أول الكلام

الحلُمُ جميلٌ والليلُ عذابْ

بقلم: غسان عبد الله

مِنْ كُلِّ حَدْبٍ راكِدٍ، يُمْسِي وتَحضُنُه البراري‏.. من كلِّ صَوْبٍ غائِمٍ غَدُهُ أواخِرُ نَجْمَةٍ‏ أَنَّى تَعَالتْ، أدْرَكَتْهَا رغْبَةُ الأطْيَارِ إنْ كَانَتْ جَوَانِحُهَا عَزَائِمَ مَنْ تخبّطَ‏ في القَرَارِ‏.. والأبجديَّةُ هاجرَتْ خَلْفَ الخفوتِ‏.. وظلَّتِ الأفعالُ والأسْمَاءُ غامِضَةً،‏ وأَسْئِلَةُ القصيدَةِ.. ضاقَ بالشِّعْرِ الجواب‏..

مِنْ كُلِّ سَارِيَةٍ تؤجِّلُ رَعْدَهَا دُفِعَتْ‏ وَزَايَلَها السَّرَابُ‏.. من عُمْقِ فجٍّ عاصفٍ غَرقتْ مراكِبُ أمَّةٍ‏ لكنَّهَا قد تَنْهَضُ الأصواتُ عارمَةً‏ ويندحِرُ الرُّهابُ‏.. مِنْ كُلِّ ودْقٍ قَدْ يجودُ ومِنْ رهامٍ في قُلُوبِ العاشِقينَ، ومِنْ رواعِدَ في نُفوسِ الراحلينَ‏ إلى الجحيمِ..‏ غَدَاةَ دَقَّتْ سَاعَةُ البُرْكانِ‏ وانْقَلَبَ الضَّبَابُ‏.. لَكَأَنَّها أَعجازُ نَخلٍ خاويةٍ تَأْتِي..‏ كما تأتِي سُيُولُ الرُّعْبِ تَجْرِفُ خَوْفَنَا‏.. لَكَأَنَّهَا غَيْثٌ كَأنَّ غُثَاءَهُ كَلِمَاتُنَا من حُزْنِهَا‏ ضَحِكَ الغُرَابُ‏.

مِنْ حلكَةٍ، حجَبَ النُّجُومَ غَمَامُ عَصْرٍ قَاتِمٍ،‏ هَدَّتْ رَوَاسِي الرّوحِ، مَجْرَاها جنائِزُنا‏ وَمَرْسَاهَا الخرَابُ‏.. مِنْ عُمْقِ هذا الجَهْلِ والوثنيَّةِ العَمْيَاءِ‏ وهْيَ تُعِدُّ مَا سَتَذُوقُه الأرْضُ الحزينَةُ‏.. من دَمَارَاتٍ‏ وَمَا سَيَهيمُ في الأمْداءِ مِنْ جُثثَ العُراةِ‏ وما سَيَطْفُو في بُحيْراتِ الدموعِ ومَا..‏ تَغَمَّدَهُ التّرابُ‏.. تأتي الأبابيلُ النّفيسَةُ، من مشارِقِ أَحْرُفٍ بِضَرامِهَا‏ تُلْقي عَلَيْنَا اللَّعْنَةَ العُظْمَى، من الكَلِمَاتِ سِرَّاً‏ كُلَّمَا كلَّتْ مِنَ الموتِ الجماجِمُ‏ أو تمادى في المُقَامِ، هُزالُ أرواحٍ،‏ وما ضُرِبتْ رِكَابُ‏.

طَيْرٌ أَبابيلٌ تُحلِّقُ فَوْقَنَا لِتُعِيدَنا‏ من عَصْفِنَا المأكولِ أو لِتُزيلَ عَنَّا‏ ما تأبَّدَ مِنْ هزائم، كلّما عَصَفتْ بنَا‏ تُهْنَا، وضَيَّعْنَا السّبيلَ إلى الخلاصِ‏ على امتدادِ دروبِ مَنْ رحلوا إلى الماضي‏ ومنْ تَركُوا الغناءَ لِنَثْرِهِ‏.. يأتي القصِيدُ مُنَجَّماً‏.. تأتي الطيورُ من الشظايَا‏.. تأتي مِنَ الأحْلاَمِ، تأتي من بعيدٍ، من غَمَامِ كلامنا‏.. تأتي مع الأصواتِ، من سِفْرِ الحجارةِ، من بقايا الأغْنياتِ‏.. ومن محاجِرنا ومن نيراننا، تأتي النّجُومُ غزيرةً‏.. تأتي الطيورُ من الرَّزَايَا،‏ ومن المرايا يَطْلَعُ الأغْرَابُ، أو يأتي الجبينُ مُشَقَّقاً‏ ومُهذَّباً، يأتي الكَلاَمُ على الكلامِ لِنَسْتَعيدَ‏ فَدَاحَةَ المَبْنَى بِرَغْمِ وجاهةِ النقّادِ‏ حينَ يُشيّعُونَ جنازةَ المعنى سُدىً‏ ويُبشّرُونَ بقتْلِ ما سَنقُوله‏ عن أمَّةٍ ظمأى وعمّا يصنَعُ الأعداءُ بالأطفالِ‏ عند الفجْرِ، في وطنٍ نَراهُ في قَصائِدنَا وفي جُغرافيا القتل البديع‏.. كأنّنا غنَمٌ نَرُودُ مياه بحْرٍ ميّتٍ‏ ودماؤنا مسفوكَةٌ أعلى الحِرابْ‏.. صَدِئَتْ مراثينا وغَيَّرَ شكلَها الزمنُ العَجِيبُ سَمَاءَه‏ لكنّنا لم نَمْضِ نَحْوَ بُروقِ أطرافِ الرياحِ‏.. ولمْ نُغيّرْ مَوْتَنَا.. هلْ نَحْنُ دَهْرٌ رَاسِبٌ؟‏.. نَحْنُ الغيابْ؟!‏.

لا شيءَ يَجْعَلُنا نرَى الأشياءَ واضحة..‏ جهاتٌ تسْتلذُّ مشاهِدَ التّعذيبِ‏.. تستولي عليَّ تُخومُ هذا التيهِ عند الفَجْرِ‏.. أبكي ثُمَّ أَفْهَمُ أنّني لا أَفْهَمُ الكلماتِ‏.. تَلْتبِسُ الجهاتُ عليَّ تَرْتَجِفُ المَفَاصِلُ‏.. حينَ أصْغِي للفراغِ المسْتبدِّ‏.. جناحُ هذا اللّيل يَسْكُنُ في رهاني‏ أنتهي لِرَذَاذِ حُزنٍ ماجِنٍ‏.

غَيْمٌ على الأرواحِ.. غيمٌ في مَهَابِطِ نَصِّنَا في ما وراءِ القَوْلِ.. غيْمٌ في ظلامِ الشمسِ.. غيْمٌ في يَدِي.. غيْمٌ‏ على الجدرانِ.. غَيْمٌ خلْفَ بَحْر الملْحِ.. غيْمٌ في‏ مراكِبِ صَمْتِنَا.. غَيْمٌ قُبالَةَ عُمْرنَا.. غَيْمٌ بلاَ مَطَرٍ‏.. سَيَهْبِطُ شاعِرٌ كالبرقِ.. غيمٌ من بُخارِ البَحْرِ‏ عَكَّرَ مَشْهَدَ العَصْرِ الغريبِ..‏ بلاَ سَمَاءٍ غَيْمُنا وبلا هواء.‏. غيْمُنَا تَتَحَوَّلُ الأنباءُ فيهِ منْ نِفَايَاتٍ وسِرْيَاليَّةٍ‏ تُبْكِي، إلى ذَبْحٍ جَمِيلٍ واقعِيٍّ أو رومَانْسِيٍّ إذا شاءوا‏.. بلا لوْنٍ ولا شكْلٍ ولا ثُقْبٍ يُضيءُ فلولَ خَوْفٍ غَيْمُنَا.‏. وبلا شُعَاعٍ غيْمُنا وبلا ملامِح كالهُمُومِ إذا طَغَتْ‏.. كالوقْتِ في بندولِ ساعةِ حائِطٍ مُتَهَدِّمٍ بالصّمْتِ‏ لم نَفْهَمْ مِنَ الأحداثِ شيئاً لم نُغامِرْ‏ بالكَلاَمْ‏.. نَمْضِي إلى أوتارنا في اللّيْلِ نرمُقُ طفْلَةً‏ صارتْ رماداً أَوْ نَرَى طِفْلاً يَرُدُّ جَرِيمَةً بحجارةٍ‏ ونرى الحطامْ‏.. غزّةُ صارتْ مشْهَداً في شاشةٍ‏.. والنّاسُ والأمراءُ يَنْتَظِرُونَ تسْجِيل الهَدَفْ‏.. دبّابةٌ تأتي وتَسْحَقُ حُلْم طفْلٍ ينتَهِي‏ دَمُهُ أمَامَ الكَاميِرَا، ويلطِّخُ المرآة‏ ثمّ تُصيبُني الحُمَّى وأسْمَعُ ابنتي تنسابُ في عُمْقي وتَصْرُخُ لا تَخَفْ‏.. لا تخف يا أبي.. لا زلتَ تزاولُ مهنة الأحلام.. ولا زالَ في قلبِكَ العامرِ ألفُ حلمٍ.. لكنك اليوم لا تعرف المنامْ.

غيمٌ على القلبِ.. على الروحِ مشاتلُ غمامْ.. على الجلدِ ملامحُ أخرى.. وأنا لا أُشبِهني.. تغيَّرْتُ.. أكلني الدودُ في عظمي المنخورِ بالآلام منذ بدءِ تاريخي.. لا الأحلامُ جميلةٌ.. ولا الغدُ الآتي مشرقٌ.. غمامٌ يستُرُ عريَ مراراتي، وخلفَ كلِّ هذا الغمامِ يربضُ الغيثُ الذي لا يهطلُ.. غيثٌ يبابٌ وغمامٌ دخان.. وقلبٌ معذَّبٌ وأوهامُ حياة.. وعشقٌ سرابْ.. ضاقَ بالشِّعْرِ الجواب.. مِنْ كُلِّ سَارِيَةٍ تؤجِّلُ رَعْدَهَا دُفِعَتْ‏ وَزَايَلَها السَّرَابُ‏.. من عُمْقِ فجٍّ عاصفٍ غَرقتْ مراكِبُ أمَّةٍ‏ لكنَّهَا قد تَنْهَضُ الأصواتُ عارمَةً‏ ويندحِرُ الرُّهابُ‏..

كأنني أزاولُ مهنة الأحلام منذ سنين ولا أُدركُ للحلمِ معنى.. كما يؤرِّقُني في العيشِ معنى وجودي في حياةٍ ليست جميلةً.. حياةٍ نصفُها عذابْ.. ونصفُها الآخرُ أُمضيها دماراً خلف ألفِ ضبابٍ.. وخراباً – يا ابنتي – يبني بسواعدِ حزني صروحَ خرابْ.

وأسْمَعُ ابنتي تنسابُ في عُمْقي وتَصْرُخُ لا تَخَفْ‏.. لا تخف يا أبي.. لا زلتَ تزاولُ مهنة الأحلام.. ولا زالَ في قلبِكَ العامرِ ألفُ حلمٍ.. لكنك اليوم لا تعرف المنامْ.. لن أقولَ لكَ أَفِقْ.. فالحلُمُ جميلٌ والليلُ عذابْ.. وأنتَ أدمنتَ رشفَ المآسي.. ما ضرَّكَ لو الغيثُ خلف ألفِ سماءٍ غابْ.. ما ضرَّكَ لو قد مسَّك الشيطانُ بنُصُبٍ وعذاب.. فاضربْ بيدك ضغثاً.. وكن صابراً.. نعمَ العبدُ عبدٌ من خلفِ الهجير اخترعَ الضبابْ.