إثرَ اغتيال “طبطبائي” القيادي الكبير في “حزبُ الله”: “إيران” تُهدِّد “إسرائيل”
بقلم زينب عدنان زراقط
لم يكن اغتيال القائد العسكري البارز في حزب الله، أبو علي طباطبائي، حدثاً عابراً في سياق المواجهة الممتدة بين المقاومة اللبنانية وإسرائيل. فالرجل كان من الأعمدة الأساسية في بنية القرار العملاني داخل الحزب، واغتياله كشف حجم التغيير الذي أصاب استراتيجية تل أبيب في التعاطي مع لبنان.
إلا أن الأهم من ذلك هو التحوّل الذي ظهر في طهران، حيث بدا واضحاً أنّ إيران لم تعد تنظر إلى هذه العملية بوصفها “استهدافاً لبنانياً”، بل كجزء من صراع أشمل يتّصل مباشرة بالأمن القومي الإيراني.
اذاً، كيف تغيّرت حسابات إيران وحزب الله بعد الاغتيال؟ وماذا تكشف طبيعة العملية عن مستوى الاختراق الأمني الإسرائيلي؟ وفي المقابل كيف خرقت المقاومة الترسانة العسكرية الأمريكية جراء خطأ تكتيكي إسرائيلي في ميدان العملية؟ وما شكل الرد الممكن الذي لا يورّط محور المقاومة في حرب شاملة ولا يسمح لإسرائيل ببناء معادلة ردع من طرف واحد؟.
اغتيال طباطبائي…
أ- ردود الفعل الأوليّة: أدّى اغتيال أبو علي الطباطبائي إلى نقاش داخلي واسع داخل محور المقاومة حول كيفية إدارة المرحلة المقبلة. وتُظهر المؤشرات أن قرار الرد لم يعد شأناً لبنانياً صرفاً، بل أصبح ملفاً إيرانياً بامتياز. حيثُ صدر عن الحرس الثوري الإيراني بيان حمل نبرة مختلفة تماماً، جاء فيه أنّ “إيران لن تسمح بتمرير هذا الاعتداء من دون ردٍّ حاسم”، وهو ما أعطى انطباعاً بأن الملف انتقل فعلاً من بيروت إلى طهران، وأن الحسابات لم تعد محصورة بحدود جنوب لبنان.
الطبطبائي شغل مناصب قيادية بارزة داخل هيكلية الحزب، وخصوصاً في الوحدات العملياتية والأمنية، ما جعله عنصراً محورياً في التنسيق مع الحرس الثوري الإيراني. فكما ذكرت مصادر متابعة للشأن الأمني، فإن “علاقته بإيران لم تكن مجرد علاقة عابرة، بل كانت شراكة استراتيجية في التخطيط العملياتي والدعم اللوجستي والتدريب العسكري”، ما جعل من استهدافه ضربة ليس لحزب الله فحسب، بل لتوازن القوى بين الحزب وإيران في مواجهة التهديدات الإسرائيلية. كما صرح مسؤول إيراني سابق: “أبو علي كان أحد القادة القلائل الذين نفذوا استراتيجية مشتركة بين حزب الله والحرس الثوري الإيراني على أعلى مستوى، وهو ما يجعل أي استهداف له مسألة حساسة للغاية بالنسبة لإيران”.
من جهتها، لم تُخفِ إسرائيل سرورها بالضربة، إذ نقلت قنواتها العبرية أنّ الاغتيال “أصاب قلب المنظومة العملياتية للحزب”، في إشارة واضحة إلى أهمية الرجل داخل الهيكل القيادي، ما يعني أن إسرائيل لم تعُد تكتفي بعرقلة العمليات الجارية على الحدود، بل تتجه إلى تقويض البنية القيادية العليا للمقاومة، وهو تطوّر بالغ الخطورة.
إلاَّ أنَّ نشوة “إصابة الهدف” لم تنأى بها عن حالة “الترقب والخوف”. فمنذ عملية الاغتيال، بادرت إسرائيل إلى اتخاذ سلسلة من التدابير الأمنية الاستثنائية، ما يعكس حجم قلقها من الرد المتوقع من حزب الله وإيران. وفقاً لتقارير متابعة للأحداث، فقد تم تحريك منظومة الدفاع المدنية، وتعزيز انتشار قوات الجيش في المناطق الشمالية المحاذية للحدود اللبنانية، مع إشعار المستوطنين والتحذيرات المتكررة بخصوص احتمالية شن هجمات صاروخية. كما أظهرت الصور الجوية والتحليلات الاستخباراتية أن إسرائيل قامت بتكثيف المراقبة الجوية والمراقبة الإلكترونية على طول الحدود.
ب- طهران تدخل المشهد مباشرة: في الساعات الأولى بعد الاغتيال، ظهر أن قرار الرّد لا يعود لحزب الله وحده. إذ أعادت طهران ضبط الإيقاع السياسي والعسكري للعملية، وجرى التعامل مع الرد بوصفه ملفاً استراتيجياً لا يمكن تركه في إطار الخيارات التكتيكية. وجاء تصريح أحد المسؤولين الإيرانيين، والذي نُقل عن وكالة “إرنا”، ليعكس هذا المزاج: “نحن الضامن لاستمرار المقاومة، وعندما تُستهدف قياداتها، فإنّ أمننا القومي نفسه يصبح على المحك”.
هذا التصريح عكس ثلاث رسائل أساسية:
أولاً، أنّ إيران تعتبر أن استهداف القيادة العليا لحزب الله يمسّ مباشرة بتوازن القوى الإقليمي.
ثانياً، أنّ الرّد لن يكون انفعالياً، بل محسوباً بما يمنع إسرائيل من التحكم بتوقيت الحرب.
ثالثاً، أنّ طهران بدأت ترى أنّ سياسة “الصبر الاستراتيجي” التي اعتمدتها طوال الأشهر الماضية وصلت إلى حدودها القصوى. في هذا السياق، يروي أحد الباحثين الإيرانيين المقربين من دوائر القرار – نُقل عنه في صحيفة شرق الإصلاحية -: “المطلوب ليس رداً يُرضي الشارع، بل رداً يغيّر قواعد اللعبة”.
ت- اختراقات أمنية مقلقة: أخطر ما في العملية لم يكن القصف، بل المعلومات التي رافقته، حين ظهر أنّ تل أبيب لم تكن تعرف الأسماء فقط، بل كانت على علم بـ: مكان الاجتماع، توقيته، والمسار الذي اتّبعه بعض القياديين. صحيفة هآرتس الإسرائيلية ذهبت أبعد من ذلك، وقالت إن العملية “استهدفت غرفاً محددة داخل المبنى”، ما يعني أن الهدف لم يكن المبنى بحدّ ذاته، بل الأشخاص الموجودون فيه.
وتضاعفت المخاوف عندما نشرت وسائل الإعلام الإسرائيلية، بعد ساعات من الاغتيال، قائمة المرشحين المحتملين لخلافة طباطبائي، بينهم محمد حيدر وطلال حميّة وخضر ناصر الدين. معرفة إسرائيل بهذه الأسماء – قبل اتخاذ الحزب قراره الداخلي – أثارت الريبة داخل المؤسّسة الأمنية اللبنانية. هذا المستوى من المعرفة لا يأتي إلا من قدرة استخباراتية ممتدة، فعندما يعرف العدو أسماء المرشحين قبل اختيارهم، فهذا يعني أننا أمام اختراق نوعي يجب التوقف عنده.
إلاَّ أنه التعاطي مع مسألة الخرق الأمني يحتاج إلى وزن المعطيات، فبطبيعة الحال البيئات الأمنية شديدة التحصين قد تشهد اختراقات في حوافّها لا في بنيتها القيادية، كما أن التعرض لا يعود بالضرورة إلى تسريب داخلي بل قد ينتج عن تراكم معلومات عبر الزمن وتقنيات تحدد حركة الأشخاص وتواجدهم دون الحاجة إلى اختراق إنساني مباشر.
الدقة في إصابة موقع محدد داخل بيئة حضرية مكتظة تشير إلى تثبيت متقدّم للموقع، وقدرة على متابعة دقيقة للنقطة التي وجد فيها الهدف داخل المبنى. هذا النوع من الاستهداف يستند عادة إلى حزمة من الأدوات التقنية: مراقبة فضائية، تصوير حراري، تقاطعات إشارات، وأنماط رصد تُظهر أن القدرة على الوصول إلى الهدف قد لا تكون نتاج خرق بشري بقدر ما هي تفاعل بين المراقبة التقنية والظروف المكانية. العامل الجغرافي يبدو أنه لعب دوراً محورياً، إذ إنّ ضعف النقطة جاء من طبيعة المكان أكثر مما جاء من تحركات الشخص.
الاغتيال جاء نتيجة تراكم استخباري طويل – ومن بعد ثلاث محاولات فاشلة – وتقنيات مراقبة متقدمة استغلت ثغرة مكانية. الحدث لا يعكس انكشافاً شاملاً ولا حصانة كاملة، بل يمثل منطقة وسطى بين القدرة على الصمود وإمكانية الاستهداف الظرفي.
إسرائيل تهتم كثيراً بضرب راجمات أو منصات صواريخ أو أنفاق، بل انتقلت إلى استهداف القيادات العليا ومراكز القرار. الخبير الإسرائيلي ألون بن دافيد وصف هذا التبدّل بقوله: “هذه ليست معركة على الصواريخ، بل على من يضغط على الزر”. هذا الوضع يخلق هامشاً ضيقاً جداً أمام حزب الله. فهو مطالب بالرد، وفي الوقت نفسه مطالب بعدم توريط لبنان. هذا التناقض يضع الحزب في أصعب لحظة منذ 2006، بين واجب الرد وضرورة ضبط النار.
ث- القنابل الأمريكية بحوزة المقاومة: على الرغم من دقة العملية التي نُفِّذت، إلا أنّ الطرفين الأمريكي والإسرائيلي ارتكبا خطأً استراتيجياً فادحاً، بعدما تحوّل ما يُعد فخر ترسانتهم الدقيقة إلى مادة خام قد تنتقل إلى المقاومة وحلفائها، بما في ذلك الحرس الثوري، بما يفتح الباب أمام خسائر استخبارية واسعة.
حيثُ أظهرت المعطيات المرتبطة بالاستهداف استخدام قنابل 39GBU- صغيرة القطر، وهي ذخائر دقيقة التوجيه تزن نحو 113 كلغ، صُممت لضرب أهداف محددة داخل مبانٍ سكنية عبر مسار اختراق دقيق وقابلية عالية لتفادي الأضرار الجانبية.
-وتجدر الإشارة إلى أنّ هذا النوع من القنابل قد استُخدم سابقاً في سلسلة واسعة من عمليات الاستهداف داخل الضاحية الجنوبية وبيروت والجنوب، ما يعكس اعتماده كأداة ثابتة في ترسانة الاغتيالات الدقيقة -. تُطلق هذه القنابل عادة من طائرات 35F- الشبحية أو من النسخ المتقدمة لطائرات 15F-، ما يضع العملية ضمن مستوى مرتفع من التنسيق بين منصات الإطلاق وأنظمة الاستطلاع والمراقبة.
وعلى الرغم من دقة هذا النوع من الذخائر، أسفرت العملية عن بقاء قنبلتين دون أن تنفجرا بعد سقوطهما. وصول هذين الجسمين غير المنفجرين إلى الجهة المستهدفة شكّل مكسباً تقنياً لافتاً إذ إن دراسة الذخائر المتطورة في حالتها السليمة تُعد من أهم مصادر المعرفة الاستخبارية. هذه العينات تتيح تحليل منظومات التوجيه والملاحة، وهيكلية الرأس الحربي، والمواد المتفجرة، إضافة إلى فهم آليات التواصل بين السلاح ومنصة الإطلاق. ولهذا السبب تُعتبر مثل هذه الموجودات “كنزاً معلوماتياً” قادراً على فتح المجال لتطوير وسائل دفاعية مضادة وتقييم حدود القدرات التقنية لدى الخصم بدقة أكبر.

الرّد الإيراني..
مع هذا الضغط المتعدّد، تُدرك طهران أن ترك الحزب وحده سيجعل إسرائيل تستمر في استراتيجيتها بإحكام. لذلك جاء قرار نقل ملف الرد إلى مستوى إقليمي، بحيث تتحمل إيران جزءاً من الكلفة الاستراتيجية، وتتيح للحزب هامشاً أكبر للمناورة.
وقد عبّر مسؤول إيراني سابق عن هذا التوجه في مقابلة مع صحيفة اعتماد الإصلاحية: “نحن نتحمل المسؤولية لأن المقاومة تشكّل خط الدفاع الأوّل عن الجمهورية الإسلامية”. هذا التصريح ليس مجرد تضامن سياسي، بل يعكس تحوّلاً في بنية إدارة الملف: فإيران تريد أن تبقى “الضامن” للحزب، وأن تمنع إسرائيل من تحقيق هدفها الأكبر: تفكيك البنية القيادية لحزب الله على المدى البعيد.
– ماذا عن الرد؟ بين الرد التكتيكي والرسالة الاستراتيجية بطبيعة الحال، السؤال الأكبر الآن هو: كيف سيكون الرد؟.
هنا تتعدد السيناريوهات، لكن المؤشرات تميل إلى أنّ الرد لن يكون “محلياً” أو “محدوداً”. فالقيادة الإيرانية تدرك أن أي رد من جنوب لبنان سيكون محسوباً من قِبل إسرائيل، وربما تستعد له مسبقاً. لذلك قال أحد المقرّبين من الحرس الثوري، وفق نقل صحيفة إيرانية: “قيمة الرد ليست في قوته فقط، بل في مكانه وزمانه”.
– هذا يعني أن الرد قد يكون في: ساحة غير متوقعة، في توقيت غير متوقع، وبطريقة تضمن إيصال رسالة ردع من دون فتح حرب شاملة.
سيناريوهات المرحلة المقبلة.. تتّجه المنطقة إلى ثلاث احتمالات:
الأول: تثبيت معادلة ردع جديدة من خلال ضربة إيرانية نوعية تغيّر قواعد الاشتباك دون توسيع الحرب.
الثاني: جولة تصعيد محدودة تسمح لكل طرف بحفظ ماء الوجه دون تجاوز “الخطوط الحمراء”.
الثالث: حرب واسعة، وهو الاحتمال الأقل رغبة لكنه يبقى وارداً ما دامت إسرائيل تبحث عن “نصر استراتيجي”.
خبير إسرائيلي في القناة 12 قال قبل أيام: “نحن نلعب بالنار… وخصومنا يعرفون كيف يردّون عندما يشتعل الحطب”. هذا التصريح يوحي بأن المؤسسة العسكرية الإسرائيلية تعرف أن الرد قادم، لكنها لا تعرف شكله.
ختاماً، في لحظة تشهد المنطقة واحدة من أعقد توازنات القوى منذ عقود، يأتي اغتيال طباطبائي كشرارة تكشف حجم التحولات تحت السطح. إسرائيل تريد تفكيك قيادة المقاومة، وإيران ترى في ذلك تهديداً مباشراً لها، ولبنان يعيش في قلب العاصفة. وبين هذا وذاك، يحاول حزب الله الحفاظ على موقعه من دون الانجرار إلى حرب لا يريدها، ومن دون ترك الاغتيال بلا رد.
المشهد لا يزال مفتوحاً، لكن المؤكد أنّ المرحلة المقبلة ستشهد رسم معادلة جديدة، ربما تكون الأكثر تأثيراً في مستقبل الصراع منذ حرب تموز 2006. الرد ليس سؤالاً “هل؟”، بل سؤال “متى وكيف؟”، وهذا ما تنتظره المنطقة بأكملها.
