فضاءات فكرية

الجامعاتُ العربية.. واقعٌ صعب ومريرٌ يفضحه غياب التّصنيف العالمي

بقلم: نبيل علي صالح / كاتب وباحث سوري

لكن الوضع في العالم العربي على هذا الصعيد يبعث على التشاؤم والاحباط؛ إذ يبدو أن معظم بلداننا العربية ما زالت بعيدة كل البعد عن ميادين التقدم العلمي الجامعي، خصوصاً على صعيد البحث العلمي على المستوى العالمي.. بما يعني عملياً أن العالم العربي لا يزال يقف على هامش حركة العلم والبحث العلمي الجاد والمؤثر والمنتج.

ولعل الشاهد الأهم على هذه الهوة لا يبرز فقط في طبيعة الواقع الملموس المتدني والمترهل للبنى التحتية العلمية والمختبرية في جامعاتنا، ولكن أيضاً في التقارير والإحصائيات الصادمة التي تصدر دورياً عن مراكز الدراسات الموثوقة، سواء المحلية منها أو العالمية.

ومن المعطيات المفزعة أيضاً في هذا السياق، أن الخريطة الجامعية العربية تخلو تماماً من أي وجود مؤثر في قوائم أفضل الجامعات على مستوى العالم. فمن بين ما يقارب خمسمائة جامعة تحتل المراتب المتقدمة في التصنيفات الدولية المعترف بها، لا نجد اسماً عربياً واحداً يستحق الانضمام إلى هذه النخبة من المؤسسات الأكاديمية المرموقة، سواء من ناحية حجم الإنتاج البحثي الرصين، أو ضخامة الميزانيات المخصصة للتطوير والابتكار، أو عدد براءات الاختراع المسجلة دولياً.

وعادةً ما يتمُّ إرجاع أسباب أو مسببات هذا التخلف العلمي عندنا إلى ضحالة أو شحّ الموارد المالية، وغياب الخطط الاستراتيجية الحقيقية للبحث العلمي، مما يؤدي إلى ندرة في الأبحاث العلمية ذات الجودة العالية، أو انعدام فعاليتها بشكل يسمح لها بالمنافسة دولياً مع كثير من جامعات العالم المتقدم.. ولكن الحقيقة المرة تكمن في أن العديد من جامعاتنا لا تزال تعمل كمنابر للتلقين والحفظ واستهلاك المعلومات بشكل سلبي، بدلاً من كونها مساحات للإبداع والتفكير النقدي والابتكار.

وهنا يبرز سؤال محوري:

كيف يمكن لنا أن نحدث نقلة نوعية في جامعاتنا العربية، لنتجاوز بها هذا الواقع الخطير والمأساوي الذي يرتهن – في معظم البلاد العربية – لرؤى تربوية بالية ووسائل تعليمية عفى عليها الدهر؟! كيف يمكن تحويل هذه الصروح التعليمية التي دفعت أموال كثيرة على إشادتها ككتل عمرانية جميلة ومبهرة شكلياً إلى مراكز حيوية تزخر بالحراك البحثي والفكري الحقيقي، بحيث يمكن توظيف مخرجاتها بشكل عملي وفعال في خدمة قضايا المجتمع وتنميته، عبر إقامة جسور حقيقية بين الجامعة ومختلف قطاعات المجتمع، بعيداً عن الشعارات النظرية الجوفاء؟!!..

ثم كيف لنا أن نتطلع إلى وجود جامعات عربية تتبوأ مراكز متقدمة في ظل استثمار مالي هزيل لا يتجاوز في أحسن الأحوال نصف بالمائة من إجمالي الناتج المحلي لأي قُطر عربي؟!..

والأمثلة على هذا التقصير كثيرة ومؤلمة. ففي دولة بحجم مصر، التي تمتد مساحتها لأكثر من مليون كيلومتر مربع، ويقطنها أكثر من 100 مليون نسمة، وتضم العشرات من الجامعات الحكومية والأهلية، لا يتجاوز ما تخصصه الدولة للتعليم العالي 0,2% من موازنتها العامة. ويذهب القسم الأكبر من هذا التمويل المحدود أساساً لسداد الرواتب والأجور للهيئات التدريسية والإدارية، بينما يذهب الجزء المتبقي – إن وجد – إلى دعم البحث العلمي، وذلك في حال توافرت النزاهة والشفافية في الإدارة..!!.

أما في باقي البلدان العربية، فلا يتعدى الإنفاق القطاع الواحد بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي. والأرقام الأخيرة تشير إلى أن العرب عموماً ينفقون ما بين (0,2 – 1) بالمائة من نواتجهم القومية على البحوث العلمية.. وهي بلا شك أرقام شبه رمزية هزيلة، لا تمتلك أي قدرة حقيقية على إحداث تغيير وتحول نوعي ملموس، وتعكس بكل وضوح عدم وجود إرادة سياسية حقيقية لدى القيادات العربية للاستثمار في العلم والبحث العلمي، مقابل اهتمامها الأكبر بالسيطرة على مقاليد الأمور، وتكديس الثروات، وضمان البقاء في السلطة لأطول فترة ممكنة.. مع أن البحث العلمي والابتكار هما من العوامل الأساسية التي تساهم في تقدم الأمم وتطورها، ويعدان محركين رئيسيين للنمو الاقتصادي والتنمية المستدامة..!!.

وهكذا، في خضم مناخ سياسي عربي عام، يفتقد فيه الفرد للحد الأدنى من الحياة الكريمة، وتكبل فيه الحريات وتُخمد الأصوات الناقدة، ومناخ اجتماعي يعاني من الفقر والبطالة بأنواعها، ومناخ ثقافي تسيطر عليه الخطابات النصية التقليدية والارتهان للماضوية قولاً وعملاً للأسف الشديد، يصبح من المستحيل تقريباً تصور إمكانية قيام جامعات رصينة أو نشوء جيل من الباحثين العلميين الجادين في عالمنا العربي..!.

ومما يزيد الطين بلة، أنَّ الباحث العلمي العربي – تحت وطأة هذه الأنظمة – قد تحول إلى موظف عادي، شغلته الشاغلة تتركز حول سعيه الدائم لتأمين قوت يومه، وضمان راتبه في نهاية الشهر، تماماً مثل أي موظف آخر في القطاع العام. وهذا ما يدفع البعض إلى اللجوء لأساليب غير أكاديمية لتحسين دخلهم، كالانتحال العلمي أو بيع الشهادات أو تزوير الأبحاث، مما يفاقم من أزمة المصداقية التي تعانيها جامعاتنا.

أما بخصوص الحلول والمعالجات الجدية الممكنة، فإنها تبدو سهلة من الناحية النظرية، لكنها عصية التنفيذ في الواقع العربي القائم حالياً، ويمكن تلخيص شروطها في النقاط التالية:

– إيجاد مناخ فكري وثقافي حر:

يعمل على تنمية قدرات الأفراد وتطوير مهاراتهم وفق أسس علمية، ويحفز طاقاتهم الإبداعية، بحيث يصبح الفرد قادراً على البناء والإنتاج، بعيداً عن هيمنة المرجعيات الثقافية التقليدية التي تشكل عائقاً نفسياً وفكرياً أمام التطور. وهذا لا يعني منع الناس من التمسك بمعتقداتهم وتراثهم، بل ضمان ممارسة هذه الحقوق في إطار قيم المواطنة والدولة المدنية التي تحترم التعددية وتنبذ التعصب.

– توفير بنية تعليمية متينة:

تبدأ من مراحل التعليم الأولى، لتعويد النشء على منهجيات البحث والاستقصاء والتحليل، بدلاً من الاعتماد على أساليب الحفظ والتلقين التي لا تنتج سوى أجيال جامدة الفكر. فما نراه اليوم هو أن الطلاب يرددون ما يملى عليهم دون أن يكون لذلك أثر حقيقي في تشكيل وعيهم أو سلوكهم.

– رفع المستوى الأكاديمي:

من خلال معايير قبول أكثر صرامة في المرحلة الجامعية، وتحسين نظام الترقيات لأعضاء هيئة التدريس، وتشجيع المشاركة الفعالة في المؤتمرات وتبادل الخبرات مع المؤسسات الدولية الرصينة.

– ضمان الحريات الأكاديمية:

وهي شرط لا غنى عنه للإبداع، لكنها مرتبطة بشكل عضوي بالمناخ السياسي العام في البلاد العربية، التي لا تزال أنظمتها تقوم في كثير من الأحيان على الولاءات ما قبل الوطنية كالطائفية والعشائرية.

– توفير التمويل الكافي:

أي زيادة نسبة الإنفاق الحكومي على التعليم والبحث العلمي، حيث يجب أن تقوم الحكومات بزيادة تخصيص الأموال للبحث والتطوير والابتكار.. ورفع نسبة الإنفاق على البحث العلمي ينبغي أن يتم رفعها لتكون في حدود ما بين 3-4 بالمائة كحد أدنى من الناتج المحلي ..

إذ أنه من دون وجود وتوفير موازنات ضخمة، لا يمكن اللحاق بالركب العلمي والنهضة العلمية العالمية المتسارعة كماً ونوعاً.. خاصة وأن العرب مجتمعين ينفقون أقل من ملياري دولار على البحث والتطوير العلمي على مستوى القطاعين العام والخاص مجتمعة.. أما الإنفاق الفيدرالي فقط فقد طلب ميزانية تقدر بحوالي 200 مليار دولار للبحوث والتطوير في السنة المالية 2025م.

– تشجيع الاستثمارات الخاصة:

يمكن للحكومات تحفيز الشركات الخاصة على الاستثمار في مجالات البحث والتطوير من خلال تقديم حوافز ضريبية ومساعدات مالية.

– إنشاء صناديق تمويل بحثية:

ينبغي تأسيس صناديق وطنية متخصصة لدعم وتمويل المشاريع العلمية والابتكارية في مختلف المجالات البحثية.

فهل يمكن تحقيق المعجزة في ظل هذه المعطيات القائمة حالياً في وقاعنا العربي؟!..

الجواب مرهون بإرادة التغيير الحقيقية لدى نخب العرب وقياداتهم الزمنية..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *