عودة الصراع الاجتماعي في المغرب عبر حراك “جيل زد”
بقلم توفيق المديني
يعيش المغرب منذ أسبوع بوادر انتفاضة اجتماعية جديدة تنخرط فيها مجموعة “جيل زد” (الأشخاص الذين ولدوا بين عامي 1997 و2012)، إذ ركزت الشعارات التي رفعت على التعليم والصحة والعمل ومحاربة الفساد والعدالة الاجتماعية.
على مدى أيام هذا الأسبوع خرجت مجموعة من الشباب تطلق على نفسها اسم “جيل زد”، فجأةً من شبكات التواصل الاجتماعي لتتحوّل قوةً حقيقيةً في الشارع المغربي، وواحدة من أكبر الحركات الاحتجاجية حجماً منذ حركة “20 فبراير” (2011)، النسخة المغربية من انتفاضات “الربيع العربي”، و “حراك الريف” (2017)، عابرةً المدن والقرى، ومعبّرةً عن غضب اجتماعي تراكم طويلاً، ودعتْ إلى التظاهر في المدن الكبرى، بينها الدار البيضاء والرباط ومراكش ومكناس وأغادير، من أجل تحقيق مطالب اجتماعية صرفة: تحسين الخدمات الصحّية، ضمان تعليم عمومي مجّاني وذي جودة، وتوفير فرص العمل للشباب العاطل وتحقيق العدالة الاجتماعية، لكنّها في الوقت نفسه أعلنت رفضها الانخراط في الأحزاب والنقابات أو الارتهان لأجندات أيديولوجية، ما جعلها تبدو كائناً سياسياً جديداً يرفض القوالب القديمة.
كما أنشأت هذه المجموعة الشبابية قنوات جهوية وفضاءات للنقاش، واستضافت نقاشات مع صحافيين وأكاديميين تركزت حول ملفات ذات أولوية في المغرب، منها الصحة والتعليم وفرص العمل ومحاربة الفساد. في حين كان لافتاً للانتباه تأكيد الواقفين وراء المبادرة أن تحركهم “سلمي ويهدف إلى الإصلاح داخل إطار الدولة ومؤسساتها”، مشدِّدين على دعمهم للملكية باعتبارها “ضامناً للاستقرار”. وفي نقاشاتهم عبر تطبيق ديسكورد، حرص القائمون على المبادرة على التأكيد على ضرورة استخلاص العبر من تجارب احتجاجية سابقة مثل “حركة 20 فبراير” و”حراك الريف” وجرادة، رافضين أي “توظيف سياسي أو تدخل خارجي”.
أزمة العولمة الليبرالية وعودة الصراع الطبقي
منذ أكثر من ثلاثة عقودٍ، أي منذ انتصار العولمة الليبرالية، وتحرير الاقتصاد، وفتح الأسواق، وتعديل النظام الضريبي، وإخضاع دول العالم العربي لهيمنة شركات أجنبية ووكلاء محليين فاجرين وجعلها دولاً مستتبعة وفق الأسس النيو/كولونيالية المستترة والمعلنة، سادت فكرة أن الاحتجاج الاجتماعي لم يعد محرّك التاريخ، وأن صراع الطبقات قد انتهى، وأن قوى السوق ستجد حلولاً لمشاكل البؤس والتنمية.
وبدت الثورة الاجتماعية والسياسية شبحاً مطروداً من قبل المدارس الفكرية والسياسية السائدة في عالمنا العربي، لا سيما أن غالبية الأحزاب والحركات الأيديولوجية العربية أيقنت أن الثورة ترقد الآن في مقبرة التاريخ. لكن الحراك الشبابي المغربي أظهر خطأ ذلك كلّه. الأمر الذي له دلالته الكبيرة هو أنَّ هذا الحراك الاجتماعي الكبير وقع في المغرب، البلد الذي كان يتم تقديمه على أنّه نموذج اقتصادي ناجح، بفضل شراكته الاقتصادية مع الشركات الصهيونية العالمية، التي تستخدم المغرب كسنترال للتغلغل الاقتصادي في إفريقيا.
يأتي الحراك الشبابي المغربي في سياق حراك اجتماعي عالمي مناهض للعولمة الرأسمالية المتوحشة، بدأت في سنة 2007 – 2008، مع انفجار أزمة الرهن العقاري، ثمَّ مع الانفجار الشعبي في مملكة النيبال، وبنغلاديش، وسريلانكا، قبل أن تصل إلى أفريقيا جنوب الصحراء في كينيا ومدغشقر. انتفاضات شبابية مشابهة قادها أفراد “جيل زد”، مستخدمين الأدوات الرقمية نفسها، واللغة الاحتجاجية نفسها التي تجمع بين بساطة المطالب وجرأة الموقف. واليوم، المغرب أول بلد عربي وأفريقي شمالي يواجه هذه الموجة، ما يضعه في قلب ظاهرة عالمية تعيد تعريف السياسة من خارج قنواتها التقليدية.
فالقارئ الموضوعي للحراك الشبابي المغربي، يصل إلى نتيجة محددة وهي أن جذره واحد، وهو اقتصاديّ اجتماعي بامتياز ينبعث من هيمنة الشعور بالظلم، في ظل تفشي أزمة البطالة، لا سيما بطالة حاملي الشهادات الجامعية من الشبان، وتوجيه استثمارات ضخمة على حساب خدمات أساسية، إلى مشاريع رمزية مثل تنظيم كأس العالم 2030، بينما القرى والمناطق المغربية المهمّشة تعاني نقص الماء والطرق والخدمات الأساسية، كلّها عناصر غذّت حالة الاحتقان الاجتماعي. هذه الخلفية جعلت ظهور “جيل زد” أشبه بانفجار مكتوم منذ سنوات، وليس مجرّد ارتجال شبابي عابر.
وقد شارك في هذا الحراك شباب الطبقات المعوزة، وشارك فيها أيضاً شباب الأحياء الغنية الذين أظهروا بسالة غير متوقعة منهم للتصدي لرجال الشرطة وابتداع وسائل احتجاجية طريفة أربكت هؤلاء. لقد شكلت المطالب لهذا الحراك الشباب المغربي: محاربة الفساد، وخلق فرص العمل للعاطلين عن العمل، وتحقيق العدالة الاجتماعية: وحرية استعمال الأنترنت، “الأيديولوجيا” الملموسة لهذا الحراك الاجتماعي، الذي لم يكن، لا إسلامياً ولا ماركسياً ولا قومياً. إنَّه حراك جيل جديد من شباب في مقتبل العمر، يرفض التسميات الأيديولوجية، لكنّه يمتلك وعياً سياسياً متّقداً، وله قدرة لافتة على التنظيم السريع والمرونة التكتيكية، يرفض الانتظار، ويصرّ على مطالب ملموسة وآنية وحلول فورية.
أزمة النموذج الاقتصادي المغربي
كثر الحديث خلال العقد الماضيين عن “معجزة” الاقتصاد المغربي، وعن أن المغرب تحول إلى نموذج ناجح للتنمية يحتذى به، وهو ما تحاول المعطيات الماكرو اقتصادية الترويج له. وهذا ما جعل المغرب يحظى بسمعة جيدة في المجال الاقتصادي، ولا سيما من قبل المؤسسات المالية الدولية، والدول الغربية عامة، وفي الواقع حصل هذا بسبب التطبيع الذي أقامه النظام الملكي المغربي مع الكيان الصهيوني، وارتباط استثمارات الشركات المغربية في إفريقيا مع الاقتصاد الصهيوني المعولم، كواجهة له.
على الرغم من حرص الخبراء المغاربة على التأكيد بأنَّ رأسمالية السوق ما زالت هي الأداة الأكثر فاعلية لتحقيق النمو الاقتصادي ولرفع مستوى المعيشة، إلا أنَّهم أصبحوا يدعون إلى إجراء تحديث اجتماعي لدعوة الرأسمالية الليبرالية المغربية المنخرطة في نظام العولمة الرأسمالية الليبرالية الأمريكية المتوحشة، إلى خلق فرص عمل للشباب، الذي لن يتأتى عبر الاعتماد على الشركات التي تسعى إلى تحقيق الربح، وتتبنى سياسات تفضي إلى التخلي عن فرص العمل.
الخبراء الحريصون على تحقيق السلم الاجتماعي، يطالبون بالتخلي عن المقاربة التي تنادي بتراجع الدولة عن الشأن الاقتصادي، فهم يتصورون أنَّ الاستجابة للحاجيات على مستوى فرص العمل تستدعي تضافر جهود الدولة والشركات وحتى المجتمع الأهلي. ويخلصون إلى أنَّ توفير فرص عمل للشباب الذي يعاني من ويخلص إلى أن توفير فرص عمل للشباب الذي يعاني من انتشار البطالة بين فئاته المختلفة، يفرض التفكير في جميع المناطق، بما في ذلك الأرياف، وعدم تركيز المشاريع في المدن الكبرى حصراً.
السؤال المطروح مغربياً في الوقت الحاضر، هل تستطيع فلسفة الليبرالية الجديدة التي يتبناها النظام الملكي المغربي إيجاد حلول للأزمات المتعاقبة والمتداخلة؟.
من يتابع تصريحات المسؤولين المغاربة ورواد الليبرالية الجديدة وكتابات الخبراء والمختصين وفعاليات الأسواق المالية، لا يساوره شك في أنَّ الحراك الشبابي المغربي “جيل زد” ليس عابراً أو ظرفياً، ومن الصعب جدا احتواؤه وتطويقه بالسرعة المنشودة ولو بضخ المليارات تلو الأخرى.
وتشير النقاشات التي شهدتها مجموعة “212 GenZ” في المغرب عبر منصة “Discord” إلى أن هدف تحركها يكمن في الرغبة بتنظيم تظاهرات سلمية من أجل إصلاح التعليم والصحة التي كانت في الفترة الأخيرة موضوع انتقادات بسبب تراجع مستوى الخدمات في المستشفيات. كما تطالب بإصلاح العدالة ومحاربة الفساد وتوفير فرص عمل للشباب وتحسين المهارات المهنية.
وتشير بيانات الإحصاء العام للسكان والسكن، والذي أجري في العام الماضي، إلى أن عدد الشباب البالغ من العمر بين 15 و29 عاماً، يصل إلى 8.2 ملايين نسمة، من بين إجمالي سكان يقدر بحوالي 36.8 مليون نسمة. ويستفاد من بيانات المندوبية السامية للتخطيط الحكومية، أن تلك الفئة من السكان، تمثل 5.9 ملايين شخص في سن النشاط، غير أنه يتجلى أنه إذا كان معدل البطالة العام وصل في العام الماضي إلى 13.3% خلال العام الماضي، فإنه قفز بين المتراوحة أعمارهم 15 و24 عاماً إلى 36.7% وحاملي الشهادات إلى 19.6%.
غير أنه يستفاد من تفاصيل بيانات المندوبية للتخطيط حول الشغل والبطالة، أن معدل البطالة بين المتراوحة أعمارهم بين 15 و24 عاماً في المدن يقفز إلى 48.4% و21.4% في الأرياف. وهو معدل يصل على التوالي في المدن والأرياف بين البالغين 25 و34 عاماً إلى 26.2% و9.1%.
وكانت الحكومة المغربية التي تنتهي ولايتها في العام المقبل، وعدت بتوفير مليون فرصة عمل على مدى خمسة أعوام بمعدل ألف فرصة عمل في العام، إلا أن النمو الاقتصادي الضعيف والهش، دفعها إلى السعي لخلق فرص مؤقتة عبر برنامجي “فرصة” و”أوراش”. ولم يتمكن المغرب في الأعوام الأخيرة من بلوغ معدل نمو اقتصادي قوي يوفر فرص عمل تستوعب جزءاً كبيراً من الشباب المقبل على سوق العمل، إذ لم يتجاوز في المتوسط 3%، في الوقت الذي أوصى النموذج التنموي بنقله إلى 6%. وكان تقرير صادر عن المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، قد نبه إلى أن 4.3 ملايين مغربي لا يمارسون عملاً ولا يتابعون تدريباً فنياً ولا يدرسون، من بينهم 1.5 مليون شخص تتراوح أعمارهم بين 15 و24 عاماً.
ردُّ الحكومة المغربية
لقد تجاهل النظام المغربي وصول معدلات البطالة بين الشباب الذي يحمل شهادات جامعية، وسوء الأوضاع الاقتصادية في المحافظات المحرومة والمهمشة في الوسط الغربي والجنوب المغربي، وتحوّل الفوارق الطبقية بين الأغنياء والفقراء إلى هوة سحيقة تطول كل مناحي الحياة، وأهمل أهمية العدالة الاجتماعية كمسألة سياسية أساسية لا يجوز التهاون فيها، واعتمد على السياسات النيو/ليبرالية من دون ضوابط ومن دون التفات كافٍ إلى قضايا توزيع الثروة والبطالة والأمية والفقر الخ.. ولم يفعل وزراؤه الكثير للتعامل مع هذه الأزمات. وحين بدأ الحر اك الاجتماعي الحالي، واجهته الدولة البوليسية المغربية بالقمع، وهراوات الأمن الرسمي وغير الرسمي، الأمر الذي قاد إلى اتساع نطاق الحراك وتحوله إلى انتفاضة اجتماعية بكل المقاييس حتى الأيام الأخيرة.
ومنذ اندلاع الاحتجاجات الأسبوع الماضي، تواجه حكومة عزيز أخنوش أكبر امتحان شعبي لها منذ تشكيلها في 8 أكتوبر/ تشرين الأول 2021، بعد أن وجدت نفسها، على بعد سنة من انتهاء ولايتها، أمام موجة احتجاج شبابية غير مسبوقة. وعلى الرغم من التزام الحكومة الصمت منذ انطلاق الاحتجاجات، أكدت رئاسة الأغلبية، عقب اجتماعها اليوم “حسن إنصاتِها وتفهمَها المطالب الاجتماعية، واستعدادَها للتجاوب الإيجابي والمسؤول معها”.
وذكرت رئاسة الحكومة المغربية أنَّها تعمل وفق توجيهات الملك محمد السادس الأخيرة حول اعتماد برامج جديدة للتنمية الترابية، مؤكدةً “انخراط الحكومة في بلورة تلك التوجيهات ضمن مشروع قانون المالية 2026، لا سيما ما يتعلق بالتأهيل الشامل للمجالات الترابية، وتقليص الفوارق الاجتماعية والمجالية، وفق رؤية تنموية متوازنة وشاملة”. وأضاف البيان أن الحكومة “منفتحة على اقتراحات كل القوى الحيّة التي يمكن أن تساهم في تحسين المنظومة الصحية وتلبية طموحات المواطنين”.
خاتمة
يُعَدُّ حراك الشباب المغربي “جيل زد” فاعلاً جماعياً جديداً، يمتلك طاقةً سياسية من خارج المؤسّسات التقليدية على اختلاف انتماءاتها الفكرية والسياسية: الأحزاب السياسية والنقابات التي ترهلت. فالنظام المغربي الذي يقوده الملك محمد السادس، نظامٌ فاسدٌ بامتيازٍ، يدافع عن مصالح العائلة الحاكمة والمتوارثة للملكية والطبقة السياسية الموالية له، نظامٌ مرتبطٌ وتابعٌ للإمبريالية الأمريكية، ويقيمُ علاقات تطبيع عضوية: استراتيجية سياسية وعسكرية وأمنية مع الكيان الصهيوني، من أجل بقائه في الحكم.
وفضلاً عن ذلك، أقام هذا النظام دولة بوليسية في المغرب صادرت الحريات العامة، وقمعت الصحافيين الذين ينتقدون سياسات الملك اللا/وطنية، وزجت بهم في السجون، ودجَّنتْ كل الأحزاب السياسية، وأضعفتْ النقابات إلى درجة أنَّ الشعب المغربي (ومعه في ذلك كل الشعوب العربية)، لم يعد يؤمن بفاعلية هذه الأحزاب السياسية والنقابات، لأنَّها تحولت إلى مؤسّساتٍ شكليةٍ فاقدةٍ للمصداقية. وحتى الحكومة الحالية برئاسة عزيز أخنوش أفرزتها انتخابات مطعون في نزاهتها. فقد استعادت السلطة الملكية السلطات القليلة التي ظلت بين أيدي الحكومة.
ليس من شك في أنَّ انتظارات الشعب المغربي كبيرةٌ، وتتمثَّلُ في إحداث انفراجٍ سياسيٍّ حقيقيٍّ: إطلاق سراح المعتقلين السياسيين، مراجعة المقاربة الأمنية وإعادة هيكلة قطاع أمني حوّل المغرب دولةً بوليسيةً، فتح المجال أمام صحافة حرّة وتوسيع هامش وسقف النقاش العمومي، وإعادة بناء الثقة بين الدولة والمجتمع في المغرب، عبر إحداث انقلاب فعلي في العلاقات بين سلطة المخزن و المجتمع المدني، بما يسمح بالانطلاق من تطوير أجهزة الدولة، و تحسين عمل المؤسسات، أي وضع القوانين الأساسية لتطور ديمقراطي سليم، يسير في اتجاه ترسيخ دولة الحق والقانون، وتقوية دور الأجهزة الحزبية، و النقابات، وجمعيات المجتمع المدني. ولو تحقق مثل هذا الانقلاب في العلاقة بين سلطة المخزن والمجتمع المدني، فإنَّ تحولاً راديكالياً سيطرأ على طبيعة الديمقراطية عينها: فمن ديمقراطية تمثيل ستتحول أيضاً إلى ديمقراطيةٍ مشاركةٍ… والديمقراطية إما أن تكون تشاركية وإما لا تكون ديمقراطية أصلاً.
