خطة ترامب.. انتدابٌ حديث واستكمالٌ لمشروع إسرائيل الكُبرى
بقلم زينب عدنان زراقط
خطة أمريكية جديدة لغزة تُحاكي إعماراً مشروطاً: سلاح مُصادر، تمثيل سياسي مغيّب، ووصاية دولية، كل ذلك دون معالجة جذور الصراع الفلسطيني: الاحتلال، والاستيطان، وحق العودة. في مشروعٍ يتجاوز حدود غزة ليشمل كامل المنطقة، إنّه مشروع نتنياهو بإسرائيل الكُبرى من النيل إلى الفُرات بغطاءٍ أمريكي وضغطٍ عربي وحُجَةً أمام الغرب.
الخُطة تتزامن مع تحرُكات أمريكية مُريبة في المنطقة، عشرات الطائرات الحربية تحُطُّ في قاعدة العديد في قطر، وذلك بعد إلزام ترامب لنتنياهو الاعتذار من أمير قطر.
فما هي خفايا وتفاصيل المُقترح الأمريكي الإسرائيلي المطروح أمام حماس وما هي السيناريوهات القادمة المُحتملة؟
خطة ترامب التي كُشف عنها لا تحمل ملامح انتصار لأي طرف بقدر ما تعكس وصاية جديدة على غزة، شبيهة بانتداب حديث تديره واشنطن بغطاء عربي. الآمرُ النافذُ فيها هو “ترامب” والحاكم الفعلي على الأرض رئيس الوزراء البريطاني السابق “توني بلير” – القائد لغزو العراق عام 2003 – مع إعطاء “نتنياهو” حرية التصرف بالقطاع دون قيد أو شرط. تُشبه هذه الخطة من حيث الجوهر مشروع “الانتداب” الذي فرضته القوى الكبرى بعد الحرب العالمية الأولى، حين جرى تفويض قوى استعمارية بإدارة شعوب ومناطق بزعم تأهيلها للاستقلال. اليوم، تتكرر الفكرة بأسلوب جديد، تحت غطاء إعادة الإعمار والسلام دون إيجاد حلٍّ لأصل أسباب الصراع الفلسطيني.
ملامح الخطة
وقف الحرب والإفراج المتبادل عن المحتجزين، تحويل غزة إلى منطقة منزوعة السلاح، تشكيل إدارة انتقالية غير سياسية تحت إشراف “مجلس السلام” برئاسة ترامب، مع وعود بإعمار واسع واستثمارات اقتصادية. لكن لا حماس ولا السلطة سيكون لهما دور مباشر، إلا بشروط إسرائيلية صارمة. يشير هذا النموذج إلى محاولات فصل المسار السياسي عن المسار الإنساني والاقتصادي، كما جرت تجارب مشابهة في البوسنة وكوسوفو وأفغانستان، حيث جرى تشكيل إدارات انتقالية تحت مظلة أممية أو دولية، لكن بدون تمثيل فعلي لقوى الواقع المحلي. إضافة إلى ذلك، فإن الحديث عن “منطقة منزوعة السلاح” في غزة يصطدم بواقع أمني شديد التعقيد، خاصة مع وجود عشرات الآلاف من المقاتلين، وشبكات أنفاق وسلاح موزع على أكثر من فصيل. ما يعني أن تطبيق هذه الرؤية سيتطلب عمليات قمعية أو تدخل عسكري تحت مسميات جديدة.
أمّا بالنسبة لإسرائيل، فإنّ دعمها ملتبس. نتنياهو شكر ترامب وسانده، لكنه سارع لطرح اشتراطات إضافية: إصلاح السلطة، الاعتراف بيهودية الدولة، وإنهاء حماس. اليمين المتطرف يهدد بإسقاط حكومته إذا اعتبر الخطة تنازلاً، والنتيجة هي دعم رسمي مع تنصّل عملي. ففي الداخل، الخطاب الإسرائيلي يعكس التناقض بين الخطاب السياسي الموجّه للخارج، والتوازنات الداخلية الحرجة. على سبيل المثال، أعلن إيتمار بن غفير (وزير الأمن القومي الإسرائيلي) أن “أي خطة لا تشمل احتلال غزة مجدداً وتفكيك حماس كلياً هي استسلام”، فيما هدد بتفجير الحكومة إذا جرت موافقة ضمنية على أي تسوية لا تتماشى مع الأجندة اليمينية. هذا الانقسام يعيد إلى الأذهان أزمات سابقة مثل الانقسام حول خطة الانسحاب من غزة عام 2005، حين واجه أرئيل شارون تمرداً من اليمين المتطرف.
بينما يُقاسي الداخل الفلسطيني من انقسامٍ في الموقف:
أ- السلطة الفلسطينية سارعت إلى الترحيب، في محاولة لإعادة تموضعها دولياً وإقناع واشنطن بأنها البديل “المعقول”.
ب- حماس استلمت الخطة رسمياً لكنها في مأزق: رفضها يعني مواجهة ضغط عربي ودولي، وقبولها يعني نهاية مشروعها العسكري.
ت- الجهاد الإسلامي أعلن الرفض الفوري واعتبرها وصفة لاستمرار العدوان.
هذا الانقسام يعيد تكرار مشهد اتفاقيات أوسلو، حين انقسم الفلسطينيون بين مؤيدين للمسار التفاوضي ومعارضين يعتبرونه تفريطاً. السلطة ترى في المبادرة فرصة لتثبيت شرعيتها المهزوزة، خصوصاً بعد تآكل مكانتها في الضفة واتهامها بالفساد والعجز. أما حماس، التي خسرت الكثير من البنية التحتية في غزة بسبب الحرب، فهي عالقة بين ضغط الواقع وضغوط الحلفاء العرب والإقليميين، كقطر وتركيا. أمّا الرفض الفوري من الجهاد الإسلامي يعكس انعدام الثقة بأي خطة لا تبدأ بوقف شامل للعدوان والاعتراف بالمقاومة كطرف مشروع في المعادلة.
بينما عربياً، الموقف يكمن بين الحرج وضمان الحد الأدنى. السعودية وقطر ومصر والإمارات وتركيا وغيرها رحبوا بالخطة. هذه الدول قد لا تريد انتصار المقاومة العابرة للحدود، لأنها تخشى امتدادها للداخل. وهي في الوقت نفسه رهينة لواشنطن، وتدرك خطر نتنياهو ومشاريعه التوسعية. لكن من المرجّح أنها ضمنت خطين أحمرين: لا تهجير قسري من غزة ولا ضم للضفة الغربية. الترحيب العربي يُذكّر بموقف مشابه من “صفقة القرن” عام 2020، حين أبدت بعض العواصم مواقف “مرنة” بدافع الواقعية السياسية. السعودية، مثلاً، تخشى أن يؤدي انهيار غزة إلى فوضى تستغلها جماعات متطرفة، وتريد حماية مسار التطبيع التدريجي مع إسرائيل. قطر ومصر تلعبان دور الوسيط، وتسعيان لحماية نفوذهما في الساحة الفلسطينية، بينما الإمارات وتركيا تبحثان عن تثبيت مواقعهما الإقليمية. الخطوط الحمراء التي وضعها العرب تبدو أقرب إلى محاولة تقليل الأضرار، وليس فرض شروط لحماية الفلسطينيين فعلياً.
أمريكياً، ترامب بين حسابات الداخل والخارج. بيد أنَّ إسرائيل تعيش عزلة متفاقمة، بحيث أن أكثر من 140 دولة في الأمم المتحدة اعترفت بدولة فلسطين. وإسبانيا وأيرلندا والنرويج مؤخراً اعترفت رسمياً بالدولة الفلسطينية. أضف إلى الدعوى التي رفعتها جنوب أفريقيا ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية. زد على ذلك ضغط الاحتجاجات المؤيدة لفلسطين تجتاح الجامعات الأمريكية. في هذا السياق، يحاول ترامب تقديم نفسه كصاحب خطة “متوازنة”، تُرضي اللوبي اليهودي في أمريكا (AIPAC) دون خسارة القاعدة الشبابية التي باتت تنتقد إسرائيل بشكل متزايد، وبذلك ينقذ نتنياهو من الاتهامات ويُلقي اللوم على حماس التي لا تريد القبول بالمقترح – الملغوم -. كذلك يسعى لاستغلال الفوضى السياسية المحيطة ببايدن والانتقادات لطريقة تعامله مع الحرب، ليقدّم نفسه كصاحب “حل خارجي” و”رجل سلام”. من الجدير بالذكر أن ترامب سبق وأن اعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ونقل السفارة الأمريكية إليها، ما يجعل خطته الحالية محاولة لتجميل صورته أمام العرب والفلسطينيين بعد تلك الخطوة المثيرة للجدل.
سيناريوهات مقبلة
1- أزمة إسرائيلية داخلية: نتنياهو سيعود ليواجه تمرداً من بن غفير وسموتريتش، ما قد يدفع حكومته إلى حافة السقوط. في حال رفض الخطة أو تبني أي من بنودها دون موافقة مطلقة من اليمين، قد نشهد انهيار الحكومة الحالية، وهو سيناريو مشابه لأزمات حكومات سابقة مثل حكومة أولمرت في 2008 بعد حرب غزة.
2- خيار الهروب إلى الأمام: نتنياهو قد يستعمل السلاح الذي يحظى بإجماع غربي واسع، وهو ضرب إيران تحت شعار “الخطر النووي الإيراني”. تقارير استخباراتية إسرائيلية أشارت إلى تدريبات مكثفة لسلاح الجو لاحتمال تنفيذ ضربة على منشآت إيرانية، ويُعتقد أن نتنياهو يحتفظ بهذا الخيار كورقة ضغط خارجية وداخلية. واللافت ذكره أن الولايات المتحدة تنقل العديد من طائرات التزود بالوقود 135 KC- Stratotanker و46 KC- Pegasus مع مقاتلات إلى الشرق الأوسط، وقد هبط جزء منها بالفعل في قاعدة العديد الجوية في قطر. وبالإضافة إلى تحرك الطائرات الأمريكية تحركت أيضاً طائرة التجسس البريطانية Boeing RC-135W Rivet Joint إلى قاعدة العديد.
3- المعادلة الإقليمية: أي هجوم على إيران سيجرّ المنطقة إلى تصعيد أوسع، ويكشف أن خطة غزة لم تكن إلا محطة في صراع أكبر يعيد خلط الأوراق. يبدو أن غزة، في هذا السياق، ليست سوى إحدى الساحات في صراع شامل بين المحور الأمريكي الإسرائيلي، ومحور إيران والمقاومة، وهو ما قد يحوّل المنطقة إلى ساحة حرب مفتوحة.
ختاماً، الحقيقة هي أنّه ما من مُنتصر. الخطة لا تحقق انتصاراً لنتنياهو ولا لحماس، هي فقط تُظهر مدى سقوط العُروبة عند دول الإقليم العربية التي أيّدت وأشادت بخطة الرئيس الأمريكي ترامب، التي ما هي سوى وصايةٍ أمريكية وانتدابٍ بريطاني واجتثاثٍ للمقاومة. إسرائيل لم تحسم عسكرياً، حماس لم تظفر بإنجاز سياسي، والسلطة الفلسطينية والعرب اصطفّوا خلف واشنطن بلا ضمانات حقيقية. وحده المدني الفلسطيني الأعزل يظل الخاسر الأكبر، يعاد إدخاله في تجربة “إدارة انتقالية” تعيد إنتاج إخضاعه بدل تحريره.
المنطقة واضح أنها خاضعه للضغط الأمريكي من أجل تنفيذ صفقة القرن من جهة، ومن جهةٍ أُخرى الضغط الصهيوني من أجل تنفيذ مشروع إسرائيل الكُبرى. وهذه تجربة لُبنان مع اتفاق وقف إطلاق النار والرعاية الأمريكية له. وبكل الأحوال “إسرائيل ستفعل ما يجب عليها فعله” إذا لم تخضع المقاومة لهذه الخطة، حسب قول ترامب.
فهل هذه الخطة ستؤدي لذات نتيجة التجربة السابقة في غزة بعد انسحاب إسرائيل عام 2005، التي قادت إلى حصار خانق وانقسام سياسي مرير، دون أن تثمر عن دولة أو كيان مستقر؟.
