هامش ثقافي

العمليّة النّقديّة.. والعقلية السائدة

بقلم غسان عبد الله

وحتى يكون الكلام واضحاً أكثر، نقول بأنّ مرحلة بناء الأفكار الصّلبة القادرة على إنتاج مشروع معيّن والتي تمثّل هنا التّفكير العلميّ، لا تتحقّق إلاّ من خلال تحقيق التّفكير النّقديّ البنّاء الذي يُحسن تحليل الأفكار ومُناقشتها حتى تتحسّن وتتطوّر وتزيد صلابة، أو تُعدم وتَسقط فاتحةً المجال لغيرها من الأفكار.

تأسيساً لما سبق، يتأسّف الإنسان لمّا يرى أنّ عالمنا الإسلاميّ والعربيّ لا يُتقن فنّ التّفكير النّقديّ الذي يُمثِّل الإبداع، فكيف به أن يرقى إلى مُستوى التّفكير العلميّ الذي يَجمع بين الإبداع والإنجاز؟.

سنركّز هنا على نوعين من العقليّة السّائدة في المجال النّقديّ فنقول: تتميّز العقليّة الأولى بانتقادها لكلِّ شيءٍ على شاكلة روّاد الملاعب؛ فهي تنتقد الفريق الخصم، وتُصفّر على فريقها، تشتم حكم المباراة وتتشابك مع الأمن، تُكسّر كلّ ما تجده أمامها ولا ترضى بأيّ بديل. فهي تُمثّل الفوضى في الانتقاد، الخلاّقة لكلّ أشكال الفساد. إنّها ببساطة عقول الملاعب والّتي شاءت حكمة الله سبحانه أن يكون لهذه العقول ما يماثلها في الجانب العلميّ والأكاديميّ من أناس قد أرغموا على ركوب سفينة العلم، ولكن لم يغيّروا من عقليّة الملاعب. ولذلك ترى بعضهم ينتقد كلّ شيء من أجل لا شيء، اللّهمّ إلاّ انتصاراً للنّفس أو تثبيطاً للآخرين. ومن حيث يظنّ هؤلاء بأنّ انتقادهم هو قمّة العلم والفكر، نقول بأنّ هذا النّوع من النّقد هو أكبر دليل على فقدان الحسّ العلميّ والبناء الفكريّ، بل وعلى الفراغ العلميّ، وضعف التّكوين الشّخصيّ الّذي ينتج النّقد المتبوع بالبناء.

ومع الوقت، قد يُبتلى أصحاب هذه العقول بأمراض فكريّة يصعب الشّفاء منها علميّاً. فيُصبح الواحد منهم يتسّرع في إعطاء الأحكام والنّقد، والدّخول في صراعات لا طائل منها ولا استفادة، الرّابح منها خاسر، فكيف للخاسر أن يُترك له مجال للرّبح؟ بل ويتعدّاه إلى كسب العداوات وطمسٍ للحقّ؛ لأنّ الهدف من النّقد عند ذاك هو تحقيق (الأنا) المفقود واقعيّاً، وقد يُتبع بالحسد للآخر المتفوّق علميّاً.

وبعد تمييز هذه الخطوة، يأتي الدّور ثانياً على القدرة في فهم الفكرة التي يُرجى انتقادها، ومن الأمانة أن تُفهم الأفكار كما أرادها أصحابها، وليس كما يريد بعض النّاس توظيفها. فكم من طامّة وقعت من أتباع أمّة السّند ونقد المتن، بسبب تركهم اتّباع السّند في النّقد أو بانتقاد المتن، سواء كان مكتوباً أو مسموعاً، ولكن هذا النّقد يكون كما فهمه الآخرون، لا كما ذكره أو رواه أصحابه؛ فيحدث ما يُسمّى النّقد بالوساطة. أمّا المرحلة الثّالثة فهي مرحلة طرح الاحتمالات الممكنة للفكرة، ثم اختيار أقربها إلى الفهم والتحليل والنّقد. لأنّه أحياناً قد يتمّ التّركيز على جملة أو كلمة من المكتوب أو المسموع، وننسى البناء الكلّي لما كُتِبَ وسُمِع، فيحدث الخلل على شاكلة من يَفهم ﴿فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ﴾، ويتوقّف عن باقي الكلام المتمّ للفائدة.

ثمّ تأتي المرحلة المهمّة وهي مخرجات النّقد. فيُعطى التّحليل والرّأي الّذي ظهر بأنّه الصّواب، المركّب أساساً من قدرة فهمك لما تنتقد، وقدرة توقّعاتك لما سيُبنى بعدها حتّى ولو لم يكن البناء من اختصاصك؛ إذ قد يكتفي الإنسان بالنّقد أحياناً بدل إعطاء البديل الكامل، ولكن توفّر البديل الجزئيّ، أو ما يُسمّى بتصوّر الحلول الممكنة واجب في مرحلة النّقد. وهكذا، فإنّ أهم ما تُنتجه هذه العمليّة هي التوقّف عن انتقاد كلّ شيء، فيُصبح انتقادك هادفاً ومحدّداً وفي أمور تستحقّ النّقاش أو الفصل فيها أو التّحسين.

أمّا العقليّة الثّانية، فتكمن مشكلتها في توظيفها للمعيار الأيديولوجيّ والانتمائيّ بطريقة سلبيّة في مرحلة النّقد. فمن المسلّم به عند هؤلاء هو توفّرهم على قوّة في التّفكير واكتسابهم لرصيد علميّ لا بأس به، ولكن يوظّف أيديولوجيّاً، ويُصرف لخدمة طَرف ضَيّق معيّن لا يستسيغ التّعميم ولا يَقبل بالتّقسيم، بل ويكون أحياناً خادماً لمصالح ذاتيّة شخصيّة، وبالتّالي يُصبح تفكيرها النّقديّ خادماً لاحتياجها الماديّ. ويُمكن إبراز ثلاثة أصناف من هذه العقليّة وهي:

أوّلاً: انتقاد المخالف لإثبات الذّات.

ثانياً: وجود مشكلة عدم التّفريق بين الجزء والكلّ وبين الخاصّ والعامّ.

ثالثاً: استعمال البعض ما يُسمّى بالانتقاد الانتقائيّ أو الثّانويّ. بحيث يُنتقد الأضعف في المنظومة الفكريّة المخالفة، أو يُنتقد المتعاطف مع الفكرة لا صاحب الفكرة ذاتها.

وكخُلاصة نقول بأنّ أيّ عمليّة نقديّة تكون مبنيّة على مرجعيّة معيّنة في التّفكير. وهذا التّفكير هو الذي يخوّل فهم الأفكار الأخرى والحكم عليها. فتكون الموافقة على الأفكار أو انتقادها هي ذاتها عمليّة مؤصّلة ومبنيّة على فهم وعُمق، ثمّ تليها عمليّة النّقد البنّاء الذي يُراعي الاختلاف والتنوّع وليس الانغلاق والتَحجّر. وبعد هذا، فإنّ علاقتنا بالآخر هي علاقة احترام وعلم متبادل، يُسعى من خلالها إلى تحقيق الحقّ، وليس علاقة صراع وتناحر تَسعى إلى إثبات الذّات والتّفلسف في الكماليّات والمرجوح من الأفكار.

كما أنّه يجب علينا الاستفادة من كلّ ما يُهمّنا ويفيد أمّتنا. وكذلك نقول بأنّ العلم وحده لا يكفي من دون الأخلاق والقيم التي تلازم صاحبها، سواء من حيث تلقّي العلم أو من حيث رؤية الآخر والتّعامل معه؛ لأنّ العدل لا يعني بأن تكون صاحب الحقّ المطلق، وتلزم الآخرين على الاتّباع، بل العدل أن تَتّبع الحقّ ولو كان مع من غلب ظنّك بأنّهم ليسوا أهلاً لذلك. فالنّقد يراعي ألوان التّفكير؛ لأنّ العلم الشرعيّ أو التّفكير العلميّ ليس أيديولوجيّة منغلقة نتّبعها في نقدنا للآخر، بل هو عمليّة منفتحة تستوعب الآخرين وتفهمهم قبل أن تنتقدهم، وبعد النّقد قد تقبله وتحسّن من أدائه أو تعزل أفكاره الفاسدة وغير المهمّة، فتَفتح بذلك الطّريق على الأفكار الأخرى، ويمكننا إعادة نفس العمليّة النّقديّة معها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *