية والاستخباراتية وبناء الثقة بين البلدين. وأشارت إلى أنّ هذه الجهود بدأت بعد أيام قليلة من زيارة الشرع للإمارات في 13/4/2025.
رابعاً: خلال الفترة الماضية، وفي أعقاب زيارة خليجية للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، التقى خلالها بالرئيس السوري أحمد الشرع، جرى تسليم وثائق ومتعلقات الجاسوس كوهين إلى “إسرائيل” بهدف “تخفيف التوتر وإظهار حسن النوايا لترامب”، بحسب ما نقلت وكالة “رويترز”. وأُعلن في أيار/ مايو 2025 عن استعادة آلاف الوثائق والصور والمقتنيات الشخصية التي وُصفت بأنها “جزء من الأرشيف السوري الرسمي” المتعلق بعميل جهاز الموساد كوهين، الذي نفذ عمليات استخبارية في سوريا، قبل أن يُكتشف أمره ويُعدم في 18 أيار/مايو عام 1965. واعتبر مكتب نتنياهو أن كوهين “أسطورة، مع مرور الزمن ها هو يظهر كأعظم عميل في تاريخ الدولة”، واستعادة الأرشيف الخاص به يعكس “التزام إسرائيل الثابت بإعادة جميع مفقودينا وأسرانا ورهائننا”. وجاء هذا الكشف عن تسليم الأرشيف السوري في الذكرى الـ 60 لإعدام كوهين.
خامساً: تأكيد القيادة الجديدة في دمشق أنَّ سوريا انتقلت نهائياً من محور المقاومة إلى محور الاندماج في النظام الرأسمالي العالمي الليبرالي الأمريكي، بعد سقوط نظام الأسد، وخسارة طهران سوريا التي كانت نقطة ارتكاز النفوذ الإيراني في المنطقة. ولما كانت السلطات الجديدة بقيادة الشرع التي وصلت إلى الحكم في دمشق تعاني من الضعف، وغياب الشرعية السياسية الشعبية باعتبارها حكومة غير منتخبة من قبل الشعب السوري، فإنَّ الشرعية الوحيدة التي تستمدها من أجل البقاء في الحكم هو نيل الشرعية من الغرب، والأنظمة العربية الحليفة للإمبريالية الأمريكية والكيان الصهيوني.
ويعتقد الخبراء أنَّ النظام الجديد في سوريا هو بمنزلة نظام ضرورة فرضته الوقائع على الأرض بفعل دعم حلفاء إقليميين ودوليين، وتآكل البدائل السياسية للمعارضة الوطنية والديمقراطية ذات الطابع العلماني، أكثر مما جاء نتيجة توافق داخلي أو عملية سياسية شاملة.
وعلى الرغم من أنَّ النظام السوري، يحاول باستمرارٍ إظهار القوة والاستقرار أمام المجتمع الدولي، فإِنَّهُ لا يزال ممزقاً بين مناطق نفوذ متعددة، ونُخب سياسية وعسكرية لا تزال غير متوافقةٍ، ورهين مصالح إقليمية ودولية متشابكة، وهو ما يُفقده قدرته على التصرف بحرِّية ويضعف من استقلال قراراته. ويحظى النظام السوري الجديد بدعمٍ من المملكة السعودية وقطر وما قد يفضي إليه من تغيرات في التوازنات داخل سوريا، وتأثير ذلك على ملفي اللاجئين والتنظيمات المسلحة، وهي ملفات ترتبط بشكل مباشر بالأمن القومي العربي.
لهذه الأسباب مجتمعة تعمل إدارة ترامب على دعم الحكم الجديد وتحصينه برفع العقوبات الأمريكية وتدفق الاستثمارات الغربية والعربية، وإقامة التطبيع بين سوريا والكيان الصهيوني، إذ تخشى الولايات المتحدة من تفكك سوريا إلى فيدرالياتٍ طائفيةٍ، خصوصاً أنَّ الشعب السوري لم يعد موحداً في ظل الانقسامات العمودية التي تشقه على جميع الصعد الطائفية والمذهبية والعرقية، حيث بتنا نشاهد واقعياً شعوباً سورية متنافرة على الصعيد الاندماج الوطني والقومي، وهذا ما سيجعل من السهل على إيران بناء مواقع نفوذ في سوريا، طبقاً لوجهة النظر الأمريكية.
حول العودة إلى اتفاقية فك الاشتباك لعام 1974
يكمن الهدف من اجتماع باريس بين وزير الخارجية السورية ووزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي، التوصل إلى تفاهمات أمنية بشأن جنوب سوريا، بهدف الحفاظ على وقف إطلاق النار بين “إسرائيل “وسوريا.
وعلى الرغم من أن الإدارة السورية الجديدة، برئاسة أحمد الشرع، لم تهدِّدْ “إسرائيل” بأيِّ شكلٍ، يَشُنُّ جيش الاحتلال الصهيوني غارات جوية على سوريا، ما أدى لمقتل مدنيين، وتدمير مواقع عسكرية وآليات وذخائر للجيش السوري. فالكيان الصهيوني يريدُ فرضَ السلام بالقوة، عبر مراكمة تفوقه العسكري والاستراتيجي، إضافة إلى اعتباره الجولان السوري المحتل منذ حرب حزيران 1967، قد أصبح خاضعاً للسيادة الصهيونية منذ أكثر من نصف قرن، ولا مجال للقيادة السورية الحالية من استرداده.
خاتمة: المدافعون عن الثوابت الوطنية والقومية للدولة الوطنية السورية، اعتبروا أنَّ تكرار لقاءات وزير الخارجية السوري مع مسؤولين إسرائيليين أمرٌ غير مقبول، وطالبوا بأن يكون الحوار غير مباشر عبر وسطاء إذا اقتضت المصلحة الوطنية ذلك، منتقدين ازدواجية المعايير في التعامل مع لقاءات مماثلة مع مسؤولين من دول أخرى.
ووصف المعارضون لقاء الشيباني بوزير الاحتلال بالجريمة، أن يستخدم لتسويق نظام بشار وأنه لم يلتقِ بإسرائيليين (وهذا غير صحيح، التقى فاروق الشرع بإيهود باراك في واشنطن مطلع 2000)، كما أنَّه مرفوضٌ أن يستخدم النظام الجديد في سوريا لقاءات العام 2000 حجة وتبريراً للقاءات 2025. ووصف بعضهم مبررات اللقاء بالفارغة، مُؤكِّدِينَ أنَّ جميع القضايا يمكن معالجتها عبر التواصل غير المباشر، وأنَّ اللقاء يمثل “تطبيعاً مرفوضاً مع عدو يرتكب انتهاكات خطيرة بحق الشعب السوري”.
وشدَّدَ آخرون على أنَّ التفاوض تحت وطأة القصف والضربات الإسرائيلية يضع سوريا في موقفٍ ضعيفٍ ويفرض عليها شروط الطرف الآخر، معربين عن استغرابهم من جلوس الدبلوماسية السورية على طاولة واحدة مع دولة الاحتلال التي لا تلتزم بأي ضمانات أو تعهدات.
ومع ذلك يجمع الخبراء والمحللون إنَّ المفاوضات الجارية بين المسؤولين السورين والإسرائيليين، لا ترتقي إلى مستوى تطبيعٍ شاملٍ، فما يجري الآن هو مسارٌ محدودٌ يهدف إلى “منع الاعتداءات الإسرائيلية ووقف الاستفزازات”، دون التخلي عن الحقوق السورية الثابتة.
