إقليميات

هل جاءت زيارة البابا لاوون الرابع عشر لإنهاء الحرب الإسرائيلية على لبنان؟

بقلم زينب عدنان زراقط

فقد انتظرها اللبنانيون باعتبارها مناسبة قد تكسر جدار الصّمت الدولي حيال ما يتعرض له الجنوب من قصف وتهجير وتدمير ممنهج، علّها تُحدث خرقاً في جدار الأزمة أو تُطلق على الأقل صرخة إنسانية توقف نزيف القرى الحدودية. غير أنّ ما أتى لم يكن على مقاس التوقعات. فالزيارة بدت أقرب إلى مرور بروتوكولي فوق ساحة مشتعلة، محاطة بصمت فاتيكانـي محيّر، وغياب غير معتاد للبطريرك الراعي، ما جعلها تشبه مشهداً ناقصاً، يطرح من الأسئلة أكثر مما يقدم من تطمينات أو مواقف.

وعلى عكس البابا فرنسيس – سلف البابا لاوون الرابع عشر – الذي زار العراق عام 2021 وتحدث بصراحة عن معاناة المدنيين في غزة مراراً، بدا الخطاب البابوي الجديد أكثر تحفظاً، وأكثر ميلاً إلى العموميات الأخلاقية منه إلى المواقف الواضحة. هذا التفاوت بين نهجَي الباباوين لم يكن تفصيلاً، بل شكّل أحد عناصر الالتباس التي رافقت الزيارة التي كان يُفترض أن تشكل نقطة تحول في لحظة خطيرة يمر بها لبنان.

هذا الانكفاء فتح الباب أمام تأويلات كثيرة: هل كان هناك تحفظ على شكل الزيارة؟ أم خلاف في المقاربة بين بكركي والفاتيكان؟ أم أنّ اللحظة السياسية المعقدة دفعت الجميع إلى الاكتفاء بالمشهد البروتوكولي دون الدخول في عمق الأزمة؟ كل ذلك جعل الزيارة، التي راهن عليها اللبنانيون لفتح نافذة أمل، تتحول إلى مشهد رمزي ناقص، غير قادر على مواساة شعب يقف على حافة حرب شاملة.

زيارة فوق الجراح والتجاهل الذي كبُر أكثر من الحدث

لم يكن استبعاد الجنوب اللبناني من جدول الزيارة حدثاً عابراً. ففي منطقة تحترق تحت القصف الإسرائيلي المتواصل منذ أشهر، اعتبر السكان أن تجاهل واقعهم يشبه طعنة رمزية، خصوصاً أن التاريخ القريب يقدّم نماذج مناقضة تماماً. فحين زار البابا فرنسيس العراق عام 2021، لم يتردد في الذهاب إلى مناطق كانت حتى وقت قريب تحت سيطرة تنظيم “داعش”، متحمّلاً المخاطر لإيصال رسالة مفادها أن الكنيسة تقف إلى جانب المظلومين والمضطهدين، مهما كانت الظروف. كذلك، لم يتوانَ البابا فرنسيس لاحقاً عن مخاطبة العالم بشأن معاناة المدنيين خلال حرب غزة، داعياً علناً لوقف النار.

أمّا في لبنان، فقد بدا البابا لاوون الرابع عشر وكأنه اختار مسافة آمنة من الجنوب، مكتفياً بزيارات إلى بيروت وبعض المناطق الهادئة نسبياً، ما جعل الزيارة تنأى عن خط الجرح المفتوح. غابت أي دعوة مباشرة لوقف القصف، وغابت الإدانة الصريحة للاعتداءات، بل غابت حتى الإشارة إلى حجم الكارثة الإنسانية في الجنوب. وبهذا، تحوّل الغياب إلى موقف بذاته، ليس لأن البابا تجاهل الوضع وحسب، بل لأن اللبنانيين المعتادين على مواقف فاتيكانية أكثر وضوحاً وجدوا أنفسهم أمام نهج جديد لا يشبه ما عرفوه في المحطات السابقة.

ولم يتوقف الالتباس عند هذا الحد، فغياب البطريرك الراعي عن الواجهة خلال الزيارة أضفى على المشهد مزيداً من الغموض. فالراعي، المعروف بحضوره في الأزمات الوطنية الكبرى، بدا هذه المرة متوارياً عن الساحة الإعلامية والسياسية، ما أثار تساؤلات حول احتمال وجود تباين في المقاربة بين بكركي والفاتيكان، أو تحفظ على شكل الزيارة وبرنامجها، أو ربما حسابات دقيقة فرضت على الطرفين تجنب أي خطوة يمكن أن تثير حساسية سياسية. هكذا، تحوّلت الزيارة إلى حدث رمزي غير مكتمل، عاجز عن منح اللبنانيين ما كانوا يأملونه من تضامن وموقف إنساني مُحقٍّ واضح.

رسالة الجنوب وصمت الفاتيكان وبكركي في لحظة لا تحتمل الصمت

مع تزايد وتيرة الهجمات الإسرائيلية واتساع دائرة النزوح من القرى الجنوبية، قرر حزب الله إرسال رسالة إلى الفاتيكان عبر شخصيات دينية واجتماعية، حملت روايات مباشرة عن حجم المأساة: أمهات فقدن أبناءهن، بيوت تهدمت فوق ساكنيها، بلدات هجّرها القصف بلا رجعة قريبة، وقرى تحوّلت إلى أطلال. كانت الرسالة بمثابة “توثيق للألم” أكثر من كونها خطاباً سياسياً، تهدف إلى دفع الكرسي الرسولي لاتخاذ خطوة عملية واضحة، ولو في الحد الأدنى.

لكن الرد البابوي اقتصر على جملة مقتضبة اقتصرت على: “لا تعليق”، لم تكن العبارة مجرد تحفظ دبلوماسي؛ فقد تلقاها اللبنانيون كنوع من الانسحاب المعنوي من القضية، أو كنوع من الحذر الزائد الذي بدوره بدا منفصلاً عن الواقع. فالفاتيكان سبق له، مع البابا فرنسيس، أن عبّر صراحة عن المظالم في الحرب على غزة، مستعملاً لغة إنسانية واضحة. أما اختيار الصمت هذه المرة، فبدت له دلالات أكثر عمقاً، وكأنه محاولة للهروب من التعقيد اللبناني أو من التوازنات الإقليمية التي يختبئ وراءها بعض الفاعلين الدوليين.

وزاد المشهد تعقيداً أن صمت بكركي ترافق مع صمت الفاتيكان، فبدا اللبنانيون أمام حالة نادرة: المرجعيتان الروحية العليا – المحلية والعالمية – تتجنبان التعليق في لحظة اشتعال. وهذا الصمت المزدوج بدا كأنه يعكس فجوة بين الخطاب الديني الرسمي وبين الشارع اللبناني الذي يعيش تحت الخطر. وقد تحولت هذه الفجوة إلى مادة سجاليه واسعة في الإعلام، حيث تساءل كثيرون: هل الكنيسة فقدت صوتها السياسي؟ أم أنها اختارت الحياد في لحظة لا يحتمل فيها الواقع أي حياد؟ أم أن المواقف تُطبخ خلف الكواليس وفق سياقات دولية لا يعرف عنها اللبنانيون شيئاً بعد؟.

مهما كانت الأسباب، فإن النتيجة الواضحة أن الجنوب لم يجد صدى لألمه، وأن الزيارة لم تنجح في لعب دور الجسر بين معاناة الناس وموقف المرجعيات الدينية.

زيارة بلا خطة والسلم المعلّق بين الرمزية والواقع

على الرغم من أهميتها الرمزية، لم تحمل الزيارة ما يمكن اعتباره خطة أو مبادرة واقعية قد تخفف من حدة التوتر أو توقف الانحدار نحو حرب شاملة. فقد جاءت الخطابات العامة مليئة بالدعوات إلى الوحدة والسلام، لكنها بقيت في إطار المجازات الأخلاقية التي لا تمس جوهر الأزمة اللبنانية. غابت أي آلية واضحة لوقف إطلاق النار، ولم تصدر دعوة محددة لحماية المدنيين أو توفير ممرات إنسانية للنازحين، أو حتى تحرّك دبلوماسي دولي للجم التصعيد على الجبهة الجنوبية.

وبينما كان اللبنانيون يأملون أن يحمل البابا مبادرة على غرار تلك التي أطلقها البابا فرنسيس في مناسبات سابقة، جاءت النتائج دون المستوى. فالزيارة ركزت على مواقع رسمية ومناطق ذات غالبية مسيحية، ما دفع البعض إلى اعتبارها زيارة طائفية أكثر منها زيارة وطنية شاملة. وتحوّل الحدث إلى فعل معنوي محصور ببيانات تضامن، بلا مبادرات عملية ولا التزامات دولية يمكن البناء عليها.

وفي هذا السياق، بدا واضحاً أن أي زيارة رمزية – مهما بلغت أهميتها – لن تكون قادرة وحدها على معالجة جذور الأزمة اللبنانية المعقدة: الصراع الإقليمي الذي يحكم جبهة الجنوب، غياب الدولة القادرة، الانقسام الداخلي الحاد، النفوذ الخارجي المتشابك، والبنية الطائفية التي تجعل من أي مبادرة سياسية مسألة شديدة الحساسية.

وبذلك، بقيت زيارة البابا لاوون الرابع عشر معلّقة بين خطاب روحي جميل وواقع عسكري قاسٍ، بين دعوة للسلام وتجدد للقصف، بين حضور معنوي وشعور شعبي بأن العالم يتفرج على بلد يتهاوى تحت ثقل الصراع.

في نهاية المطاف، لم تكن زيارة البابا حدثاً عادياً، لكنها أيضاً لم ترتقِ إلى مستوى اللحظة التاريخية التي يمر بها لبنان. فقد حملت معها أملاً قصيراً وخيبة طويلة، إذ لم تأتِ بدعوة واضحة لوقف النار، ولا بموقف حاسم ضد الاعتداءات، ولا حتى بلفتة تضامنية مع الجنوب الذي يعيش على حدود الموت. ومع غياب البطريرك الراعي وصمت الفاتيكان، بدا المشهد الديني – السياسي كأنه ينسحب من دوره التقليدي الذي لطالما شكّل جزءاً من هوية لبنان في الأزمات.

هكذا انتهت الزيارة، لا بصدى روحي عميق ولا بإعلان سياسي مؤثر، فكيف يُرجى سلام من عالمٍ يخشى أن يسمّي الظالم ظالماً والمعتدي معتدياً، وماذا لو استمر هذا العالم نفسه في إدارة ظهره للجنوب؟ ألن يُدفع لبنان حينها إلى مواجهة حربٍ مفتوحة لا تنتهي، فقط لأن أحداً لم يمتلك شجاعة المطالبة بإيقافها؟.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *